عالمية الرسالة في ميزان الاستشراق
تبدو الحاجة ملحة إلى استعادة مقولات الاستشراق، لا من حيث كونه تياراً فكرياً مخالفاً للرؤية الإسلامية فحسب، بل لحرصه على إمداد النخبة المثقفة بالتصورات والمواقف المحرضة على تشويه الفكرة الإسلامية. فما نتابعه اليوم من هجوم شرس على ثوابت الدين، وانتقاص من قدر الرسالة المحمدية ما هو إلا ثمرة ممارسة استشراقية امتدت لبضعة قرون تحت مظلة الكنيسة.
تبدو الحاجة ملحة إلى استعادة مقولات الاستشراق، لا من حيث كونه تياراً فكرياً مخالفاً للرؤية الإسلامية فحسب، بل لحرصه على إمداد النخبة المثقفة بالتصورات والمواقف المحرضة على تشويه الفكرة الإسلامية. فما نتابعه اليوم من هجوم شرس على ثوابت الدين، وانتقاص من قدر الرسالة المحمدية ما هو إلا ثمرة ممارسة استشراقية امتدت لبضعة قرون تحت مظلة الكنيسة.
ومن بين المقولات المغرضة التي تثار بين الفينة والأخرى، تلك التي تشكك في عالمية الرسالة، وتسعى جاهدة لتقليم أظافر المد الإسلامي بزعم أنها وقف على العرب وحدهم!
ومعلوم أن حصر نطاق الرسالة في شبه الجزيرة العربية يؤدي حتماً إلى القول بأن الامتداد خارجها أملاه الطموح السياسي لا الجهاد الدعوي. بل إن تنويه بعض المستشرقين بالتوحيد كجوهر للديانات الثلاث يرمي بالخصوص إلى تجريد الإسلام من أية إضافة نوعية باستثناء توحيده لقبائل البدو، وإنقاذ بلاد العرب من حالة التفكك المزمن!
رغم حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن تظفر مكة بشرف الاستجابة لداعي الحق قبل غيرها من البلدان؛ إلا أن البعد العالمي للرسالة كان حاضراً وبقوة سواءً من خلال التصريح به في أوائل ما نزل من الوحي، أو عبر الأسماء التي شكّلت نواة الجماعة الإسلامية الأولى من غير العرب.
لذا فإننا لا نملك إلا الاستغراب مما خلص إليه الطرح الاستشراقي الذي يزعم تعلقه بمنهجية علمية جادة، حين يُرجع سِرّ انتشار الإسلام خارج حدوده العربية إلى بروزه آنذاك كقوةٍ سياسية في المشهد العالمي؛ لا لكونه الرسالة الخالدة حتى قيام الساعة!
في هذا الباب يندرج كتاب "سيرة النبي محمد" للراهبة البريطانية كارين أرمسترونغ، والذي قوبل بالحفاوة في المشهد الثقافي العربي لتزامن صدوره مع قضية "آيات شيطانية" وما خلَّفته من موجة عِداءٍ للإسلام في الغرب.
إن هذه الباحثة -التي وُصف خطابها بالهاديء والموضوعي والموثَّق (1)- تشطب بجرة قلم كل ما قيل ويُقال عن الطبيعة العالمية للإسلام.
فغاية ما كان يطمح إليه محمد، صلى الله عليه وسلم، هو إبلاغ رسالة القرآن للقبائل التي تستوطن شمال المدينة! أما خبر الرسائل التي وجهها لملوك العالم فلا يعدو برأيها أن يكون رواية مدسوسة لا أصل لها في المصادر القديمة؛ وحتى إن صح هذا الخبر فالقصد من ورائه هو القبول بمحمد صلى الله عليه وسلم ممثلاً شرعياً لقبائل العرب "نكاد نقطع بأن هذه الرواية مدسوسة لأننا لا نملك الدليل على أن محمداً كان يرى أن الإسلام دين عالمي، وأنه سوف يُلغي ما أُنزِل على أهل الكتاب. كان الإسلام حتى تلك الفترة ديناً لأبناء إسماعيل، مثلما كانت اليهودية دين أبناء يعقوب. واستمر المسلمون إلى ما بعد وفاة نبيهم بنحو مائة عام، يعتبرون أن الإسلام دين مُنزّل على العرب وحسب. وإذا صدقت رواية سفراء النبي إلى حكام البلدان المجاورة فقد كانت تعبيراً عن الثقة الجديدة التي اكتسبها محمد، وعن اتساع نطاق رؤيته" (المرجع السابق: [ص:314]).
ثم تمضي المؤلفة في استعادة جملة من الاعتراضات والشكوك، متأثرة بمنهج مواطنها "مونتغمري وات" القائم على التشكيك في الواقعة التاريخية، ثم هدمها واستبدالها بأحكام لا تدعمها حقائق السيرة؛ فهذا الأخير بدوره، بذل وسعه لإثبات إقليمية الدعوة الإسلامية، وألغى كل النصوص والمصادر الموثقة ليتخذ من مزاجيته وارتيابه منهجاً للتعامل مع السيرة، بل وذهب في بعض مؤلفاته إلى أن انتشار الدعوة خارج النطاق العربي لم يكن مخططاً له من لدن الرسول صلى الله عليه وسلم بقدر ما كان استجابة لإغراءات المكاسب الدعوية "-إن محمداً- اعتبر نفسه أول الأمر مرسلاً إلى قومه القرشيين، ثم أخذ شيئاً فشيئاً، وبدرجات لا تبدو بوضوح في القرآن، يتراءى له هدف أوسع لرسالته؛ دعا قبل الهجرة بعض أفراد القبائل البدوية إلى الإيمان بالله عدا مفاوضة سكان المدينة، ثم احتلت فكرة الأمة القائمة على أساس ديني مكان الصدارة بحلول الهجرة" (عبد الله محمد النعيم: الاستشراق في السيرة النبوية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1417 هـ، [ص:40]).
وما يخلص إليه "وات" في استقرائه المتحيز لا يعدو أن يكون صدى لما أدلى به سلفه الاسكتلندي "وليام موير" حول ارتباط عالمية الرسالة بظروف ومتغيرات سياسية لا يحكمها أي عامل دعوي. ففكرة العالمية -برأيه- ظلت حبيسة تفكير غامض، لأن الاهتمام كان موجهاً طيلة الحياة النبوية لبلاد العرب (محمد عبد العظيم علي: السيرة النبوية وكيف حرّفها المستشرقون، دار الدعوة 1994م، [ص:51]).
الملفت للنظر أن ما يوحِّد الرؤية الاستشراقية لهذا الفصيل من الباحثين هو الافتئات الجاهز على الإسلام، والانطلاق من أحكام مسبقة ثم الانكباب على البحث في المراجع والمصادر العربية عما يُعضدها ويُسندها، حتى لو تطلب الأمر لَـَيّ أعناق النصوص وتحريف الوقائع؛ أما عند غياب السند فلا يتورعون عن إلقاء الكلام جِزافاً دون أي دليل نقلي أو برهان عقلي.
في المقابل أبدى التيار المعتدل إقراره بعموم الرسالة المحمدية، لا بالاتكاء على منطوق الآيات والأحاديث الشريفة فحسب؛ بل لما يمتاز به الإسلام من بساطة وشمول واستجابة للفطرة الإنسانية. وفي هذا الصدد يؤكد توماس أرنولد أن للعالم أجمع نصيباً في رسالة الإسلام، وأن الصورة العملية لهذا البُعد تمثّلت في الكتب التي بَعث بها محمد صلى الله عليه وسلم إلى عظماء ملوك ذلك العصر، والتي تدل دلالة أكثر وضوحاً وأشد صراحة على ما تردّد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعاً بقبول الإسلام (توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، 1947م، [ص:34]).
و بأسلوب المنصف الذي يفتح عقله وقلبه للحقيقة المجردة؛ ينبري هنري دي كاستري لدحض الصورة النمطية المشوهة التي ألحقها الكتاب الأوروبيون بالإسلام والنبوة. إذ يرى أن تبرير سرعة تقدُّم الإسلام وانتشاره في الأقطار بكونه غضباً إلهياً على الكنيسة يظل تبريراً غير لائق ولا تسنده وقائع التاريخ. فالانتشار العظيم للإسلام كديانة عامة يرجع بالأساس إلى مواهب التاُثير التي أودعت في القرآن الكريم" إننا لا نعلم للإسلام "مجمعاً دينياً" ولا رسلاً ولا أحباراً وراء الجيوش؛ ولا رهبنة بعد الفتح. فلم يُكره أحد عليه بالسيف، ولا باللسان. بل دخل القلوب عن شوق واختيار، وكان نتيجة ما أودع في القرآن من مواهب التأثير والأخذ بالألباب" (2)
وعلى نفس المنوال يمضي هوبير ديشان (3) في التأكيد على ما يتمتع به الإسلام من قوة دعوية ذاتية أهلته لأن يكون رسالة للعالم بأسره: "إن انتشار دعوة الإسلام في أغلب الظروف لم تقم على القهر، وإنما قامت على الإقناع الذي كان يقوم به دعاة متفرقون لا يملكون حولاً وطولاً إلا إيمانهم العميق بربهم. وكثيراً ما انتشر الإسلام بالتسرُّب السلمي البطيء من قومٍ إلى قوم، وقد يسّر انتشارالإسلام أمرٌ آخر هو أنه دين فطرة بطبيعته، سهل التناول، لا لبس ولا تعقيد في مبادئه، سهل التكييف والتطبيق في مختلف الظروف" (محمد فتح الله الزيادي: ظاهرة انتشار الإسلام. المنشأة العامة للنشر والتوزيع. طرابلس 1983م، [ص:222]).
لقد أثبتت الممارسة الاستشراقية المعاصرة أنها لازالت أسيرة الروح العدائية للإسلام، وقلة هم من انتصروا للحقيقة المجردة عن الهوى. حقيقة أن الإسلام ديانة عالمية وأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين وليس مجرد قائد لحركة البدو المقهورين!
ولن يتسع المجال لحوار حضاري يتم تدبيره وفق رؤى وقناعات يحكمها الاستعلاء.
ـــــــــــــــــــــــ
1- (راجع مقدمة كتاب "سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم" لكارين أرمسترونغ، منشورات سطور، القاهرة 1998م، [ص:7]).
2- (هنري دي كاستري: الإسلام خواطر وسوانح، مكتبة النافذة، 2008م، [ص:75]).
3- (كاتب فرنسي وحاكم المستعمرات الفرنسية بافريقيا حتى عام 1950م).
حميد بن خيبش
- التصنيف: