مات شيخ الأزهر
نشر جدي رحمه الله هذه المقالة سنة 1954 في ظروف تشبه الظروف التي نعيشها اليوم، إلا أن الأسماء تغيرت؛ كان (إمام) الأزهر عبد الرحمن تاج، فصار أحمد الطيب، وكان (إمام) العسكر جمال عبد الناصر، فصار عبد الفتاح السيسي، وما زالت الحرب على الإسلام والإخوان هيَ هي...
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
مقدمة للمقالة بقلم سبط الشيخ، مجاهد ديرانية:
نشر جدي رحمه الله هذه المقالة سنة 1954 في ظروف تشبه الظروف التي نعيشها اليوم، إلا أن الأسماء تغيرت؛ كان (إمام) الأزهر عبد الرحمن تاج، فصار أحمد الطيب، وكان (إمام) العسكر جمال عبد الناصر، فصار عبد الفتاح السيسي، وما زالت الحرب على الإسلام والإخوان هيَ هي، إلا أن الإخوان كانوا وحدهم في الميدان في ذلك الزمن البعيد فصاروا اليوم قطرة في بحرِ جمهورٍ أبيّ حُرّ عظيم لا يرضى بديلًا بالحرية والإسلام… ولن يكون اليوم كالأمس إن شاء الله.
توضيح: تولى (الشيخ) عبد الرحمن تاج مشيخة الأزهر بقرار من طاغية مصر البائد، جمال عبد الناصر، في بداية سنة 1954، وهو نموذج للعالِم الذي يبيع دينه بدنيا غيره؛ كان سيفًا في يد جمال عبد الناصر في حربه الهمجية ضد الإخوان، فأصدر في أعقاب (تمثيلية) حادثة المنشية المشهورة بيانًا شرسًا هاجم فيه الإخوان وحرّض عليهم باعتبارهم (جماعة تعمل على تشويه الدين)، واصفًا إياهم بأنهم (خوارج لا تُقبَل منهم توبة ولا شفاعة)!! فرَدّ عليه جدي بهذه المقالة.
كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:
إنْ مات شيخ الأزهر الشيخ عبد الرحمن تاج فليس أول شيخ يموت، ولقد مضى من قبله أئمة فُحولٌ كانوا مصابيح الهدى وكانوا بحار العلم، وكانوا في ثباتهم على الحق جبالًا لا تزول حتى تزول عن مطارحها الجبال… ولكنه أول شيخ للأزهر يموت ونفسُه (حيَّة) تسعى!!
إن مَن قبله مات ودُفن، وهذا عاش ولُعن، فما مات في جسده الفاني، ولكن مات قلبُه ومات ضميره ومات إيمانه، وباع الآجلة بالعاجلة، وآثر الدنيا على الآخرة، وفضّل رضا جمال عبد الناصر على رضا الربّ الناصر لأوليائه، القاهر فوق أعدائه، الجبار الذي لا يشاركه كبرياءه أحدٌ إلا قصمه… فحكَمَ جازاه الله بتكفير صفوة المؤمنين في هذا العصر، الإخوان المسلمين، الشباب الذين نشؤوا في طاعة الله، وبشّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ممّن يظلهم عرش الله يوم لا ظل إلا ظله. شباب عرفوا الإسلام وتمسكوا به، أمّوا المساجد على حين يؤم أترابهم الملاهي والمراقص، وصفّوا أقدامهم في هدآت الليل على حين يسهر أولئك في الخزي والعار، وناجَوا ربهم في خلوات الأسحار على حين ينام أولئك نوم العَجْماوات، وحملوا في سبيل الله مِن ظلم الظالمين ما تنطحن تحته الرواسي، فما لانوا ولا استكانوا، ولا كفروا بالله مُذ آمنوا به، ولا ضاقوا بمحن الأيام منذ استعذبوا لذائذ الطاعات.
وجاء في بيانه الذي أذاعته محطة مصر بالآيات محرَّفات عن مواضعها، والأحاديث مَسوقةً غيرَ مساقها، ليوهم عامة المصريين أنه يدافع عن الدين ويتكلم بلسان العلم، فلم يسعني والله السكوت وأنا أعلم أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأن على المسلم أن يقول الحق ولو على نفسه أو صديقه أو زميله، وخفت إن سكتنا جميعًا ولم نَرُدّ على هذا الدعيّ المفتري أن يعمّنا الله بعذاب من عنده.
ولا أدري من هو الذي خدع شيخ الأزهر والنّفَرَ من علماء السوء الذين شاركوه خزيه، فأخبرهم أن في الإسلام (إكليروس)، وأن شيخ الأزهر كالبابا في القرون الوسطى، يُدخل الجنة ويحرم منها ويبيعها قراريط وأمتارًا، ولم يعلم أن الإسلام ليس فيه رجال دين، وأن كل مسلم هو رجل الدين، وأن امرأة عجوزًا ردّت على عمر… وما نافق عمر ولا زوّر، ولكن اجتهد فأخطأ، فلماذا لا أردّ على شيخ الأزهر، وهو لا يقاس بعمر ولا يدانيه ولا يوزن بشِراك نعله، وهو قد غيّر وبدل وكذب ونافق، وألزم نفسه قاعدة (من كفّرَ مسلمًا فقد كفر)، فكيف بمن يكفّر الملايين من صفوة المسلمين؟
ولو فرضنا -وهو فرض لا يلزم ولا يثبت حقًا- أن الاشتراك في السعي لقلب الحكم في مصر كفر، فكيف حكم بالتكفير قبل صدور الحكم من هذه المحكمة العجيبة، وكيف عمّمه على الإخوان المسلمين جميعًا في آفاق الأرض وهم ملايين وملايين، من كل شاب رجلُه خيرٌ من رأس الشيخ المنافق، وقفاه أفضل من وجهه، وساعة منه في طاعته وعبادته خير من عُمْر في النفاق؟! وأين شيخ الأزهر؟ وما له خرس عن إنكار المنكرات في مصر: عن الفجور المعلَن، عن الفسق البادي، عن الخمور والشرور، عمّا أحدثه هؤلاء الحاكمون من ألوان المعاصي، من إبعاد الصالحين وإدناء الراقصات والراقصين؟ ما له لم يجد -هو وصحبه هيئة كبار العلماء- ما يثير غضبهم إلا أن يكون في الدنيا هؤلاء الملايين من الشباب المؤمنين الصالحين المصلحين؟
أنا أعرف مصر من خمس وعشرين سنة، وأعرفها الآن، وأشهد أن ليس فيها من خير جَدَّ إلا كان مصدره دعوة الإخوان. وهل كان فيها من قبلُ شبابٌ يملؤون المساجد، وطلابٌ يقومون الليل ويتلون القرآن، ويتزاحمون على الطاعات تزاحم غيرهم على الراقصات والسينمات؟ وما أنا من الإخوان في قيود السجلات، ولكني منهم في العقيدة والدين. وقد عوّدني الله أن لا أقول إلا الحق، وأن أجهر به إن خرس عنه ضِعاف الإيمان أو صرّح علماء السوء بغيره، كهؤلاء الذين كتبوا هذا البيان. هؤلاء الذين اغترّوا حين سَمّاهم الحاكمون (هيئة كبار العلماء)، وعطس إبليس في مناخرهم وزيّنَ لهم الجاه والمنصب، فبذلوا في سبيله كل شيء، حتى الدين، فجعلوا علمهم مطيّة يصلون به إلى قلب كل حاكم.
قرروا بالأمس أن فاروق من أشراف المسلمين وأنه من نسل الرسول صلوات الله عليه، ذلك لمّا كان فاروق هو الملك الذي يعطي المناصب والرتب، فلما زال لم يستحوا أن يجعلوه شيطانًا مَريدًا، بعد أن جعلوه الملك الصالح المصلح والشريف الحسيب النسيب! وهم اليوم يقررون كفر الإخوان -أستغفر الله من رواية هذا الهذر، ولئن عاد الإخوان غدًا وصار لهم الأمر عادوا يتزلفون إليهم ويجعلونهم الهادين المهديين، وسترَون. شِنْشِنة عرفناها من أَخْزَم وخُلُق في الصَّغار ألفناه وعرفناه. أما الإخوان فقد أثبتت الأيام أنهم صفوة المسلمين في هذا العصر، وأنهم كالذهب المصفَّى لا تزيده النار إلا صفاء.
فيا أيها الإخوان: اصبروا واثبتوا، فإنه إن كان شيخ الأزهر عليكم فإن الأمة الإسلامية كلها معكم، والله معكم، ومن كان مع الله فلا يبالِ أحدًا. اصبروا آل عمّار، موعدكم الجنة!
وبعد، فهذه تعزية بشيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء. لقد ماتوا، فلا تذكروا بعد اليوم شيخ الأزهر ولا هيئة كبار العلماء! ولو أنهم ماتوا ودُفنوا لكان خيرًا لهم، ولكن ماتت ضمائرهم وماتت قلوبهم، فنطقت ألسنتهم بهذا البيان الذي رضي عنه عبد الناصر وصحبه، وغضب عليهم من أجله الناس جميعًا والملائكة، وغضب عليهم الله المنتقم الجبار. إلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.