لا يكفي جهاد الأمة بدون إصلاح

منذ 2013-07-05

كم نفرح بأن تنطلق الأمة للجهاد وأن تستعد وأن تُعدَّ له, وكم نفرح بالدعوات المنضبطة المنادية للأمة إلى ذلك, فالجهاد ذروة سنام الإسلام وأحد أسس حياة الأمة وإحيائها وتمكينها على أعدائها. وهذه الدعوات بلا شك مما تحتاجه الأمة أشد الاحتياج.

 

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين



ومحِّصِي الدرس من تاريخنا تَجِدِي --- العــــزُّ ما كان إلا كان إيمـــانُ (1)



* كم نفرح بأن تنطلق الأمة للجهاد وأن تستعد وأن تُعدَّ له, وكم نفرح بالدعوات المنضبطة المنادية للأمة إلى ذلك, فالجهاد ذروة سنام الإسلام وأحد أسس حياة الأمة وإحيائها وتمكينها على أعدائها. وهذه الدعوات بلا شك مما تحتاجه الأمة أشد الاحتياج.

ولكن كما تعلمنا من سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم وسلفنا الصالح فإن أهم عامل لتحقيق نصر الأمة عند انطلاقتها للجهاد هو نصرها لله لينصرها ويُعِزُّها, قال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم} الآية (محمد:7), وقال جل وعلا: {وإن تصبــروا وتتقـــوا لا يضركم كيدهم شيئا} (آل عمران:120) . وحال أمتنا الآن-مع إقرارنا بالخير الكبير فيها- لا يتفق مع سنة تحقيق النصر والتمكين خاصة مع كيد وتضليل المفسدين, وفيه بُعد عن الدرجة التي تؤهلنا لحصول وعد الله الذي وعدنا به.

* ومن يحتاج التصحيح ليس فقط المجاهدون الأبطال في الثغور بل الأمة في عمومها, والنصر الذي نقصده ليس النصر في ثغر واحد أو منطقة واحدة, بل المقصود النصر الذي يعيد لكل الأمة عزها وتمكينها واستعادتها هيبتها وقوتها وقدرتها المباشرة على حماية أبنائها المضطهدين في أي مكان وتأديب المعتدين وردعهم من التطاول على الإسلام والمسلمين, والذي يخلصها من الهيمنة والتبعية لأعداء الدين والخوف منهم وعدم القدرة على مواجهتهم ومواجهة مكرهم. ومعاصي الأمة حتى في غير الثغور هي مما يؤخر نصر أمتنا في جهادها وفي مكافحتها لأعدائها, سواءً بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. وإدراك هذا مهم جداً حتى لا نُحمِّل المجاهدين الصامدين والشعوب التي ضحت وحدهم فقط مسؤولية تأخير النصر عليهم.

قال العلامة ابن باز رحمه الله في رسالة "أسباب نصر الله للمؤمنين على أعدائهم" : (فالواجب على أهل الإيمان في جهادهم وفي سائر شؤونهم ان يأخذوا بأسباب النصر ويستمسكوا بها في كل مكان, في المسجد وفي البيت وفي الطريق وفي لقاء الأعداء وفي جميع الأحوال, فعلى المؤمنين أن يلتزموا بأمر الله, وأن ينصحوا لله ولعباده, وأن يحذروا المعاصي التي هي من أسباب الخذلان).

وكتب الأستاذ منير سعيد في كتابٍ له عن الانتفاضة الفلسطينية: (إذا كانت الانتفاضة المباركة تمثل أمل الأمة في التحرير والنصر فإنهـــــا لا يمكن أن تُوصِل إلى النصر إلا إذا تضافرت معها جهود الأمة كاملة, ولكــــــن أمة الإسلام اليوم تعيش واقعا بعيداً كل البعد عن مقومات النصر وأسبابه مما يتطلب منها أن تعيد النظر في هذا الواقع بما يكفل لها تحقيق الشرط الرباني في تحقيق النصر).

* إننا نحتاج جداً عند دعوتنا الأمة للجهاد أن نبين لها بوضوح سبيل تحقيق النصر فيه, وأن نُعَــــــدَّ له بأهم عدة وهي العدة الإيمانية, وبإبعاد مجتمعاتنا عن ما لا يرضاه الله ويؤخر النصر, وبمحاربة المنكرات وإيقافها. بــل حتى لو فرضنا حصول نصر شامل وعودة تمكين بدون تصحيح الأمة أوضاعها وعودتها إلى التطبيق الحق لشرع الله وأوامر الدين فهل يرضي الله مثل هذا الواقع؟!, وهل مثل هذا الواقع يتحقق فيه الهدف الأعلى والأهم للجهاد وهو حفظ الدين وإقامته؟ (2).

وأعود وأؤكد ان هذا ليس أبدا تخذيلاً عن الدعوة للجهاد التي تحتاجها الأمة أشد الاحتياج, بل هذا دعم لها, ودعوة لانطلاقة أكبر في الأمة للجهاد ودعم لتحقيق النصر الشامل للأمة فيه بإذن الله؛ "العودة مَوقد شعلة الجهاد وسِرُّ انتصاره". وبلا شكٍ فإن من أهم ما أخر انطلاقة وانبعاث الجهاد في أمتنا هو الذنوب والأوضاع التي لا ترضي الله, فأخرت الخير للأمة ومن الأمة في كثير من الأمور.

* وجوانب التقصير في أمتنا في عصرنا الحاضر لا زالت عديدة وفي جوانب مختلفة, وتشمل انحرافات سلوكية وفكرية وعقدية وتعبدية. وهذه المعاصي هي التي أدت إلــــــى الذل والهوان والخذلان والأوضاع الخاضعة الخانعة وسيطرة الأعداء التي نعيشها في واقعنا الحاضر. ومن أكثر المنكرات انتشاراً والتي يظهر فيها بوضوح عدم تطبيق أوامر الشرع وانتهاك حدوده, ويظهر فيها الإصرار المستمر والمجاهرة العظيمة لرب العالمين بما لا يرضاه سبحانه هو منكرات وسائل الإعلام والقنوات التي تجاهر الله بالذنوب والمحرمات بل بالطامات مما لا يجيزه الدين ليلاً ونهاراً بلا خجل ولا خوف من العظيم سبحانه الذي يغار أن تنتهك أوامره وحدوده. ويساهم في منكراتها بالاطلاع عليها ومتابعتها مئات الملايين من أمة الإسلام. هذا عدا أثر ما تنشره في إفساد شباب المسلمين وتحبيب المجون والعلاقات المحرمة لهم, وعدا أثرها في إشغالهم بسفاسف الأمور عن حياة الجادة والجد والاجتهاد.

وحتى لا يقال أين الحديث عن التأخر التقني والعسكري للأمة؟! فهذا التأخر فيه هــــــو أحد جوانب الذنوب والتقصير بلا شك, وأيضــــاً لنتذكر أن أمتنا أمة الرسالة والحق اقتضت سنة الله الحكيم أنه لا نصر ولا عز لها إن عصت الله, حتى لو كانت من أكثر الدول تقدماً وقوةً من النواحي المادية.

ولا شك في وجود ظلم وجور وأكل لحقوق الناس وتقصير لأداء الأمانات والأعمال في مجتمعاتنا, وهذه من جوانب التقصير الهامة في أمتنا, ولكن رُكِّزَ على منكرات الإعلام لانتشارها الأكبر وللغفلة التي تحصل بشكل أكبر في جانبها, حتى أنه مع التضليل والتمييع لأوامر الدين الذي تعيشه الأمة في هذا الجانب أصبح كثير من المسلمين لا يشعرون بحرمة رؤية ومتابعة الكثير من الحرام الذي يعرض في هذه الوسائل.

* ومن التاريخ تستلهم العبر؛ فصلاح الدين الذي حرر القدس وأعاد عزة المسلمين في ذلك الوقت انتصر بعد أن صلح وأصلح, بل صلاح الدين نفسه كان أحد ثمار المنهج الإصلاحي الذي سبقه ونتج عنه قادة عظام مثل نورالدين زنكي و صلاح الدين. ودولة المرابطين -التي منها القائد العظيم المجاهد الفذ بطل معركة الزلاقة يوسف بن تاشفين- كانت دولة صلاحٍ وأَخْذٍ بأسباب التمكين فعزت بها الأمة وكان من آثارها حفظ ملك المسلمين لقرون أخرى عديدة للأندلس بعد أن كادت ان تسقط قبل معركة الزلاقة.

* جانب آخر نحتاج أن نتبصرُهُ وهو أن انتبهانا لعيوبنا وتركيز الحديث على إصلاحها وتبيين خطر من يوجهنا للمعاصي ويحببها لنا أهــــــــم من التركيز والحديث عن الأعداء وكيدهم وشرهم ومكرهم, وكلا الأمران مهمان بلا شك. وهذا يتبين من مثل قول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لقادته: (إن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك بــــأن تكونوا أشـــد احتراسـاً من المعاصي منكم مـن عدوكم). وعلينا دائما أن نلوم تقصيرنا الذي أدى لذلنا وتمكين الأعداء قبل أن نلوم الأعداء, وحتى لا نكون وكأننا نهرب أو نقلل من مسؤوليتنا -وبالذات من ضيعوا المسلمين- عن الواقع المؤلم الذي تعيشه أمتنا.

قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(النور:55)

وقال سبحانه ووعده الحق : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (الأنبياء:105-106).

اللهم ردنا إليك ردا جميلا, وأبرم لأمتنا أمر رشدٍ يعود فيه عزها ومجدها, ونعود فيه قادةً وسادةً للعالم بفضلك يا أكرم الأكرمين.

د مهدي قاضي



-----------------------------------
(1) للشاعر أحمد الجيتاوي
(2) حبذا الرجوع لرسالة الدكتوراة الثمينة "أهمية الجهاد" للدكتور علي العلياني.



صيد الفوائد
 

  • 4
  • 0
  • 5,106

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً