النظام الإيراني والتقيّة الكبرى!
ما إن بدأت الأوضاع في إيران تخرج عن سيطرة النظام الحاكم، وما إن شعر علي خامنئي باهتزاز كرسيه نتيجة الزلزال الذي أحدثه ما ذُكر من التزوير الذي صاحب الانتخابات الرئاسية -والتي هي في حقيقتها لا تعدو كونها انتخابات لاختيار سكرتير المرشد- حتى لجأ النظام الإيراني إلى سلاحين من أَشْهَر أسلحته التقليدية.
ما إن بدأت الأوضاع في إيران تخرج عن سيطرة النظام الحاكم، وما إن شعر علي خامنئي باهتزاز كرسيه نتيجة الزلزال الذي أحدثه ما ذُكر من التزوير الذي صاحب الانتخابات الرئاسية -والتي هي في حقيقتها لا تعدو كونها انتخابات لاختيار سكرتير المرشد- حتى لجأ النظام الإيراني إلى سلاحين من أَشْهَر أسلحته التقليدية.
الأول: سلاح الهراوة الغليظة لحدِّ القتل.
الثاني: سلاح (التقية السياسية) والرأي السياسي، وأعني: (الدخول في حرب تصريحات واتهامات مع الدول الغربية والدولة العبرية)؛ بهدف صرف أنظار الشعب عن أزمته التي يعيشها، وإشغاله بمعركة مُفتَعَلة، بُغْيَة إعادة توحيده ورصِّه من جديد خلف قائده الأعلى، والحقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها النظام الإيراني لهذه الإستراتيجية، بل إن تاريخه معها قديم قِدَم الثورة الخمينية! وهو وإن فشل -إلى ساعة كتابة هذه السطور- في كتم صوت الشعب الهادر، إلا أنه لا زال يراهن على إقناعه بأن كل تلك المعارضات إنما هي بسبب تدخُّل الدول الغربية والدولة العبرية في شؤونه الداخلية..
ولكي تكتمل فصول المسرحية؛ فقد أعلنت القيادة الصهيونية -المستفيدة من تصريحات نجاد، والمقْتَاتة على مزاعمه بإزالتها من على الخريطة- تأييدها للثوار، بل صرحت بأنها ستسعى لإقامة علاقات دبلوماسية مع زعيمهم في حال فوزه، ومن الواضح أن هذا الموقف الصهيوني يهدف إلى إضعاف جانب الثُّوار؛ لأن أي تأييد صهيوني لهم سيثير حولهم الكثير من الشبهات، ومن ثَمَّ سيُعزِّز من موقف خصومهم الذين يتهمونهم بالتآمر والتعاون مع الأعداء (المزعومين).
وبعيداً عن الأحداث الجارية في إيران فإني أود أن أستعرض تاريخ النظام الإيراني التوسعي مع هذا النوع من (التقية السياسية) ومدى نجاحه في تسويقها والاستفادة منها، وقبل أن أبدأ فقد يكون من الموضوعي أن أُثبت أولاً نظرية عدم صدق النظام الإيراني في عدائه للغرب والدولة العبرية، بل وإثبات العكس، وذلك عبر شواهد وأدلَّة واقعية وتاريخية؛ حتى لا يبقى الكلام مجرد دعوى، فمن الأدلة التاريخية، فضيحة (إيران جيت) الشهيرة، أو قصة التعاون العسكري بين إيران وأمريكا، والتي حدثت في ثمانينيات القرن الماضي..
فبينما كانت الحرب الكلامية بين البلدين في ذروتها، وبينما كان الخميني وأتباعه يصبُّون لعناتهم على ما يسمونه بـ(الشيطان الأكبر) كان الرئيس الإيراني (أبو الحسن بني صدر) يعقد اتفاقاً في باريس مع نائب الرئيس الأمريكي (بوش الأب) وبحضور مندوب الموساد (آري بن ميناشيا) لتزويد إيران بأنواع متطورة من السلاح الأمريكي عن طريق الدولة الصهيونية؛ ليستخدمها الجيش الإيراني في حربه ضد العراق؛ وذلك مقابل مبلغ مقداره 410.217.100 دولار أمريكي، وقد كشفت الوثائق التي أفرج عنها أرشيف الأمن القومي الأمريكي بتاريخ 10/11/2006، تفاصيل مُهِمَّة حول هذه القضية.
ومن الأدلة كذلك ما صرح به نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية السابق، محمد علي أبطحي، في ختام مؤتمر (الخليج وتحديات المستقبل) والذي عُقِدَ في (أبو ظبي) بتاريخ 13/1/2004م؛ حيث قال بالحرف الواحد: "إن إيران قَدَّمَت الكثير من العون للأمريكيين في حربهم ضد أفغانستان والعراق، وإنه لولا التعاون الإيراني لَمَا سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة.
بل إنه قد يكون من المضحك أن تعلم أن القوات الأمريكية في العراق هي مَنْ تولَّى حماية الرئيس الإيراني عند زيارته للعراق العام الماضي، من ساعة وصوله حتى مغادرته! أما على صعيد علاقة إيران بالدولة الصهيونية فيكفي ما صرح به وزير الخارجية في حكومة نتنياهو (ديفيد ليفي) حيث قال: (إن إسرائيل لم تقل في يوم من الأيام: إن إيران هي العدو) [1]، وكذلك ما أثبته شارون في مذكراته؛ حيث قال صراحةً: "لم أرَ في الشيعة أعداءً للدولة العبرية على المدى البعيد، عدونا الحقيقي هو المنظمات الإرهابية الفلسطينية" [2]، والحقيقة أن المجال لا يتسع لتَتَبُّع المزيد من الأدلة والوثائق أو التصريحات، وأظن أن من أراد ذلك فلن يصعب عليه؛ فهناك عشرات الوثائق والمقالات المنشورة، والتي تناولت هذا الجانب [3].
ومع ذلك فلا يزال بيننا من يعتقد بأن إيران هي حاملة راية الجهاد والمقاومة ضد أمريكا والدولة الصهيونية، والمصيبة أن ذلك ليس قاصراً على العوام، بل يتعداهم إلى طبقات من المثقفين! ويبقى السؤال: ما الذي يدفع إيران لتَصَنُّع العداء لتلك الدول؟ ولماذا لا تصرح بعلاقاتها معها، كما في عهد الشاه؟ ولماذا تبادلها تلك الدول تصريحات العداء الزائفة؟!
لتَصَنُّع إيران العداوة للغرب أسباب:
يبدو -والله أعلم- أن في ظهور إيران كمقاوم لأمريكا أو الدولة العبرية، وكقائد لِمَا يسمى بمعسكر الممانعة مصلحة مشتركة لتلك الأطراف مجتمعة؛ لأن ذلك يحقق هدفين مزدوجين:
الأول: وهو ما يُعبِّر عنه بعضهم بالحاجة الوجودية للدولة العبرية؛ فمن المعلوم أن هذه الدولة تحب أن تبدو دائماً بمظهر الضعيف المحدق به الخطر والمحاط بسياج من الدول المعادية، ما يُمكِّنها من الحصول على مساعدات وأسلحة الدول الغربية الكبرى؛ وقد رأينا كيف تحالف العالم بأسره معها لمنع تهريب السلاح لحماس، ولذلك فهي -كما أشرت- تستغل تصريحات المسؤولين الإيرانيين الذين يتوعدون بإزالتها من الخريطة؛ لإقناع الرأي العام الغربي بحاجتها للدعم المستمر، وكذلك لجعله يتفهم ما تقوم به من أعمال إرهابية ضد المدنيين في فلسطين أو لبنان.
الثاني: وهو ما قد يخفى على الكثيرين من تلميع المذهب الشيعي وتسويقه؛ بهدف مزاحمة الإسلام السُّني غير المتفق مع المشروع الغربي، ويتم ذلك عَبْر تقديم المذهب الشيعي كمذهب يقوم في الأساس على مبدأ الثورة والمقاومة للعدو دون مواربة، وقد لمسنا تأثُّر الكثير منا - ولا أقصد العوام فقط - بخطابات حسن نصر الله ومحمود أحمدي نجاد النارية والمتكررة ضد العدو الصهيوني! وهذا الهدف يندرج تحت الهدف الأمريكي الأكبر الساعي إلى إحداث نوع من التوازن بين قوى المنطقة، واستخدامها كأدوات لضرب بعضها ببعض، وقد كان من آثار هذا الهدف إطلاق أمريكا يد إيران في العراق؛ بسبب وجود أكثرية سُّنية تسعى أمريكا للحد من حجمها، بينما نراها تكفُّ نفس اليد في لبنان؛ لضعف أهل السُّنة هناك، ولموالاة قياداتهم لأمريكا..
ولا تزال الوقائع تؤكد لنا أن العداء الإيراني لأمريكا والدولة العبرية يبقى في أكثره مجرد تصريحات وتهديدات فارغة لا يسندها أي تحرك حقيقي، عدا ما يكون من مناورات تكتيكية، وأعني بالتحديد مواجهات حزب الله مع الدولة الصهيونية، والتي ثبت أنها مواجهات تكتيكية مُقنَّنة ومرتبطة بالحسابات الإيرانية فحسب، وليس من ورائها أيُّ نصر للأمة، وإلا فما تفسير تَفرُّج حزب الله على ما حدث في غزة إبَّان العدوان الصهيوني الأخير عليها، بل والمسارعة في نفي تورطه في عمليات إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان؟!
ويدرك المتتبع لإستراتيجيات هذا التنظيم أنه إنما أريد له أن يوجد في جنوب لبنان كبديل للميليشيات النصرانية التي فشلت في الحد من نشاط الفصائل الفلسطينية في لبنان؛ لأنه أقدر على منع الفصائل الفلسطينية المسلحة من الوصول إلى نقاط التماس مع العدو..! أليست إيران داعمة للجهاد والمقاومة الفلسطينية؟ ولسائل أن يسأل ذلك السؤال.. فأقول: إن ما نشاهده من احتفاء إيران بقيادات حماس وفَتْح أذرعتها لقادة الجهاد في فلسطين، لا يعدو -فيما أحسبه- سوى أنه مناورة وتقية سياسية أخرى! أحسب أن الإخوة في حماس أذكى من أن تنطلي عليهم؛ فإيران لا تعطي شيئاً لوجه الله، ومَنْ قتل الفلسطينيين وشرَّدهم في العراق وألجأهم إلى ترك بيوتهم والعيش في العراء، لا يمكن أن يرحمهم في فلسطين!
ولو كانت إيران صادقة في دعمها لحماس لأنفذت وعدها الذي قطعته إبان فوز حماس بالانتخابات والمتمثل في إعطائها مبلغ خمسين مليون دولار، ويبقى أن الذي أعطى الفرصة كاملة لإيران للمتاجرة بالقضية الفلسطينية وتَزَعُّم الساحة الإسلامية، إنما هو الموقف العربي السلبي تجاه المقاومة وتراجع الدور الريادي لبعض الدول العربية.
تساؤلات مشروعة تفرض نفسها:
ولتتأكد أخي القارئ الكريم من أن العلاقة بين أمريكا أو الدولة الصهيونية وإيران إنما هي علاقة تعاون إستراتيجي وليس العكس؛ فإني أسوق هنا بعض التساؤلات التي أتمنى منك أن تتأمل فيها بموضوعية:
1- كم عدد الحروب التي اندلعت بين إيران وأمريكا، أو الدولة الصهيونية منذ انطلاق الثورة حتى الآن؟
2- هل حدث أن استُهدِفَت مواقع إستراتيجية إيرانية على غرار ما حدث للمفاعل العراقي؟ الواقع يشهد أن أمريكا إنما خاضت الحروب ضد أعداء إيران التاريخيين:
- أفغانستان التي ما زالت مشاعر الغضب الطائفي والعنصري الإيراني تتأجج ضدها؛ بسبب عقدة سقوط الدولة الصفوية على يد الأفغان الغلزائين ( 1722 - 1729م).
- والعراق الذي تصدى للزحف الصفوي الجديد بقيادة الخميني، بينما بقيت إيران في مأمن بفضل قدرتها على الاستفادة من نقاط الالتقاء بين مشروعها التوسعي والمشروع الأمريكي، تلك النقاط التي خرجت إدارة أوباما الجديدة ببعضها إلى العلن، عبر اجتماعات تنسيق المواقف ضد طالبان!
أمَّا ما يربط إيران بالدولة الصهيونية تحديداً؛ فهناك مَنْ يرى أنه أبعد من تاريخ تأسيس الدولتين؛ إذ لا يزال اليهود يشعرون بالمنَّة التاريخية للفرس، وذلك بسبب تخليص القائد الفارسي (قورش) لليهود من السبي البابلي، ولقد وُجدت منظمات شبابية يهودية في طهران تحت اسم (قورش الكبير)، ويمكن اعتبار مرحلة حُكْم الشاه بأنها الفترة التي شهدت أكبر وضوح لطبيعة العلاقة بين إيران والدولة الصهيونية، قبل انطلاق التقيَّة أو الثورة الخمينية التي لم تغيِّر في حقيقة العلاقة الشيء الكثير.
والغريب أن يكون اليهود الفرس هم الأكثر سفكاً لدماء الفلسطينيين من غيرهم، فنائب رئيس الحكومة الصهيونية (شاؤول موفاز) صاحب الخطة العسكرية لمواجهة الانتفاضة، والتي كانت نتيجتها مجزرة نابلس وجنين هو يهودي فارسي من مواليد طهران عام 1948، وقد هاجرت أسرته إلى فلسطين عام 1957، و"دان حالوتس" رئيس القوات الجوية الصهيونية السابق والملقب بـ"جنرال الاغتيالات" والذي كانت أبشع مجازره في يوليو 2002م حينما أعطى أوامره بقصف مبنىً سكني؛ لاغتيال أحد قادة حركة حماس، واستشهد في تلك المجزرة 14 مدنياً بينهم 9 أطفال، ينتمي هو الآخر لعائلة يهودية مهاجرة من "هاجور" الإيرانية.
ختاماً:
مع تأكُّدي من أنه لا يوجد عداء حقيقي (أيديولوجي) بين إيران وتلك الدول، بل لا يوجد في أدبيات المذهب الاثنى عشري ما يحث عليه! فإني لا أستطيع نفي وجود بعض الخلافات المصلحية، أو خلافات التنافس على مناطق النفوذ، وهذا النوع من الخلاف يمكن أن تَحُلَّه الصفقات السياسية، بعكس الخلاف (الأيديولوجي) الذي لا يمكن للصفقات السياسية إنهاؤه، وهذا ينسحب أيضاً على خلافات التيارات المنبثقة عن هذين المشروعين والموجودة في عالمنا العربي وخاصة في دول الخليج، ولذلك من السهولة عليك ملاحظة التعاون والتنسيق بين التيارات التغريبية والطائفية في تلك البلدان ضد التيارات السُّنية، وخاصة ( السلفي).
ويبقى السؤال:
هل سينجح نظام الملالي التوسعي في خديعة شعبه هذه المرة، كما خدعه من قَبْل، وكما خدع الكثير من العرب العاطفيين؟ أم أن الشعب الذي يعيش منه ما يقارب الأربعة عشر مليون شخص تحت خط الفقر -بحسب تقرير للبنك المركزي الإيراني-، والذي ملَّ من إهدار ثرواته على مشاريع أصحاب العمائم التوسعية، سيقول كلمته؟
(1) جريدة هآرتس اليهودية 1/6/1997م.
(2) مذكرات شارون، ترجمة أنطوان عبيد - ص 576.
(3) انظر على سبيل المثال: (قصة التعاون الإيراني الإسرائيلي)، عز الدين بن حسين القوطالي.
حامد خلف العُمري
- التصنيف: