الملا الدبلوماسي والملا المحارب

انتهى مولد الانتخابات الرئاسية في إيران بفوز شبه متوقع للملا المعمم (حسن روحاني)، لتهلل لهذا الفوز كثير من الدوائر السياسية والإعلامية في الداخل والخارج، باعتباره فوزًا للمعتدلين، وتخفيفًا من نبرة التشدد التي قادها نجاد لثماني سنوات، ونهاية لهيمنة المرشد علي خامنئي على مقاليد السياسة الإيرانية، فرحبت أمريكا وروسيا والصين والدول الأوروبية وبعض الدول العربية، واعتبروا ذلك بداية عهد جديد يمكن فيه التفاهم مع إيران حول برنامجها النووي والأزمة السورية، فهل حقًّا ستشهد إيران بقدوم (روحاني) تغييرًا نوعيًّا في سياساتها الخارجية عامة والإقليمية خاصة؟ أم أن (روحاني) سيكرر تجربة (خاتمي) مع بعض تعديلات تواكب الأحداث؟

تشير نتائج انتخابات الرئاسة الإيرانية إلى أن الرئيس الفائز حسن روحاني يكاد يكون من أقوى رؤساء الجمهورية الإيرانية منذ ثورة 1979، سواء من حيث عدد الأصوات التي نجح في الحصول عليها منذ الجولة الأولى في الانتخابات، أو من حيث توقيت انتخابه، وهو أيضًا بما يحمله من مؤهلات دراسية ودرجات علمية ومهارات دبلوماسية ووظائف سياسية يكاد يكون الأبرز والأخطر أيضًا، فحسن روحاني قد شغل منصب عضو في مجلس الخبراء منذ عام 1999، وعضو في مجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران منذ عام 1991، وعضو المجلس الأعلى للأمن القومي منذ عام 1989، ورئيس مركز البحوث الإستراتيجية منذ عام 1992، کما كان كبير المفاوضين على البرنامج النووي الإيراني مع الاتحاد الأوروبي خلال الفترة من 2003 حتى 2005، وأما بالنسبة إلى دراسته الأكاديمية فقد درس في جامعة طهران في عام 1969، وحصل على درجة البكالوريوس في القانون القضائي في عام 1972...

ثم واصل روحاني دراسته في الغرب وتخرج من جامعة جلاسكو كالدونيان في عام 1995 مع أطروحة الماجستير بعنوان (السلطة التشريعية الإسلامية مع الإشارة إلى التجربة الإيرانية) ثم حصل على درجة الدكتوراه في عام 1999، وله أكثر من 15 مؤلفًا في الأمن القومي والإستراتيجيات الأمنية وغير ذلك من الفكر السياسي، كما أنه يجيد خمس لغات اللغة العربية والإنجليزية والألمانية والفرنسية والروسية، أي أن الرجل سياسي ودبلوماسي وإستراتيجي من العيار الثقيل جدًّا.

الكثير من المحللين يعتبر أن هذا الفوز هو دلالة على تطورات كبيرة في الداخل الإيراني تنذر بموجات تغيير أكبر في النظام الإيراني كله، فقد مثل هذا الفوز انتصارًا كبيرًا للتيار الإصلاحي الذي تعرض رموزه مثل حسين موسوي ومهدي كروبي للاعتقال والتضييق، خلال فترة حكم نجاد، وظن الكثيرون أن هذا التيار قد فقد بريقه وحضوره ولم يعد يقوى على المنافسة السياسية، كما أن فوز روحاني سيؤدي إلى عودة الحكم إلى التكنوقراطيين، كما كان طيلة حكم الرئيسين رفسنجاني وخاتمي..

وهكذا سيسترد التكنوقراطيون مقاليد الحكم والإدارة من الحرس الثوري، ويعيدونه إلى معسكراته التي خرج منها طيلة ثماني سنوات، والأهم من ذلك هو الملف النووي، إذا بدا للعيان وبوضوح أن اختيار روحاني الإصلاحي على حساب المرشحين المحافظين الثلاثة، ومن الجولة الأولى كان بمثابة استفتاء شعبي على مشروع إيران النووي، فبينما كان سعيد جليلي أبرز المرشحين المحافظين مصرًّا على الاستمرار في مسار السياسة النووية التي أدت إلى العقوبات الدولية، انتقد روحاني السياسة المتبعة طيلة حكم نجاد في الموضوع النووي، واتهم جليلي ونجاد بتعطيل عجلة اقتصاد البلاد نتيجة سوء إدارتهما غير الحكيمة للملف، وألقت صحيفة (طهران أمروز) المحافظة اللوم على سعيد جليلي بتحويله الانتخابات إلى استفتاء شعبي حول الملف النووي والإيحاء للغرب بأن السياسة النووية الإيرانية ليست مدعومة إلا من قبل 4 ملايين من الشعب الإيراني، وهي نسبة ما ناله جليلي في الانتخابات.

غير أن طبيعية الدولة الإيرانية وأدواتها السياسية خاصة الخارجية منها هي في حقيقتها أكبر من شخص روحاني وغيره، لا لأن السياسات الخارجية هي في الأساس بيد المرشد وحرسه الثوري، ولكن لأن إيران دائمًا تنظر إلى الحلقة الأضعف في نطاقها الإقليمي، ونعني بها المنطقة العربية ودول الخليج، وتحاول اختراقها على الدوام، وبنت سياساتها الخارجية على هذا الأساس، فإيران تشبه لحد كبير أمريكا في الاتفاق على السياسات الخارجية الموجهة إلى المنطقة العربية أو الشرق أوسطية، فكما أن ثبات السياسة الأمريكية تجاه المنطقة لا يتأثر بقدوم جمهوري أو ديمقراطي، فإن ثبات السياسة الإيرانية تجاه المنطقة أيضًا لا يتأثر بقدوم إصلاحي أو محافظ، فللطرفين أطماع ومصالح ومشاريع ذات نزعات توسعية ثابتة في المنطقة، ومن هذا السياق نستطيع أن نفهم التصريحات الصادمة التي أطلقها روحاني في أول يوم له بعد الانتصار، إذ قال عندما سئل عن رأيه في الأزمة السورية: "يجب أن يكمل الأسد مدته إلى نهايتها أي سنة 2014"، ثم قال لما سئل عن المشروع النووي الإيراني: "ليس من المناسب هذه الأيام الحديث عن وقف تخصيب اليوارنيوم"، فأين إذا هذا التغيير الذي هلل له المهللون في الداخل والخارج؟

حسن روحاني أو الملا الدبلوماسي خرج في الأساس من عباءة النظام، حيث شغل منصب مستشار الأمن القومي الإيراني خلال إدارتي خاتمي ورفسنجاني، وخلال الثماني سنوات الماضية، كان واحدًا من ممثلين اثنين للمرشد في المجلس الأعلى للأمن القومي، وبالتالي قد يكون حريصًا على استمرار الخط العام لسياسات النظام الحالي، وقربه من المرشد قد يجعله أكثر قدرة على التفاهم معه حول مواقف معينة، بالتالي فليس مجيء روحاني للرئاسة بضربة لمكانة المرشد أو هيبته، ولكن مجيئه جاء وفق معطيات ومستجدات دولية وإقليمية وداخلية كثيرة، جعلت روحاني هو الرجل الملائم للمرحلة.

فإيران تعاني مشاكل اجتماعية واقتصادية داخلية متأزمة ومزمنة، والتوترات البينية تهدد الاستقرار الإيراني بقوة، والريال الإيراني يسجل أدنى مستوياته أمام الدولار منذ فترة طويلة، وإقليميًّا مكانة ونفوذ إيران أصبحت على المحك بعد تداعيات الثورة السورية، وذلك بسبب التدخل الإيراني سياسيًّا وعسكريًّا وميدانيًّا في سوريا، مما أنذر بدخول المنطقة أتون حرب طائفية مهما يقال عن استعداد إيران لخوضها، ومهما يقال عن قوتها ونفوذها وامتداد أذرعها داخل دول المنطقة، إلا أن إيران ومشروعها السياسي والأيديولوجي ستكون أكبر الخاسرين في هذه الحرب، ناهيك عن أن إيران قد استطاعت حتى هذه اللحظة فرض رؤيتها السياسية في حل الأزمة السورية، ومعركة القصير حققت لها نجاحات إستراتيجية هامة دعمت به موقف الأسد التفاوضي والميداني، بصورة جعلت الأطراف المعنية بحل الأزمة تدعو النظام السوري لحضور مؤتمر جنيف 2، من أجل حل الأزمة، بالتالي فكان يتعين على إيران أن تمتص الغضب الدولي والإقليمي برئيس من طراز روحاني، دبلوماسي محنك، يجيد فن إطالة أمد المفاوضات، على غرار صانعي السجاد الإيراني الشهير، والذي يمكث صانعوه شهورًا وربما سنوات في صنع سجادة واحدة، رئيس يعمل على تحسين العلاقات الإقليمية والدولية، ويهدئ التوترات المحيطة بإيران من كل جانب، ويحافظ على مكاسب إيران على أرض الواقع، وعلينا أن لا ننسى أن روحاني أحد قادة الفكر الإستراتيجي القومي في إيران، ومتخصص في تحريك وتفعيل مصادر القوة، وهذه يجعله متمكنًا من أدواته على الإطارين الخشن والناعم على حد السواء.

والخلاصة أن روحاني لن يختلف كثيرًا عن نجاد، إلا كما اختلف أوباما عن بوش، فالأهداف واحدة والسياسات الخارجية واحدة، ولكن الوسائل مختلفة والأساليب متلونة، فإيران الثورية ليس لها سوى رئيس روحاني واحد؛ هو الخوميني، ولن تستطيع إيران أن تخرج من عباءته إلا بثورة كبرى تطيح بأفكاره ومبادئه الثورية من جذورها، وسياسات إيران أبدًا لن تتغير ما دامت ولاية الفقيه قائمة فيها، فهذا دين إيران الذي لا يمكن أن تتخلى عنه، كما أن الخوميني هو زعيم الثورة الذي لا يمكن أن تخرج عن مبادئه وأفكاره أبدًا.