حقيقة ليلى بن علي التي تحتاج إلى حقيقة!
ياسمينة صالح
لا يختلف اثنان ممن قرأوا كتاب "ليلى بن علي" (حقيقتي)، من أن الحقيقة ليست حاضرة، على الأقل بالقدر الذي أرادت أن توهمنا به، هذا لأن حقيقتها في الأول والأخير تظل محل شك، ليس لأنها تفتقد مصداقيتها فحسب، بل لأنها هي نفسها ساهمت طوال أكثر من عشرين سنة في إخفاء الحقيقة عن التونسيين، وفي صناعة "مؤسسة" سياسية اسمها النظام، له ظاهره المبهرج وباطنه المعفن.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
لا يختلف اثنان ممن قرأوا كتاب "ليلى بن علي" (حقيقتي)، من أن الحقيقة ليست حاضرة، على الأقل بالقدر الذي أرادت أن توهمنا به، هذا لأن حقيقتها في الأول والأخير تظل محل شك، ليس لأنها تفتقد مصداقيتها فحسب، بل لأنها هي نفسها ساهمت طوال أكثر من عشرين سنة في إخفاء الحقيقة عن التونسيين، وفي صناعة "مؤسسة" سياسية اسمها النظام، له ظاهره المبهرج وباطنه المعفن.
هي التي نسيت طوال سنوات شيء اسمه: المنطق، أو ببساطة: الحساب، معتقدة أنها القادرة الوحيدة -طالما هي السيدة الأولى- على معاقبة وحاسبة الآخرين، بيد أن الآخر كان بكل بساطة شعبها!
حقيقتها المنقوصة!
تحاول ليلى بن علي الحديث عن المؤامرة التي تعرض لها نظام بن علي، وهي في كل سطر من سطور الكتاب لا تتكلم ولو من باب التواضع، عن ماهية النظام التي تأسس في تونس بعد وصول زين "الهاربين" بن علي إلى الحكم.
لم تحك كيف حدث الانقلاب "الأبيض" على مؤسسات الدولة، وعلى قيمها أيضاً، أكثر مما كان عليه في زمن الحبيب بورقيبة المعروف بعلمانيته المطلقة، والتي أراد من خلالها صناعة "تونس الأوروبية" ضارباً بعرض الحائط الواقع الجغرافي، والفكري والثقافي والديني لدولة صغيرة الحجم وكبيرة في الانتماء والتضحيات مثل تونس.
وصول بن علي إلى الحكم كان "انقلاباً" أبيض، على الرغم من النسخة الرسمية التي تسرد طريقة الوصول على أكتاف الشعب، ذلك الشعب الذي غيّب بشكل كبير وسافر عن الواجهة السياسية ليبقى بن علي، وزوجته، وعائلتهما، والمؤسسة الأمنية التي عاثت في البلد فساداً على مدار أكثر من عشرين سنة.
هذه التفاصيل رغم أهميتها وقيمتها الكبيرتين، لم تتناولهما ليلى بن علي في سياق حديثها عن "المؤامرة" التي تعرضت إليها هي وزوجها؛ لم تتحدث عن وضع الشعب تحت سلطة بن علي، ولا عن وضع المؤسسات الاقتصادية والحيوية التربوية منها والصحية في زمن بن علي، ولا عن عدد العاطلين عن العمل من ذوي الشهادات العليا، ولا عن أولئك الذين كانوا يرمون بأنفسهم وحياتهم ومستقبلهم عرض البحر للالتحاق بضفة يرونها رغم فظاعتها أفضل من بلد أكله بن علي والطرابلسية!
مشهد المؤامرة كانت صورة في مخيلة "السيدة الأولى" التي نهبت البلاد، مع أسرتها، لا تنسى لحظة بأن تذكر القارئ أنها "الزوجة الحنونة" التي كانت تموت رعباً كل لحظة خوفاً على حياة زوجها من القتل في أي لحظة، هي التي وضعته على الرف بمجرد أن أظهر الأطباء الفرنسيين أصابته بما يُشبه "الخرف"، حالة من النسيان الشديد التي كانت تجعله ينسى اسمه، وينسى محيطه (اقرأ كتاب حاكمة قرطاج).
ليلى الطرابلسي التي بدأت حياتها "حلاقة" أخذها طموحها الجم إلى قصر قرطاج، لتصبح السيدة الأولى، ولتتسلط دون وجه حق على جيلين متتاليين، باسم "الحرية" التي لم تكن سوى القشور التي باعتها للتونسيين طوال عقدين!
الحرية التي كان يحلم بها الشعب لم تكن متاحة داخل نظام كان يعتبر كلمة حق أشبه بـ"مؤامرة" ضد النظام نفسه، على مدار كل المساجين السياسيين والعاديين الذين كانت تكتظ بهم سجون تونس من القصرين إلى تالا ومن سيدي بوزيد إلى تونس العاصمة.
كان أول خطاب سياسي رسمي لزين العابدين بن علي بمجرد وصوله إلى السلطة، انتقاداً واضحاً لسابقه "بورقيبة" ووعداً جلياً بأن الأخطاء الشنيعة التي ارتكبها سابقه ضد تونس سوف لن تتكرر، وأن تونس الجديدة سوف تكون أكثر عدلاً، وكان أخطر وعوده أنه لن يسمح ببقاء الرئيس أكثر من عهدة رئاسية واحدة، لأن تونس يجب أن تكون للتداول على السلطة! ما الذي تغير بعدها؟
بن علي نفسه كان "جزاراً" بمعنى الكلمة. تراجع كل شيء، بما في ذلك الحريات، والحال أن حربه السياسية كانت مباشرة ضد الإسلاميين، قبل غيرهم، إذ اكتظت السجون والمعتقلات والحفر السرية بهم، أغلبهم قضوا نحبهم هناك، وبعضهم خرج بعاهة جسدية ونفسية مزمنة، ومن استطاع اللجوء إلى المنفى، طورد، تم تصفية البعض في عواصم أوروبية، ومن بقي على قيد الحياة، بقي معارضاً قدر المستطاع!
ليلى الطرابلسي لا تنبس ببنت شفة إزاء هذه الحقائق الظاهرة كعين الشمس، لا يعنيها شعب قضى سنوات طويلة داخل السجن، ولا يعنيها جيل من التونسيين الذين تمت سرقة مستقبلهم تحت مسميات العولمة التي وضعت دولة جميلة مثل تونس داخل محك سياسي، استفاد منه الأوروبيون واليهود دون غيرهم، أولئك الذين كانت تقدم لهم أفضل الخدمات في مواسم "الحج" التي يقيمونها سنوياً في المعابد بجربة.
تونس لم تكن للتونسيين قط، بل كانت لعائلة بن علي وعائلة الطرابلسي. ما دونهما فتات يتقاسمه الحوت الكبير الذي بدوره كوّن مجموعة من المافيات التي استولت على ما كان يتوجب أن يناله الشعب. كانوا كلهم فوق القانون، كلهم القانون نفسه الذي على أساسه يرمى المظلوم في السجن، أو ببساطة يُقتَل (انظر إلى كتاب حاكمة قرطاج)، تونس الصغيرة الجميلة تحوّلت إلى مزرعة خاصة، لا يحق لأحد أن يجادل الأسياد، النخبة الجامعة لهم. لهم وحدهم فقط!
البوعزيزي مندس!
تسرد ليلى بن علي قصة البوعزيزي تحت نفس مُسمّى "المؤامرة"، حيث أن ذلك الشاب أضرم النار في نفسه من باب الاحتفاء والشهرة! لم تتكلم ليلى بن علي عن جيل البوعزيزي، ذلك الجيل الذي ولد على واقع فارغ، بكل ما تعنيه الكلمة من فقر ومن تهميش ومن قمع بوليسي.
جيل كان يرى في الهرب عبر قوارب الموت خلاص من الظلم الذي حوله إلى مكتئب، لا يرى الغد في وجود هذه الطغمة الحاكمة التي لا تشبع من المال ولا من النفوذ ولا من السلطة. البوعزيزي لم ينزل براشوت إلى تونس، إنه واحد من الشعب، في مثل عمره، لم يكن الظلم مقبولاً وعربته الصغيرة تصادر من قبل الأمن، وداخل مقر البلدية يتلقى صفعة على وجهه أمام مرأى ومسمع الآخرين.
البوعزيزي ليس مجرد رقم، أو عملية حسابية لنختصر بها حادثة بعينها، إنه إنسان، حولته ليلى بن علي وزوجها إلى كائن منقوص الكرامة والأمل، وفاقد للغد قبالة يوميات بائسة وسلطة تتكرر دائماً بنفس الأشخاص وبنفس آليات القمع والتنكيل!
تقول ليلى بن علي في القسم الخاص بالبوعزيزي، أن ثمة شابين أضرما النار في نفسيهما أسبوعاً واحداً قبل حادثة البوعزيزي، وتتساءل: لماذا لم تقم ثورة وقتها؟ وهي كامرأة "من زمن الجاهلية الجديدة" لا تعترف بشيء اسمه "القدر". ذلك القدر الذي يسخره الله سبحانه وتعالى ليتحول إلى ثورة، أو إلى زلزال أو صاعقة. الثورة في تونس كانت مهيأة ليس بسبب البوعزيزي فقط، بل بسبب جيله كله، بسبب المظالم الكثيرة التي تعيشها البلد، في ظل نخبة ظالمة، لا تخاف الله في أحد، ولا تعترف حتى بشيء اسمه الحساب.
هل يمكن ربط الثورة التونسية بالبوعزيزي؟
من يقول نعم لا يمكن أن يكون مخلصاً للأحداث، هذا لأن الشعب التونسي ليس انهزامياً كما أرادت الصورة الرسمية أن تصوره، الشعب الذي قاوم الاحتلال، وتمتد ثقافته القومية والدينية من النضال إلى الجهاد، لا يمكنه العيش في خنوع إلى الأبد.
لقد كانت الثورة التونسية تحصيل حاصل في النهاية، كان لا بد أن تقوم، وكان لا بد من الشعب التونسي بإذن الله أن يخرج عن صمته، وعن خوفه، وقد اكتشف ألا مخرج من محنته سوى الثورة على المستبد، ذلك الذي سرق تونس وحولها إلى "قصر" خاص رغم أنه لم يكن يحكم، بل ليلى بن علي هي التي كانت تحكم، وهي التي كانت تأمر وتصدر القرارات السياسية والادارية (اقرأ كتاب حاكمة قرطاج)، في غياب زوج مصاب بالخرف، لا يتذكر ما الذي فعله بالأمس، وإن تذكر فبشق الأنفس!
لم تجب ليلى بن علي في حقيقتها التي سردتها في كتابها عن أي من الأسئلة الملحة التي كان عليها الرد عليها، ليس أبسطها: لماذا كان على الشعب أن يخضع لسلطتها ولسطلة زوجها سنين أخرى؟ فلو استطاعت أن ترد على هذا السؤال ولو من باب الحوار الجدي في كتابها، لكان من السهل ان تعترف بعدئذ بالحقيقة التي ينتظرها الشعب، بأن كتابها المتكون من أكثر من 300 صفحة لا يساوي في الحقيقة الحبر الذي كُتِبَ به، حتى وهي تمدح أو تدين أسماء معينة وتنتقد أسماء معينة من داخل النظام؛ تعي جيداً أن الشعب نفسه يرى في تلك الأسماء مجتمعة النخبة المرتزقة التي عانى الشعب منها أكثر من عشرين سنة.
فالنظام التونسي أثبت حتى بعد الثورة أنه لم يكن "صالحاً للعمل" ناهيك أنه كان قمعيا ًإلى أبعد حد، وآمال الفلول بالعودة إلى زمن "بن علي" والطرابلسية، لن تكون أكثر من أوهام الآن وقد اكتشف الشعب التونسي أنه يستطيع أن يرفض، ويستطيع أن يقبل بما يليق بتاريخه وآماله ويرفض من هو دون ذلك.
تونس العلمانية حد الفظاعة، لم تصنع دولة حقيقية، بل صنعت شبه مزرعة والكثير من السجون المحيطة بها، بينما تونس الجديدة التي تستعيد انتماءاتها الحقيقية، هي التي تعرف أن زمن بن علي ولى ولن يعود أبداً، وأن الثورة التي تأتي بعد سنوات من الظلم ليست أبداً مؤامرة، بل هي مشروع استقلال حقيقي من محتل الداخل التي أثبتت التجربة أنه لا يختلف عن محتل الخارج من حيث الشراسة.
والحال أن ألف حقيقة كتلك التي سردتها ليلى بن علي لن تعيد التونسيين إلى الوراء، ذلك ان الحقيقة الوحيدة التي يؤمنون بها هي أنهم يبدأون مشروع دولة ونهضة جديدة، لا يمكن أن يتواجد فيها القتلة والمرتزقة واللصوص والمنحطين والسفلة!