المريضة التي عالجتني
قالت لي والدمعة تسبق كلماتها: وكأنّ الله قد
أمرضها
لتهديني!
قلتُ: الهداية بيدِ الإله أخية.
قالت: في الوقت الذي كانت فيه تتألّم، ويرتفع
ضغطها ويهبط فجأة؛ كانت كل
قطعةٍ فيّ تضطرب، يصلُ الرعب مني منتهاه، يهبط ضغطي ويصعد، وتحمرّ منّي العينين،
أضطّربُ في الممرّ، كنتُ حديثة عهدٍ بتمريض الحالات المزمِنَة..
كانت تدهشني نظراتها الدافئة من خلف قناع الأكسجين، كلها اطمئنان، لا أذكر
أنني سمعتها تتألّم بصوتٍ مرتفع، كل ما أتذكّرهُ من صورتها كيف كانت تربتُ على يدي
بحنو كلما أحسَّتْ فيها اضطراباً وأنا أحاول تعديل أي من الأنابيب الداخلة
والخارجة من جسمها، وكيف كانت تتحامَل على نفسها لتذهب للمتَوَضَّأ مرتكزَةً على الإطار
الحامل ذي العجلات، طالبةً منّي أن أساعدها في سحب قاعدة المغذّي في الممَرّ، ولا
تطمئن إلا إذا تأكّدت من أدائنا الصلاة.
كان يزدادُ تعجّبي عندما أراها تذكّرني وتذكّر زميلاتي
بإغلاق الستائر على
المريضات الأخريات عند مرور الفريق الطبي في جولتهِ الصباحية
على المرضى، لا
أنسى كيف كانت تحرص على أن تكون مستيقظة قبل الجولة الصباحية
للأطباء حتى تتمكّن
من سترِ نفسها جيداً.
ما أحضر لها الزوّار شيئاً ولا أهدوها أمراً؛ إلا وأشركت فيه جميع
العاملين في الجناح، كانت تتلطّف معنا في العبارة مهما أخطأنا أو أتينا بما لا يسرّ،
أكره ما كانت تكره أن نفتح التلفاز في الجناح، وكانت تخفض صوت إذاعة القرآن حتى لا
تُزعج من حولها من مريضات نائمات.
نما شعورٌ غريبٌ في قلبي تجاهها، أحسستُ نحوها بالحبّ،
وجهٌ يشعّ منه الصدق، وقلبٌ يسع الكل، ولسانٌ لم أسمع منه إلا ذكر الرب، كلما هممتُ
بأمر تذكّرتُ ابتسامتها الحانية وهي تذكّرني بالبسملة قبل أن آخذ منها العيّنة،
وكلما مررتُ بذلك الباب، باب حجرتها، تذكّرت ذلك المشهد الأخير، في يوم العملية
الجراحية التي كانت مقرّرة لها.
كانت على السرير، وكنّا نقطع الجناح، ونعبر الممرّ،
لنذهب إلى المصعد، حتى ننزل لغرفة العمليات، كانت تشد يدي،
وتسألني بالله أن أتأكّد أن كل جسمها مغطىً ولا يظهر منها شيء، كانت تردّد: "اللهم استر
عوراتي، وآمن روعاتي".
كان هذا آخر عهدي بها، بعدها لم تعد إلى الجناح، أظلمت
الدنيا في عيني، وكأنّ قطعةً من جسدي فُصِلَت، وكأن ألف لترِ دمٍ من طُحالي ونخاع
عظمي سُحِب. جاء ابنها في الغد ليأخذ متعلّقات والدته من حجرتها، علاماتُ الحزن
عليه ظاهرة، ساعدناهُ في جمع متعلّقاتها، ومازالت آياتُ الفجيعة عليّ بادية، انكفأتُ
باكية وأنا أضع في الحقيبةِ مذياعها الطيب.
ولمّا كان من الغد، عادَ ابنها من جديد، وخلفهُ مرافق،
يحملون كراتين كثيرة، وأكياس، يضعها أمامنا في قاعدة
التمريض، يقول: هذه لكم، من الوالدة، قبل أيام أوصت أن نجهّزها لكم لتعطيكم إياها،
وهاهي قد ماتت رحمها الله، وأمانتها لكم قد وصلت.
كانت هدايا رائعة، تحف صغيرة راقية، مع رسالة رقيقة
مذيّلة باسمها تشكرنا فيها على حُسن عنايتنا بها وبالمرضى،
ومعها كتيبات وأشرطة دعوية باللغة العربية وأخرى بلغات زميلاتي.
على الرغم من امتلاء جناحنا بهذه الكتب والأشرطة والمجلات الإسلامية،
التي يحضرها مرضانا للأجنحة والعيادات؛ إلا أننا لم نسمعها، ولا أدري ما الذي جذبنا
لنسمع هذه بالذات، ونقرأ تلك بالتحديد، ربما احتراماً لهذه المرأة الحديدية،
التي تغلّبَت على آلامها، و حافظت رغم قسوة ظروفها الصحية على فروض دينها، وأطفأت
تعبنا وعملنا الشاق بابتسامة حانية ومعاملةٍ حسنةٍ طيبة.
أحببتُ الاستقامة من خلالها، أحببتُ البشاشة في
تعاملها، أحببتُ صبرها وثباتها، أحببتُ سترها وعفافها، أعترف، كنتُ
لا أحرص على حجابي، وكنتُ أتباسط كثيراً في حديثي مع بعض الزملاء، كنتُ أجمع
الصلوات وأؤخّرها، وأحياناً كثيرة أغضب ممن ينصحني وألقي ما يعطيني من شريطٍ أو
كتاب.
كنتُ أستحي من نفسي أمامها، وأخجل من ضآلتي أمام صبرها والتزامها، في
أسابيع مُكثها معنا تحوّلت همّتي إلى همّةٍ أخرى، إلى عزيمةٍ وعمل، كنتُ أتمنّى أن
أبشرها، وتفرح عينها بعودتي إلى الحق.
لكن حين جاءني خبر توقّف قلبها؛ حلّقتُ في أفق الخشوع وقد
شرَقْتُ بدمعتي، وتركتُ أوصالي يجول بها ارتعاد الخشيةِ، وبدأتُ أبكي
مثل طفلٍ خائفٍ في الظلمةِ، كأنّي بها أمامي.....، وسكتَت محدّثتي.
ما أعظم هذا الدين!
حتى المريض وجد مكاناً له بين الدُعاة، نعم، المريض الداعية،
بابتسامته، ببشاشته، بصبره، وتحمّله، بتذكيره، ووعظه، كل السلف وأفراد الأمّة
الصالحين الأُوَل كانوا دعاةً في المرض، وعلى فراش الموت.
ما أعظم هذا الدين!
في أحلك الظروف وأصعب المواقف، ومهما كانت حالة الإنسان، فإنه
لا يمكن أن يشعر بالضعف أبداً، لا يمكن أن يشعر بقلة أهميته، بأنه عالة على
المجتمع.
ما أعظم هذا الدين!
حتى المريض، حتى العاجز والضرير، حتى الأصم والأبكم والكسير،
يمكنه أداء هذه الوظيفة. وظيفة لا تعرف توقيعاً للحضور ولا الغياب، لا تعرف مكافأةً
ولا ترقيةً دنيوية، لا تعرف ليلاً أو نهاراً، لا تعرف مناوبَةً ولا استلاماً، لا
تعرفُ سليماً أو ضريراً، وظيفة تُشعر المرء بالسمُوّ، بالعلُوّ،
بالسعادة، وبالتوازن في الحياة.
ما أعظم هذا الدين!
هذه الوظيفة، وظيفة الدعوة إلى الله، في كل مكان، وأي زمان،
وعلى أيّ حال، بكلامٍ أو بصمت، في غربٍ أو شرق، في مستشفاً أو سوق، في مدرسة أو
بيت، في وزارة أو حتى طائرة وسيّارة.
ما أعظم هذا الدين!
إنها دعوة لا تعرف الحدود، إنها دعوة بلا حدود، صاحبها
ذلك المسلم الموحّد، الذي يملك جناناً متقداً بحب الخير،
وحماسة للعمل لهذا الدين لا حدود لها.
ما أعظم هذا الدين!
وما أكسل البعض أمام هذه الوظيفة الشاغرة، وما
أعجزه عن تحقيق خيريته
المكفولة بأمرنا بكل معروف ونهينا عن كل منكر، وما أعجب حال
من يدعون قلة علمهم الشرعي
أو بعض المخالفات التي يحملونها عائقاً لهم عن سلك هذا الطريق.
ما أعظم هذا الدين!
وعد بالحسنى والزيادة،{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى
وَزِيَادَةٌ} ، والإحسان في القدوة أعظم وسيلة دعوية
صامتة ومتحدثة،
قائمة وقاعدة، ساكنة ومتحركة، يطيقها الصحيح والمريض، فعجباً لمن عجز
عن استغلالها؟!!
- التصنيف: