نبينا صلى الله عليه وسلم في العيد

منذ 2013-08-10


الخطبة الأولى:
الحمدُ لله المطَّلعِ على ظاهِر الأمْرِ ومكنونِه، العالم بسرِّ العبدِ وجهرهِ وظنونِه، المُتَفرِّدِ بإنْشَاءِ العالم وإبْداعِ فُنُونِه، المدبِّر لكلٍّ منهُمْ في حركتِه وسُكُوْنِه، أحْسَنَ كلَّ شَيْءٍ خَلق، وفتَق الأسماع وشقَّ الحَدَق، وأحْصَى عَدَدَ ما في الشَّجَرِ من وَرَق، في أعْوادِه وغُصُونِه، مد الأرْضَ ووضعَها وأوْسَعَ السماءَ وَرفعَها، وسَيَّرَ النجومَ وأطْلعهَا، في حنْدسِ اللَّيلِ ودُجُوْنه، أنزل القطْر وبلاً رَذاذاً، فأنْقَذَ به البِذْر من اليُبْسِ إنْقاذاً، {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان: 11]، أحْمُده على جوده وإحسْانِه، وأشْهد أن لا إِله إِلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له في أُلُوهِيَّتِهِ وسُلْطانِه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المؤيَّدُ ببُرهانِه، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ في جميع شأنه، وعلى عُمرَ مقْلقِ كِسْرى في إيوانِه، وعلى عثمانَ ساهرِ ليْلِهِ في قرآنِه، وعلى عليٍّ قالعِ بابِ خيْبرَ ومُزَلْزِل حُصونِه، وعلى آلِهِ وأصحابه المجتهد كلٌ منهم في طاعةِ ربِّه في حركتِه وسكونِه.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. أيها المسلمون: ها هو قد صلى الفجر في مسجده، واغتسل في بيته، ثم يلبس حُلة هي أجمل لباسه وهو أجمل من كل شيء ، ويجلس فيتناول تمرات وترا، فيستعين بالله ويخرج من منزله الشريف، وحجرته الطاهرة، فيتجه إلى شرقي المدينة النبوية، يصحبه طيف من أصحابه، يستمدون نورهم من نوره، ويتذوقون طعم العيد في كل خطوة يخطوها. وكلُّ بسمة تتفتق من شفتيه كأنها الدنيا تمتلئ ورداً وعبقا؛

بدر تطلّع في بدر فغرته *** كغرة النصر تجلو داجي الظلم


بأبي وأمي ونفسي ذلك الماشي، اللهم صل وسلم عليه صلاة كلما انتهت عادت عليه، يخرج صلى الله عليه وسلم ماشياً، والعَنَزة التي هي عصاه تحمل بين يديه، وحين يصل المصلى تنصب العنَزَة أمامه؛ ليصلي إليها، وقد كان المصلى آنذاك أرضا فضاء، ليس فيها بناء، لكنها ممتلئة رحمةً وعدلاً ببركته صلى الله عليه وسلم، ثم توضع حربته سترة له في الصلاة؛ ليعلم الأمة أن وقت الفرح والرخاء لا يشغلهم عن سلاحهم ومصدر قوتهم، وحين يَصلُ المصلى يبدأ بالصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا غيرهما، فيصلي العيد، ثم يخطب في الناس، ويا لهف أنفسنا على تلكم الصلاة، وتيكم الخطبة! ويعظ النساء والرجال على حد سواء؛ فلكل منهم موعظة تخصه، وأخرى يشتركون فيها، ومما قاله صلى الله عليه وسلم وهو وصية لعامة المسلمين: «تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا»؛ وذلك ليَجبُرَ المسلمُ ما نقص من صيامه، وليمتثل أمر الله تعالى بقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، ثم يعود صلى الله عليه وسلم من طريق آخر غير الطريق الذي جاء منه؛ ليسلم على من في الطريقين، ولتعم بركته مكانا أوسع، ولتكثر الأماكن التي تشهد له بمروره عليها بأبي هو وأمي:



كَم جيئَةٍ وَذَهابٍ شُرِّفَتْ بِهِما *** بَطحاءُ طيبة في الإِصباحِ وَالغَسَمِ


الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المحبون لرسول الله! ويتوجه صلى الله عليه وسلم نحو بيته وأزواجه وبناته، وهم أولى الناس به؛ فالأقربون أولى بالمعروف، يمازحهم، ويلاطفهم، ويلاعبهم، ويتلطف معهم وهو اللطف الإنساني كله:


رَضِيَّةٌ نَفسُهُ لا تَشتَكي سَأَماً *** وَما مَعَ الحُبِّ إِن أَخْلَصْتَ مِن سَأَمِ


عن داره الشريفة تحدثنا عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فتقول: «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا» (البخاري ومسلم). فلم يعب على الجاريتين أنهما تنشدان؛ لتأنس زوجه أمُّ المؤمنين بهما، بل أنكر على من أنكر ذلك؛ لأن هذا أنسٌ بدون معصية الله. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

وغيرُ بعيد من الحجرة الشريفة كانت هنالك احتفالية أخرى تحدثنا عنها عائشة رضي الله عنها فتقول: «وكان يومَ عيد يلعب السودان بالدِّرَق والحِرَاب، فإما سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وإما قال: تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خَدِّي على خدِّه، وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة (لقبٌ للحبشة) حتى إذا مَلِلْتُ قال: حسبكِ؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي» (البخاري ومسلم). روح الزوجية الماتعة تتجلى فيه صلى الله عليه وسلم وهو قد جاوز الثالثة والخمسين من عمره!


يكادُ في لَفظَةٍ مِنهُ مُشَرَّفَةٍ *** يوصيكَ بِالحَقِّ وَالتَقوى وَبِالرَحِمِ

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

وقرب تلك الحجرة الشريفة، يجتمع أطفال وصبيان، ليعلنوا فرحهم بالعيد في صورة بسيطة جميلة، وبحضرته صلى الله عليه وسلم؛ ليكون عيدهم عيدين، فتقول أمنا عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً فسمعنا لَغَطاً وصوت صبيان! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا حبشية تزفن (تتمايل وتلعب) والصبيان حولها، فقال: يا عائشة! تعالي فانظري، فجئتُ فوضعتُ لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعت؟ أما شبعت؟ قالت: فجعلت أقول: لا؛ لأنظر مَنْزلتي عنده» (صحيح الترمذي)

بل سيأخذكم العجب إن علمتم أنه صلى الله عليه وسلم لم يستخف بتلك الكلمات التي كانوا يغنونها؛ لأنها لم ترق إلى مستواه! بل كانت بلغتهم الأعجمية، ومع هذا بقي النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أمته وخاصة الكبار منهم كيف يكون التلطف مع الأطفال والنساء، ومع بعضهم البعض فيفرحون وقت الفرح، وليعلن بلسان حاله قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن الحبشة كانوا يزفنون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتكلمون بكلام لا يفهمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يقولون؟ قالوا: يقولون: محمد عبدٌ صالح" (صححه الألباني).


يا رَبِّ صَلِّ وَسَلِّم ما أَرَدتَ عَلى *** نَزيلِ عَرشِكَ خَيرِ الرُسلِ كُلِّهِمِ


بارك الله لنا جميعا في القرآن والسنة، وأعظم لنا أجمعين المنة، ورزقنا الفردوس الأعلى من الجنة. آمين. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

الخطبة الثانية:
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. أيها المؤمنون! إن من أظهر الدلائل على شكرنا لله تعالى في العيد استجابة لندائه: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، أن نستشعر عظيم المنة من الله جل وعلا على أن مد في أعمارنا حتى أتممنا شهر رمضان، ونحن في صحة في أبداننا، وأمن في أوطاننا، وسلامة في إيماننا، فلا ننسف ما مضى من علمنا على قلته بمعصيته سبحانه في العيد وغيره، ولْنُدِم شكره بقلوبنا وألسنتنا، ولنعمل بجوارحنا في طاعته حتى نستوفي جميع أنواع شكره سبحانه، ولن نبلغ شكر نعمته حق شكرها، وإن نطقت ألسنتنا بذكره على الدوام، وتحركت أطرافنا بعبادته مدى الأيام، واستيقنت قلوبنا عظيم نعمته طول العام، لكنه جهد المقل، واعتراف العبد لسيده، ولعل الله أن يقبل عملنا فنكون عنده من الفائزين.


مشاري بن عيسى المبلع
 

  • 4
  • 0
  • 19,645

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً