اليقين في حياة المحتسبين
إن الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر قد تساوره شكوك في حياته الاحتسابية وقلق على مصير عمله، ولا يقضي على هذا القلق، ويزيل تلك الوساوس والشكوك ويطردها إلا اليقين.
- التصنيفات: تزكية النفس -
إن الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر قد تساوره شكوك في حياته الاحتسابية وقلق على مصير عمله، ولا يقضي على هذا القلق، ويزيل تلك الوساوس والشكوك ويطردها إلا اليقين.
إنه اليقين الذي من ذاق حلاوته لم يضره مرارة الشك على المصير، اليقين الذي من عرفه حق معرفته ووقر في قلبه لم يبال بكيد الكائدين، ولا بمكر الحاقدين، وتآمر المنافقين؛ لأنه واثق من عمله، موقن بالنصر والتمكين إذ العاقبة للمتقين، ولو بعد حين، فهو وعد من الله لعبادة الموقنين جاء في التنزيل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ . وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173]، ومن هنا فاليقين زاد يجب عليك أيها المحتسب أن تتزود به لتواصل طريقك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو بلسم نداوي به جراحك التي أصبت بسهام المستهزئين والشامتين من المتطاولين المعرضين، ومن ثم يشتد عودك ويقوي صلبك لمواصلة المسيرة في درب المحتسبين، قد أصبحت موقناً بأن المنكر زائل وأن المعروف قائم بك أم بغيرك، وإنما أنت مستعمل قد استعملك الله عز وجل لخدمة دينه، وإقامة شرعه، وأناط بك القيام بهذه الشعيرة.
ومن هنا فليكن اليقين هو سلاحك أيها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؛ لأن طريقك محفوف بالمخاطر، مليء بالأشواك، كثيرة مفاوزه ولا يعينك على قطع تلك المفاوز إلا اليقين، الباعث على الأمل بتغير الحال، وتصحيح المسار بإذن العزيز الغفار. قال الشيخ أَبو إِسماعيل الأَنصاريّ رحمه الله: "اليقين مَرْكَبُ الآخِذِ في هذا الطَّريق، وهو غاية درجات العامّة وأَوّل خطوة للخاصة، لمَّا كان اليقين هو الَّذي يحمل السّائر إِلى الله" (بصائر ذوي التمييز فى لطائف الكتاب العزيز، [1/ 1682]).
● منزلة اليقين:
لكي تعلم أخي المتحسب أهمية اليقين في حياتك، وما له من الأثر النفسي عليك وعلى عملك العظيم، أوقفك على كلمات عطرة سطرتها أنامل هذا الإمام الفذ وهو ابن القيم رحمه الله، إذ يقول موضحاً منزلته ومكانته من الدين: "ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة اليقين، وهو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وعمل القوم إنما كان عليه، وإشاراتهم كلها إليه، وإذا تزوج الصبر باليقين ولد بينهما حصول الإمامة في الدين، قال الله تعالى وبقوله يهتدي المهتدون: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، وخص سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين، فقال وهو أصدق القائلين: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20]، وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين، فقال: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:4-5].
فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال القلوب التي هي من أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية، وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره...، ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم، فامتلأ محبة لله وخوفاً منه، ورضي به وشكراً له وتوكلاً عليه وإنابة إليه، فهو مادة جميع المقامات والحامل لها.." (مدارج السالكين لابن القيم، [2 / 397-398] باختصار).
● أنواع اليقين ودرجاته:
ولليقين أخي المحتسب أربع شعب وهي كما بينها علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: "اليقين على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأويل الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين، فمن أبصر الفطنة تأول الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين" (اليقين لابن أبي الدنيا، [ص:35]).
أما درجات اليقين فهي على ثلاثة درجات:
- علم اليقين: وهو ما ظهر من الحقّ، وقبول ما غاب للحقّ، والوقوف على ما قام بالحقّ، قال تعالى: {كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5].
- عين اليقين: وهو ما استغنى به صاحبه عن طلب الدّليل؛ لأنّ الدّليل يطلب للعلم بالمدلول، فإذا كان المدلول مشاهداً له، فلا حاجة حينئذ للاستدلال، قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7].
- حق اليقين: وهذه منزلة الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام، فقد رأى نبيّنا صلى الله عليه وسلم بعينه الجنّة والنّار، أمّا بالنّسبة لنا فإنّ حقّ اليقين يتأخّر إلى وقت اللّقاء، ولذا يأتي ذكره في القرآن بعد أن يدخل أصحاب الجنة الجنة، وأصحاب النار النار. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة:51] (كلام ابن القيم في مدارج السالكين: [2 / 403] بتصرف).
يقول ابن القيم رحمه الله موضحاً وممثلاً لتلك المراتب: "وقد مثلت المراتب الثلاثة بمن أخبرك: أن عنده عسلاً وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه، فازددت يقيناً، ثم ذقت منه، فالأول: علم اليقين، والثاني: عين اليقين، والثالث: حق اليقين. فعلمنا الآن بالجنة والنار: علم يقين، فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق، وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق، فذلك: عين اليقين، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار: فذلك حينئذ حق اليقين" (مدارج السالكين لابن القيم: [2 / 403]).
● كيف تحقق اليقين؟
وأظنك أخي المحتسب قد تحدثك نفسك وقد عرفت منزلة اليقين وأنواعه ودرجاته، فتقول: وكيف يمكن تحقيقه؟ ويجيبك على ذلك ابن عطاءٍ رحمه الله بقوله: "على قَدْرِ قُرْبهم من التَّقْوَى أَدْرَكُوا من اليقين، وأَصل التَّقْوَى مُبايَنَة المَنْهِىّ عنه، فعلى مفارقتهم النفس وصلوا إِلى اليَقِين" (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، [1 / 1680]).
وقد على قدر بعدك أخي المتحسب عن التقوى؛ بترك المأمور وفعل المحضور -ولو في الخفاء- يقل يقينك، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، أي: لما كانوا صابرين على أوامر الله وترك نواهيه وزواجره وتصديق رسله واتباعهم فيما جاؤوهم به، كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله، ويدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. ثم لما بدلوا وحَرَّفوا وأوَّلوا، سلبوا ذلك المقام، وصارت قلوبهم قاسية، يحرفون الكلم عن مواضعه، فلا عمل صالحًا، ولا اعتقاد صحيحًا" (تفسير ابن كثير / دار طيبة، [6 / 371]).
أما عن الخطوات العملية التي توصل إلى تحقيق اليقين يبينها لك أبو السري الباهلي بقوله: "الاهتمام بالعمل يورث الفكرة، والفكرة تورث العبرة، والعبرة تورث الحزم، والحزم يورث العزم، والعزم يورث اليقين، واليقين يورث الغنى، والغنى يورث الحب، والحب يورث اللقاء" (اليقين لابن أبي الدنيا، [ص:36]).
ومن هنا فإنه ينبغي عليك أخي المحتسب وقد عرفت كيفية تحقيق اليقين أن تتعلمه، وهذا هو هدي السلف الصالح، فقد أثر عن خالد بن معدان رحمه الله قوله: "تعلموا اليقين كما تعلمون القرآن حتى تعرفوه فإني أتعلمه" (اليقين لابن أبي الدنيا، [ص:34]).
● كيف تعرف أنك من الموقنين؟
قال ذو النون: "ثلاثةٌ من أَعْلام اليقين: قِلَّةُ مُخالطة الناس في العِشْرَة؛ وتَرْكُ المدحِ لهم في العِطيَّة؛ والتَنَزُّه عن ذَمِّهم عند المنع. وثلاثةٌ من أَعلامه أَيضاً: النَّظر إِليه في كل شيءِ؛ والرّجوع إِليه في كلّ أَمر؛ والاستعانة به في كلّ حال" (بصائر ذوي التمييز فى لطائف الكتاب العزيز، [1 / 1680]).
● الفوائد التي يجنيها المحتسب في حياته في ظل اليقين:
أولاً: باليقين تنال الجنة ويحصل النجاة من النار، فلقد جاء في حديث سيد الاستغفار قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» (رواه البخاري في صحيحه من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، برقم [6306]).
قال الحسن: "باليقين طلبت الجنة، وباليقين هرب من النار، وباليقين أديت الفرائض، وباليقين صبر على الحق" (اليقين لابن أبي الدنيا: [ص: 37]).
ثانياً: أنه من علامات الإيمان وحصول البشارة لصاحبه، قال تعالى: {طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ . هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:1-3].
ثالثاً: تحقيق الهدى والفلاح من بين العالمين، قال تعالى: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:4-5].
رابعاً: بتحقيق اليقين يحصل الاقتداء بالأنبياء والمرسلين: قال تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم عليه السلام: {وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75].
خامساً: اليقين يولد الشجاعة لديك أيها المحتسب فتركب الأخطار، وتباشر الأهوال التي يخوف الشيطان بها أولياءه، فتمضي قدماً لا تخاف إلا الله تعالى، قال بعضهم: "واليَقِينُ يَحمِلُ على مُباشَرَة الأَهوال ورُكوب الأَخطار، وهو يأْمرُ بالتقدّم دائماً، فإِن لم يقارِنْه العِلْم حَمَل على المعاطِب، والعلم يأْمرُ بالتأّخُّر دائماً وبالإِحِجام، فإِنْ لم يُصِبْه اليقينُ فقد يَصُدّ صاحبه عن المكاسب والغنائم" (بصائر ذوي التمييز فى لطائف الكتاب العزيز، [1 / 1682]).
سادساً: يدعو إلى قصر الأمل، والزهد في الدنيا، قال ذُو النُّون: "اليقين يدعُو إِلى قَصْرِ الأَمَل، وقَصْرُ الأَملِ يدعُو إِلى الزُّهْد، والزُّهْدُ يُورِثُ الحكمةَ، وهى تُورث النَظَر في العَواقِب" (بصائر ذوي التمييز فى لطائف الكتاب العزيز، [1 / 1679]).
سابعاً: باليقين تنال أيها المحتسب الإمامة والشرف في الدين، لاسيما إذا اقترن بالصبر: قال تعالى: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين" (مدارج السالكين لابن القيم، [2 / 154]).
ثامناً: اليقين باعث لك أيها المحتسب على العمل: قال لقمان لابنه: "يا بني العمل لا يستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله" (اليقين لابن أبي الدنيا: [ص:46]).
تاسعاً: اليقين يورث التفكر والتأمل في آيات الله والاعتبار بالأحوال والأحداث، قال تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:4]. وقال تعالى: {هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:20].
عاشراً: باليقين يطرد الشك وتزال الريبة ويصرف كيد الشيطان وكيده، وقد كان من وصايا لقمان الحكيم لابنه قوله: "يا بني إذا جاءك الشيطان من قبل الشك والريبة فاغلبه باليقين" (اليقين لابن أبي الدنيا، [ص:46]).
وفي الأخير: فاحرص أخي المحتسب على أن تمشي في درب الموقنين، وأن تسير في منازل السالكين، لتخف عليك التكاليف، وتسهل عليك الأعباء، وتهون عليك معاناة الخلق، ومن ثم تنشط لعملك الاحتسابي، وتجّد في سيرك الأخروي، لتنال جنة ربك بإذن سبحانه وتعالى.
والحمد لله ربّ العالمين..
تميم بن محمد الأصنج