القرآن والحرب النفسية ضد الأعداء
ياسر منير
تُعدّ الحرب النفسية ذات أثرٍ فعّال في حسم المعارك لصالح المتمكن من إدارتها بشكلٍ متقن، وكانت العمود الفقري في مسيرة الجهاد الإسلامي من بداية ظهور الدعوة الإسلامية.
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
لله وحده المحمدة، وعلى رسله أفصح الناطقين، وأعرب المرشدين، وآلهم هداة الإسلام، وصحبانهم السادة الأعلام أزكى الصلاة، وعطر السلام، وبعد:
فتُعدّ الحرب النفسية ذات أثرٍ فعّال في حسم المعارك لصالح المتمكن من إدارتها بشكلٍ متقن، وكانت العمود الفقري في مسيرة الجهاد الإسلامي من بداية ظهور الدعوة الإسلامية.
وقد استخدمها الإسلام ضد خصومه استخدامًا رائعًا بلغ بها الذروة من حيث الأخلاق العالية التي صاحبت استخدامها. وكان لها أبلغ الأثر في بث الرعب والحَزَن في نفوس خصوم الإسلام في كل عصر من عصوره إلى يومنا هذا. وقد زخرت آيات القرآن الكريم بكثير من الصور التي أثرّت على خصوم الإسلام نفسيًا بمجرّد سماعهم لها.
واليوم حيث تعيش أمتنا مرحلة من أحلك مراحلها الاقتصادية والعسكرية والسياسية إذ أضحى دم المسلم أرخص الدماء، وماله أرخص الأموال. وأصبح الخصوم يتلذذون في إيذاء المسلمين وتوجيه الضربة تلو الضربة في كل مكان من العالم. حيث هُزم المسلمون من داخلهم، واستطاع عدوهم أن ينال منهم نيلًا عظيمًا؛ لذلك أجدني بحاجة ماسة للعودة إلى المنبع الصافي لمعرفة طريقة إدارة الإسلام معركته مع الخصوم.
وسورة الأنفال -وهي التقرير الميداني لمعركة بدر الكبرى- معين لا ينضب؛ إذ ترسم منهجًا واضحًا للحرب النفسية نحاول إماطة اللثام عن بعضه.
أولًا: مفهوم الحرب النفسية:
تُعرف الحرب النفسية بـ "الاستخدام المخطط للدعاية أو ما ينتمي إليها من الإجراءات الموجهة للدولة المعادية أو المحايدة أو الصديقة؛ بهدف التأثير على عواطف وأفكار وسلوك شعوب هذه الدول بما يحقق للدولة (المواجهة) أهدافها".
وقيل هي: "الاستخدام المدبّر لفعاليات معينة معدة للتأثير على آراء وعواطف وسلوك مجموعة من البشر وقت الحرب أو الطوارئ، ويستهدف منها إضعاف معنوياتهم، وتغيير منهج تفكيرهم بشكل يحقق مصالح العدو في القضايا التي يجري الصراع من أجلها...".
وقيل: "استخدام مخطط -من جانب دولة أو مجموعة من الدول في وقت الحرب أو في وقت السلام- الإجراءات إعلامية، بقصد التأثير في آراء وعواطف ومواقف وسلوك جماعات أجنبية معادية أو محايدة أو صديقة تساعد على تحقيق سياسة وأهداف الدولة أو الدول المستخدمة".
والتعاريف مثيرة لكن نستطيع أن نقول -بجلاء- أن الحرب النفسية هي: الأعمال الفكرية والثقافية التي تستهدف الروح المعنوية للخصم لإضعافها وتغيير وجهة العواطف إلى عكسها؛ حتى لا يقوى الجيش وأنصاره على المواجهة فتكون النتيجة تحقق الأهداف المطلوبة من خلال هذه الوسيلة الفعالة.
ثانيًا: أهداف الحرب النفسية:
الحرب النفسية سلاح فعّال فتّاك في المعارك، وهي أقوى تأثيرًا من الحرب المادية، وتنبع أهميتها من خلال تأثيرها على النفس الإنسانية وخوالجها. فالمعنويات المنهارة لا تستطيع الثبات وإن امتلكت أحدث الأسلحة، أو كانت أكثر عدداً وعِدّة ممن يواجهها. ويؤيد هذا ما قاله قادة عسكريون في العصر الحديث، يقول تشرشل: "كثيراً ما غيّرت الحرب النفسية وجه التاريخ"، ويقول شارل ديجول: "لكي تنتصر دولة ما في حرب فإن عليها أن تشنّ الحرب النفسية قبل أن تتحرّك قواتها إلى أرض المعركة، وتظل هذه الحرب تساند هذه القوة حتى تنتهي من مهمتها".
ويقول رومل: "إن القائد الناجح هو الذي يُسيطر على عقول أعدائه قبل أبدانهم".
وتحقق الحرب النفسية هدفها في تحطيم روح العدو المعنوية وإرادته القتالية من خلال المهام التالية:
1- تشكيك العدو في سلامة وعدالة الهدف الذي يُحارب من أجله.
2- زعزعة ثقة العدو في قوته، وإقناعه بأن لا جدوى من شنّ الحرب أو الاستمرار في القتال.
3- بث الفرقة والشقاق بين صفوف العدو وجماعاته.
4- بث التشرذم بين العدو وحلفائه.
5- تحييد القوى الأخرى وحرمان العدو من محالفتها.
ثالثًا: الحرب النفسية في صدر الإسلام:
عرف الإسلام هذا السلاح الفتاك من أول أيام ظهوره، فَمَنْ يقرأ السور المكية يجد أن القرآن كان يسير في اتجاهين هما:
- الاتجاه الداخلي: وهو بناء العقيدة والتربية الروحية، والتأكيد على رفع المعنويات.
- الاتجاه الخارجي: وهو تحطيم معنوية الخصم، إذ اتجه القرآن إلى تسفيه أحلام المشركين، والهجوم على معتقداتهم حتى أوصلهم إلى مرحلة الشك، بل أوصل بعضهم إلى اليقين ببطلان تلك المعتقدات، ومن ثم أضعف معنوياتهم في الدفاع عنها.
ولما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وأُذِنَ له بالقتال في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، استخدم الحرب النفسية أسلوبًا ثابتًا ودائمًا (كاستراتيجية) في كل المعارك، وكان القرآن ينزل ليضيف أو يُعدِّل أو يؤيد ذلك الأسلوب (الاستراتيجية) المستخدم.
وفي المدينة المنورة تنوّع الخصوم، ففي حين كانت قريش في مكة هي الخصم الوحيد أصبح الخصوم في المدينة ثلاثة صنوف: مشركو العرب، اليهود، المنافقون. وسنعرض لإدارة القرآن الحرب النفسية ضد هؤلاء الخصوم، كما يلي:
1- مشركو العرب:
تُعدّ قريش الخصم الأول الذي اصطدمت به الدعوة الإسلامية في أول أيام نزولها، وهذا الخصم كما قلنا شنّ عليه القران حرباً نفسية أوصلته إلى حالة الصفر فيما يتعلق بالمعتقدات، فكل المعارك التي خاضتها قريش مع المسلمين ليست دفاعًا عن المعتقدات؛ بل إن المعتقدات كانت ثانوية.
فمعركة (بدر) مثلاً: كان دافع قريش اقتصاديًا، وهو الدفاع عن القافلة أو حماية طرق التجارة. ومعلوم أن هذا الدافع كان تأثيره على الخاصة من قريش -وهم مَنْ يملك المال- فمعنويات هذا الفريق تنطلق من كونه يدافع عن ماله، بينما من لا مال له لا معنوية لديه فلماذا يقاتل؟
لذلك كان جُل قتلى المعركة من المشركين من عِليَة القوم من الناحية الاقتصادية والسياسية.
ومعركة (أحد) كان الهدف هو الثأر لقتلى (بدر)، وهذا يتعلق بجانب العصبية والخوف من العار، وهو أمر لا علاقة له بالمعتقدات البتة.
2- اليهود:
اليهود هم الخصم (الفكري والعقدي) للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ لذلك فقد اختلفت مواجهتهم، حتى إن معارك المسلمين مع اليهود تختلف اختلافًا كبيرًا عن معارك المسلمين مع قريش؛ لأن اليهود ينطلقون من (فكر وعقيدة)، وكانوا يرون لأنفسهم فضلاً على العرب {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة من الآية:89].
ومع امتلاك اليهود للعقيدة، فقد كانت معنوياتهم في الحضيض، لدرجة أنهم لم يثبتوا ثبات قريش، مع أنهم كانوا يملكون من العِدّة والعتاد ما لا تملكه قريش، بل ما لا يملكه العرب مجتمعون، فقد غنم المسلمون من اليهود أكثر مما غنموا من مشركي العرب. وتعود تحطم الروح المعنوية لدى اليهود من وجهة نظرنا إلى أسباب أهمها:
1- معرفتهم من خلال كتبهم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:20].
2- شهودهم ومعرفتهم لِمَا دار بين المسلمين ومشركي العرب من المعارك، وما آلت إليه تلك المعارك من هزائم للمشركين، وهذا دمَّر معنوياتهم بشكلٍ جعلهم يصلون إلى مرحلة اليقين بعدم القدرة على مواجهة المسلمين؛ مما حدا بهم إلى تحزيب الأحزاب، والتحالف مع الوثنيين بكل قبائلهم ضد المسلمين، كما حدث في غزوة الخندق بل وصل بهم الأمر حد قيامهم بتعبئة مشركي العرب، والشهادة بأن ما يعتقدونه من الوثنية أهدى مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقد صور القرآن هذا فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:51].
- الطبيعة التي فُطرِوا عليها من الجبن والذل، فقد وصفهم الله بذلك قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة من الآية:61].
3- المنافقون:
وهم الخصم أو العدو الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا الخصم كانت الروح المعنوية لديه في أدنى مستوياتها، الأمر الذي جعلهم يلجؤون إلى أسلوب الخيانة والتلصُّص والكذب والكيد والمخادعة، وهذا لا يلجأ له إلا من كان على يقين أنه لا يستطيع المواجهة -لا أعني المواجهة العسكرية بل وحتى المواجهة الكلامية- فقد أظهر المنافقون خلاف ما يبطنون ولكن القرآن فضحهم فقال: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، ووصل بهم الحال إلى تشجيع غيرهم خِفية على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، والوعد كذباً بنصرتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ ِلأَخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ . لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الحشر:11-13].
وترجع الروح المعنوية الخائرة لدى المنافقين إلى أسباب نذكر منها:
1- حضورهم بعض المعارك التي خاضها المسلمون مع المشركين واليهود، ذلك الحضور الذي رأوا فيه الموت المُحقَّق، وشاهدوا شدة بأس المسلمين مع عدوهم في المعارك؛ مما جعلهم لا يفكرون مجرد التفكير بالمواجهة الكلامية فضلًا عن المواجهة العسكرية.
2- غياب المستند العقدي والفكري (الأيدلوجي) لهم؛ لذا كان منطلقهم هو الكِبر والحقد والغل ضد الإسلام والمسلمين {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون من الآية:8].
3- قلة أعدادهم فهم -مقارنة بأعداد المشركين أو اليهود أو المسلمين- قلة قليلة لذلك كان لسان حالهم يقول: إذا كان اليهود والمشركون قد هُزِموا أمام المسلمين فكيف بنا ونحن أقل عدداً وعدة؟
4- تعرية القرآن لهم، وتوضيحه حقيقتهم الماكرة، حيث اكتفى الإسلام بمواجهتهم إعلاميًا.
ومن أهم الوسائل التي يجب على الأمة المسلمة أن تأخذ بها لحماية جبهتها الداخلية والخارجية من الحرب النفسية التي يشنها العدو عليها؛ ما يلي:
1- الإيمان وقوة العقيدة: وذلك لأن العقيدة الراسخة القائمة على الإيمان بالله الذي لا يتزعزع؛ هي الركيزة القوية والعامل المنيع لتحصين المجاهد ضد الحرب النفسية.
2- الوعي بأهداف العدو وأساليبه في الحرب النفسية؛ لأن ذلك يُحصِّن المقاتل ضد آثار الحرب.
3- كتمان الأسرار ومنع ترويج الإشاعات، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].
4- التصدي للقوى المستترة التي تُروِّج الإشاعات، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60].
5- التلويح بالقوة: وهو مظهر آخر من مظاهر الحرب النفسية، ويُعتبر نوعًا من القتال غير المباشر هدفه إحباط معنويات العدو.
6- التهويل في الحديث عن قوة الاستعدادات ضد الأعداء. وقد استخدم التتار هذه الاستراتيجية في حربهم ضد المسلمين.