القارونية
حميد بن خيبش
إن مما يثير الحزن في المجتمع الإسلامي المعاصر أن تتعلق آمال العديد من شبابه بمطمح الثراء السريع، والاغتناء ولو بوسائل وأساليب غير مشروعة، وبدل أن يجعلوا من قصة قارون عبرة لكل ضمير حي، ودرسا يصون مقومات الوجود الإنساني من العبث، أبوا إلا أن يرفعوها أيقونة للحالمين!
- التصنيفات: مساوئ الأخلاق - أخلاق إسلامية -
في بضع آيات من سورة القصص، يعرض النص القرآني لإحدى أبلغ الصور الدالة على مآل السقوط الإنساني في غواية المادة، والولاء لزينة الحياة الدنيا. وإذا كانت القارونية في هذه الآيات تتجسد في حالة فردية، فإنها اليوم في المجتمع الإسلامي المعاصر سلوك جماعي، وبوصلة توجه مواقف النخبة الحاكمة في بلدان بأسرها!
من يتتبع مواطن التحذير من المال في السياق القرآني يُدرك حتما مغبة الانقياد لسطوته، وما ينشأ عن الإفراط في محبته من خلل في السمات والمعايير. ذلك أن المال وجدان حي له من القدرة ما يجعل البعض منا محبوسا خارج ذاته، أما المبالغة في جمعه واكتنازه فتُحدث تغييرا خطيرا في السمات الشخصية واضطرابا نفسيا يؤدي إلى الإصابة بعاهات خلقية كالرشوة وهوس الثراء والبخل والرياء.
وفي كتاب (سيكولوجية المال) للدكتور أكرم زيدان عرض واف لهذه الاختلالات وتأكيد على أن النقص الذي قامت على أساسه الحضارة البشرية يدفع البعض وبقوة إلى امتلاك أدوات السيطرة والتفوق، ومن بينها المال، وهو ما ينعكس سلبا على التوازن النفسي للإنسان!
بالعودة إلى النص القرآني نجد أن أول سمة من سمات القارونية هي الولع المَرضي بالمال، والرغبة المتفلتة من كل قيد لجمعه واكتنازه. وهنا يُصبح المال علة لذاته لا مجرد وسيلة للاستمتاع. وإذا كانت النفس الإنسانية، بحسب النص القرآني دائما، مجبولة على حب المال وادخاره، فإن الحض الإلهي على البذل والإنفاق الواجب والمستحب، وتوسيع دائرة المنتفعين بعطائه سبحانه، يحمل النفوس على اجتياز امتحان صعب تتبارى فيه لتقيس مدى انجذابها لبريق المال وسطوته.
تعرض الآيات المذكورة لحوار بين قارون بني إسرائيل وبعض العقلاء من قومه. وبينما يحثه هؤلاء على مراعاة التوازن بين نعيمي الدنيا والآخرة، ومقابلة العطاء بشكرالإحسان للغير، يعتد قارون بجهده الذاتي كمصدر لثرائه، ويطرح فهما للعطاء مبتور الصلة بالله : {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 76-78]. هذا الفهم الذي يرى نعمة المال نظيرا للجهد دون تدخل قوة عليا تهب وتعطي، يُسهم بشكل كبير في نضوب الإيمان وانحسار الوازع الديني. وحين تتآكل الفاعلية الإيمانية التي توجه الفكر والسلوك ، تبرز السمة الثانية من سمات القارونية؛ سمة البغي: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ} [القصص: 76]، ومرد هذه السمة إلى أن وفرة المال تمنح صاحبه قوة ورغبة في التسلط وفرض الرأي. ويزداد الأمر سوءا حين يحشد حوله زمرة المتملقين الذي يُقرون له بمواهب وقدرات تغذي زهوه واعتداده بنفسه!
يروي ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) أن موسى عليه السلام لما نزل عليه الأمر بالزكاة أوجب على قارون أن يُخرج زكاة ماله بمقدار واحد من الألف، فمن كل ألف دينار دينارا، ومن كل ألف شاة شاة واحدة وهكذا. فلما أحصى قارون ما بحوزته وجد أن مقدار الزكاة كبير فامتنع عن إخراجه. ولم يقف به الأمر عند هذا الحد، بل دبر مكيدة لموسى عليه السلام حين دفع مالا لبغي كي تتهمه بأنه فجر بها. غير أن البغي برأت موسى، فأوحى الله تعالى إليه: مُرالأرض بما شئت تطعك، قال: يا أرض خذيهم!
إن الثراء الفاحش عادة ما ينفث في روع صاحبه بأن له من السلطان ما يمنحه حق إصدار الأحكام، وتكييف القيم والعادات والمعايير الاجتماعية بما يُناسب وضعه الاستثنائي. فالناس عنده تُحدد مكانتهم بمقدار ما يكسبون وما يدخرون، أما خطاب المُثل والقيم الإنسانية والعلاقات المبنية على المودة والتعاون والإيثار فلا تعدو، برأيه، أن يكون تبريرا للعجز، أو تحايلا للاستحواذ على ما في حوزة الأثرياء. من هنا تتولد السمة الثالثة من سمات القارونية، ألا وهي سمة الاستعلاء والاعتداد بالثروة والجاه.
يُحيلنا النص القرآني في مواضع عديدة على الممانعة التي أبداها الأثرياء إزاء دعوات الرسل، وحرصهم على تشكيل طبقة عازلة تحول دون بلوغ دعوة الحق قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ. وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ: 34-35 ]، إن سمة الاستعلاء تحملهم على تسفيه رأي النذير: {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّـهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 64- 66].
وتحملهم على تهديد المرسلين بالإيذاء والتهجير القسري: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88].
وتحملهم على ثني المستضعفين عن تصديق دعوات الرسل: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ. أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ. هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 33-37].
وبما أن المال في عرفهم هو مقياس الوجود الإنساني، ودليل الاصطفاء الرباني للخلق، فإنهم يشترطونه حجة على صدق دعوة الرسول: {وَقَالُوا مَالِ هَـٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا. أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان : 6-7].
وغاب عن عقل القاروني أن المال ليس في كل أحواله نعمة، فقد يكون استدراجا يُمحص الله به قلوب العباد، أو بلاء يُمهد الله به اجتثاث المعرضين عن الحق!
إننا حين نستعرض ما بلغته القارونية المعاصرة من تسلط واستخفاف بكل القيم الإنسانية، واعتداد غير مسبوق بالذات والمكانة، نستشعر حقيقة تواضع شأن ثري بني إسرائيل!
فالقارونية المعاصرة لا تتورع عن تمويل المذابح في حق المسلمين صيانة لأمن الكرسي واستقرار البلاط. وهي لا تطمح لاسترقاق الجسد فحسب، بل تسعى وبكل قوة لاستنزاف الإرادة، وإجهاض الوعي وطمس البصائر.
وهي لا يشغلها ولاء حاشية المتملقين أو الزمرة المنتفعة بالفتات، بقدر ما يشغلها ولاء العدو المتربص بها. فلا هم لها إلا استرضاؤه وجلب مودته حتى لو كلف الأمر ضخ دماء المستضعفين لتدوير عجلة اقتصاده!
وهي لا تدك أسوار الماضي فقط، بل تجتث الحاضر وتئد في الثرى بذور المستقبل.
وهي قارونية لا تخرج على القوم في زينتها بل في مدرعاتها ودباباتها وترسانة رعب تهلك الحرث والنسل لنزوة حكم أو شهوة إبادة.
إن مما يثير الحزن في المجتمع الإسلامي المعاصر أن تتعلق آمال العديد من شبابه بمطمح الثراء السريع، والاغتناء ولو بوسائل وأساليب غير مشروعة، وبدل أن يجعلوا من قصة قارون عبرة لكل ضمير حي، ودرسا يصون مقومات الوجود الإنساني من العبث، أبوا إلا أن يرفعوها أيقونة للحالمين!