مقاتلون من نوع آخر..
ملفات متنوعة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
لم يواجه جيش الاحتلال الإسرائيلي من قبل مشكلة مثل تلك التي تمثلت في
ظهور جيل مقاتل شرس لا يأبه بالأهوال، ولا يهتم بما أشيع عن القوة
الإسرائيلية التي لا تقهر، ولا يبالي بالجيوش المدججة التي أعدت لقهره
وسحقه، ولا يلتفت إلى تلك الدعوات الجبانة للتعقل واللجوء إلى البديل
الأسلم -بنظرهم- ألا وهو التفاوض تحت شعار السلام.. بل يتحدى بصدور
شبابه المتعطش للشهادة، وسواعد أطفاله التي لا تكل عن رجم الحجارة
والزجاجات الحارقة، وإرادة وعناد شيوخه في دعم المسيرة ودفعها بقوة
نحو الأتون، ودعوات وابتهالات نسائه وصبرهن على البلايا والنكبات،
وفرحهن باستشهاد الآباء والأبناء والإخوة في معركة المجد والعزة،
يتحدى بكل هؤلاء قذائف المدفعية وصواريخ الراجمات والطائرات، ولهب
الألغام والقذائف والمتفجرات، مؤثراً الآخرة على الدنيا، ومفضلاً
الموت بكرامة ورفعة على الحياة بذل ومهانة.
لم يكن مستغرباً ظهور هذا الجيل الذي يُعد بحق فاجعةً كبرى لليهود،
وصاعقة قوضت آمالهم، وحطمت شعورهم بالاستقرار والطمأنينة، وذلك بحكم
اعتقادهم بل إيمانهم الجازم بأن فناءهم وزوال دولتهم سيكون في آخر
الزمان على أيدي أولي البأس الذين ذكرهم الله تعالى في سورة سميت
باسمهم، سورة بني إسرائيل: الإسراء؛ حيث إنها حقيقة جحدوا بها،
واستيقنتها أنفسهم، وربما يلاحظ القارئ ذلك جلياً واضحاً عند الوقوف
على تصريحات زعمائهم وكبار مفكريهم التي امتلأت بها صحفهم في السنوات
الأخيرة.
ففي هذا الإطار استضاف راديو تل أبيب يوم الأحد 21-أكتوبر 2000م
عدداً من مفكري وكتاب اليهود الكبار في ندوة عن الانتفاضة، وكان من
بينهم "بنتسيون نتنياهو" والد الرئيس السابق، والذي قال معلقاً على
مجريات أحداث الانتفاضة: "إذا تركنا السيف فسنذبح كما حدث يوماً،
انظروا إلى الفتية الفلسطينيين وهم يواجهون بصدورهم الموت، هؤلاء
يريدوننا أن نغيب عن خارطة الشرق الأوسط، لماذا لا يجرؤ منافقو اليسار
على الاعتراف أن كل رهاناتهم على السلام مع العرب قد ثبت أنها لاتستند
إلى الواقع، ها هو السلام الذي بشرونا به ينهار في لحظة عين، والآن
يأتي بعضهم ويقر بخطئه..".
وهذا الجيل مهّد له أبطال المقاومة الذين زلزلوا الكيان الإسرائيلي
بعملياتهم النوعية، وحيروا الأجهزة الأمنية بجرأتهم وشجاعتهم في
المواجهة، فهذا هو الجنرال الإسرائيلي شموئيل غورين القائد العسكري
السابق للضفة الغربية يتكلم عن أحد المجاهدين الأبطال وقد تملكته
الحيرة والدهشة لشجاعته فيقول: "لم يكن حامد يغمور هو الوحيد الذي رفض
الاستسلام بالرغم من أنه يعلم أنه لن يخرج من البيت حياً، كان جميع
مقاتلي الجناح العسكري لحركة حماس يفضلون المقاومة حتى الموت على
الاستسلام، إنه لأمر غريب وعجيب أن يبدي مقاتلو حماس هذه الإرادة
القوية والعناد الكبير عندما يحاصرون بالدبابات والجنود، وتحلق
الطائرات فوق رؤوسهم، ومع ذلك لايستسلمون، وإنه حقاً لشيءٌ يثير
الإعجاب أن يقاوم مقاتل، ويصمد لأكثر من (12) ساعة في مواجهة مئات
الجنود المزودين بأحدث الأسلحة والمعدات"، ويضيف: "لقد تحول هؤلاء
المقاتلون إلى أسطورة في نظر قادة الجيش وجهاز الشاباك، بل لقد اهتزت
المعنويات في صفوف الجنود لليأس من القضاء على هؤلاء؛ إذ إن مهمة
البحث عما يقارب عشرين مطارداً من حماس تتطلب أكثر من 3000 جندي
بالإضافة إلى المجهودات التي يستثمرها جهاز المخابرات وعملاؤه في جمع
المعلومات الاستخبارية عنهم" (1).
ومن الأمثلة على ذلك ما قام به المجاهد خليل أبو علبة (35 عاماً)
الذي قاد باصاً في مستوطنة (حيلون) بالقرب من تل أبيب، وهاجم به
تجمعاً للجنود عند إحدى المحطات، مما أدى إلى مقتل (10) من الجنود،
وجرح (20) آخرين.
ولدى محاكمته يوم 16-3-2001م وقف بإباء وأعلن أنه غير نادمٍ على دهس
الصهاينة المحتلين، وأضاف: "إنه أراد أن يقتص لموت أكثر من ثلاثمائة
فلسطيني منذ بدء الانتفاضة ضد الإسرائيليين".
وصرح للصحفيين في المحكمة بأنه غير آسف على فعلته، بل يفتخر بها؛ لأن
الصهاينة يقتلون الفلسطينيين كل يوم. هذا وقد تم الحكم عليه بالسجن
لمدة 220 سنة.
ومن الأمثلة أيضاً: عملية تل أبيب التي وقعت يوم الأحد 21-5-1422ه
بالقرب من وزارة الدفاع الصهيونية في تل أبيب، حيث أثارت قلقاً كبيراً
لدى الأوساط الأمنية والاستخبارية الصهيونية، وذلك حول كيفية تمكّن
منفذ العملية "علي الجولاني" من الوصول إلى وسط تل أبيب وقرب مقر
وزارة الدفاع, وإطلاق النار على مجموعة من العسكريين؛ حيث نجح في قتل
اثنين وإصابة عشرة جنود ومستوطن واحد بجروح مختلفة بالرغم من الانتشار
المكثف لقوات الأمن والشرطة والجيش الصهيوني في عموم الدولة العبرية،
لا سيما في تل أبيب والقدس العربية المحتلة. وفي أعقاب هذه العملية
أكد المفتش العام للشرطة الصهيونية الجنرال (شلومو اهرونشكي) على وجوب
تشديد الحراسة قرب معسكرات الجيش، وفي الأماكن التي يكون فيها جنود،
كون هذه الأماكن تعد هدفاً لمنفذي العمليات الفلسطينيين.
أشد صلابة من الجبال
أفرزت انتفاضة الأقصى صوراً أخرى للتضحية تدل على مدى الصلابة التي
تحلى بها كثيرون ممن عاشوا أحداث الانتفاضة، وتظهر ميزة التحمل
والثبات والقدرة على المواصلة بالرغم من الجراح العميقة والآلام
المبرحة..
وبمتابعة أحداث الانتفاضة نجد أمثلة رائعة في الصبر والصمود، ونمرّ
على كثير من المصابين فنلمس الاطمئنان والرضا، ونحس بالمعنويات
العالية، بالرغم من أن البعض من المصابين ستبقى جراحاتهم شاهدة وللأبد
على مدى الوحشية التي تعامل بها جنود الاحتلال وآلياتهم العسكرية
وطائراتهم الحربية مع المدنيين العزل.
وفي هذا الجانب سنجد الكثيرين من الجرحى قد عادوا مرة أخرى بل مرات
إلى موقع المواجهة، متجاوزين الآلام التي يشعرون بها؛ وذلك للتعبير عن
مشاعر الرغبة في مواصلة الجهاد والصمود أمام آلة القهر الصهيوني
المدمرة . إلا أن آخرين لم يستطيعوا ذلك مع تمنيهم له؛ لأن إصاباتهم
أحدثت في أجسادهم إعاقات دائمة أعجزتهم عن النهوض من جديد، فمنهم من
قطعت بعض أطرافه، وآخرون فقدوا أبصارهم، وهناك من شلت حركتهم إلى
الأبد.
ومن هذه الصور التي يتقطع لها القلب ما يلي:
صخر خلف (21عاماً) من مخيم البريج شابٌ عشق الانتفاضة، وكان من
نشطائها البارزين..
أراد ذات يوم أن يتزوج، فعمل بجد، وعانى شقاء العمل في مهنة
(البناء)، وكغيره من الشبان المقبلين على الزواج حلم ببيت صغير وزوجة
وأولاد؛ ولذلك اختار زوجة طيبة متدينة، حيث قام بخطبتها، وبدأ يعد
العدة لحفل الزفاف..
وبعد عقد قرانه، قامت خطيبته بزيارة لأهله، وتناولت معهم طعام الغداء
وسط أجواء من السعادة الغامرة، وفي ساعات المساء رافق صخر خطيبته
لإيصالها إلى بيت أهلها في مخيم جباليا، وصحب معه ابن عمه يوسف الذي
خشي عليه من مخاطر الطريق، وقبل أن تصل بهم السيارة إلى مفترق الشهداء
"نتساريم" اضطروا للنزول منها لأنها لا تستطيع العبور بسبب المواجهات
العنيفة عند المفترق، وعندما تقدم صخر وابن عمه يوسف إلى الأمام
قليلاً ليبحثا عن وسيلة مواصلات أخرى إذا بطائرة حربية إسرائيلية تطلق
عليهما قذيفة فتصيبهما بشكل مباشر وبصورة مروعة..
على إثر ذلك نقلا إلى مستشفى الشفاء بغزة، وكانت النتيجة أن يوسف
أصيب في رأسه إصابة قاتلة توفي على إثرها بعد أسبوع، وأما صخر فقد
حُول إلى مستشفى (إيخلوف) بتل أبيب، وتم هناك بتر ساقيه من فوق مفصل
الركبة.
وبالرغم من مصيبته هذه فقد ظل صخر يلهج بذكر الله، ويعبر عن الرضى
بما أصابه؛ حيث عرف عنه الالتزام والصلاح وحب الجهاد، كما كان من أنشط
شباب الانتفاضة، وقد تعرض للاعتقال من قبل جنود الاحتلال أكثر من مرة،
وكانوا يتركونه بعد ذلك لصغر سنه.
قال صخر واصفاً حالته بأنه ما زال يشعر بآلام حادة في جميع أنحاء
جسده؛ لأن العديد من الشظايا لازالت موجودة في أماكن متعددة فيه، وأشد
الآلام التي كان يعاني منها في هذه اللحظات هي في المنطقة التي تم بتر
الساقين من عندها.
وقال بنبرة مختنقة متحدثاً عن مستقبله: كنت أحاول أن أعيش حياة
طبيعية كباقي البشر، وأن أتزوج وأدخل السرور على والديّ، ولكن.. انتهى
كل شيء.
ومن الصور التي تدل على الصلابة والتحمل ما حصل لزياد بركة (16عاماً)
من دير البلح، والذي تم نقله إلى المملكة العربية السعودية مع أربعة
جرحى آخرين لمتابعة علاجه، حيث بترت يده اليمنى، وفقد عينيه الاثنتين
نتيجة انفجار جسم مشبوه في المصنع المجاور للموقع الإسرائيلي على مفرق
الشهداء (نتساريم). يقول أحد أقربائه: "إن زياداً من أنشط إخوانه في
خوض المواجهات، وإن الذي دفعه للذهاب إلى منطقة نتساريم من الساعة
العاشرة صباحاً هو حب الشهادة بالرغم من صغر
سنه".
فزياد الذي كان يلقي الحجارة من داخل المصنع مع أربعة شبان آخرين على
الموقع الإسرائيلي طار في الهواء فجأة وارتطم بالأرض ثانية في مشهد
مأساوي سريع .
وقد حدث الانفجار نتيجة قذيفة موقوتة من نوع (أنيرجا)..
وماذا بعد..؟
بعد هذا العرض لأمثلة من صور البطولة والفداء التي أفرزتها انتفاضة الأقصى نصل إلى حقيقة مهمة في الصراع مع اليهود ينبغي الوقوف عندها وتأملها..
إن الانتفاضة بوجه اليهود جاءت نتيجة تراكمات صقلت الشعب الفلسطيني،
ووضحت له الوجهة التي ينبغي أن يسير عليها، وحددت له المسار الذي من
خلاله يمكن تحقيق كثير من الأهداف في معادلة الصراع مع الصهاينة
المحتلين.
إن عملية السلام التي توهم كثيرون تحقيقها مع العدو الألد احتضرت
وماتت بعدما انكشفت على حقيقتها خلال أحداث الانتفاضة الباسلة..
ومن هنا ندرك أهمية القوة وضرورة اللجوء إليها لإحقاق الحق وإبطال
الباطل..
وفي هذا الإطار نقف على تحليل للصحفي الإسرائيلي (جدعون ليفي) الذي
أشار إلى هذه الحقيقة من خلال مقال تحليلي له نشرته صحيفة (هآرتس)
الإسرائيلية، حيث خلص فيه إلى أن إسرائيل علمت العرب أن الطريقة
الوحيدة للتفاهم معها هي (لغة القوة) .
وفي ثنايا تحليله جاء ما يلي: "لقد قيل على الدوام في صفوفنا: "إن
العرب لا يفهمون إلا القوة وحدها".. ولكن تبين لاحقاً أن القوة هي
لغتنا الوحيدة الرسمية، حتى وإن كان القادة الإسرائيليون قد حرصوا على
الدوام على تأكيد أن العرب لن يجنوا أي شيء عن طريق القوة. ولنتذكر
على سبيل المثال التصريحات التي أدلى بها وزير الدفاع الإسرائيلي
وقتذاك إسحاق رابين في ذروة الانتفاضة من أن الفلسطينيين لن يحققوا
شيئاً بالحجارة، والواقع أنه لم يتحقق منذ العصر الحجري كل هذا
الإنجاز كالذي حققه الفلسطينيون بالحجارة.
ويتكلم عن مشاركة الفلسطينيين في المنطقة المحتلة عام (1948م)،
فيقول: "ولكن من الذي بوسعه أن يشير إلى طريق آخر مفتوح أمام خمس سكان
إسرائيل -فلسطينيي هذه الدولة- بعد (25) عاماً من التمييز والإذلال؟
الآن على الأقل شكلت لجنة للنظر في الأمر، وبعد هبة عنفهم المقبلة
والتي ستكون بالتأكيد أشد احتداماً وأكثر إيلاماً، فإن دولة إسرائيل
ستتذكر أنه كان يتعين القيام بالمزيد، ومن المؤكد أنه لا يمكن القول
إنهم لم يجربوا أولاً طرقاً بعيدة عن العنف، حيث تمتد (25) عاماً من
الولاء المثالي والمبالغ فيه تقريباً من جانب عرب إسرائيل والطاعة
لدولة ليست حروبها بحروبهم، ولا نشيدها الوطني بنشيدهم، ولا لغتها
بلغتهم، ولا عطلاتها بعطلاتهم، وعلى الرغم من هذا كله فإنها تعاملهم
على هذا النحو.
الآن هاهم شبابهم يخرجون إلى الشوارع، وينطلقون إلى رحاب العنف،
ويعود عليهم ذلك بالفائدة، وهم يعرفون أنهم لن يحصلوا على شيء من دون
هذا العنف. والآن هاهم أيضاً يبرهنون مثلما برهن إخوانهم في غزة
والضفة أن إسرائيل القوية هي التي لاتحقق شيئاً عن طريق
القوة".
والخلاصة التي نصل إليها هي أن هذه الحقيقة ستؤدي إلى استمرارية
الصراع، وتطور أشكاله، وربما امتداده إلى آفاق أخرى لا يتوقعها الكيان
الصهيوني، وبالتالي ستكون صور البطولة والشجاعة في هذا الصراع وقوداً
دافعاً يحث على مواصلة المواجهة والعمل من أجل تحقيق هدف التحرير
النهائي دون كلل.
--------------
*مصادر للاستزادة :
1- http//www.moh.gov.ps/arabic/story/file19.html
(من قصص الشهداء).
2- www.wezara.50g.com
3 http//www.sabiroon.net/Alquds/Reportalqsa.htm
(من روايات أبطال معركة الأقصى ).
*الهوامش:1 غسان دوعر، المهندس ص166-167 - منشورات فلسطين المسلمة -
ط2 : 1997م.