التعليم الديني في تركيا وصراع الهوية - معاهد إمام خطيب نموذجًا

منذ 2013-09-03

واجه التعليم الديني في تركيا أحلك فتراته عقب سقوط الخلافة واعتلاء زمرة من العلمانيين سدة الحكم. فرغم أن قانون توحيد التدريس الذي أقرّه البرلمان التركي في مارس 1924م لم ينص صراحة على إلغاء أنواع التعليم التي كانت سائدة في العهد العثماني، إلا أن ترسيخ العلمانية والمبادئ الأتاتوركية كهوية بديلة؛ ألزم السادة الجدد بضرورة تصفية الهوية الإسلامية...


واجه التعليم الديني في تركيا أحلك فتراته عقب سقوط الخلافة واعتلاء زمرة من العلمانيين سدة الحكم. فرغم أن قانون توحيد التدريس الذي أقرّه البرلمان التركي في مارس 1924م لم ينص صراحة على إلغاء أنواع التعليم التي كانت سائدة في العهد العثماني، إلا أن ترسيخ العلمانية والمبادئ الأتاتوركية كهوية بديلة؛ ألزم السادة الجدد بضرورة تصفية الهوية الإسلامية، وتجفيف منابع التعليم الديني عبر إغلاق مؤسساته، ورفض تصنيف الخريجين ضمن فئة موظفي الدولة.

ارتبط إذن ظهور معاهد إمام خطيب بصدور قانون توحيد التدريس الذي يُعد من بين القوانين الثمانية للثورة؛ حيث افتتحت في العام نفسه 29 مؤسسة رغم كل أشكال التضييق وضعف التمويل. لكن عقب الحرب العالمية الثانية وإقرار مبدأ التعددية الحزبية، تمكنت القوى الإسلامية الحية من استصدار قانون يقضي بافتتاح معاهد إمام خطيب تحت إشراف رئاسة الشؤون الدينية، وتحديد مهامها في إعداد موظفين دينيين يواجهون أشكال الانحراف الديني التي عمت المجتمع التركي.

بموجب القانون الأساسي لوزارة التربية فإن معاهد إمام خطيب لا تختلف كثيرًا عن باقي الثانويات العامة الرسمية إلا من حيث اعتبارها الدرس الديني من صلب المنهاج المقرر؛ فهي تتألف من مرحلتين دراسيتين، تمتد المرحلة المتوسطة لثلاث سنوات والثانوية لأربع سنوات، ويلجها الطلاب الذين استكملوا المرحلة الابتدائية. أما بالنسبة للمنهاج فيتكون من ثلاث وحدات دراسية:

- دروس الاختصاص، وتضم المواد الدينية كالقرآن الكريم والعقائد واللغة العربية والفقه والخطابة وغيرها؛ وهي الدروس التي تُميّز هذه المعاهد عن بقية المؤسسات التعليمية الرسمية.

- دروس الثقافة العامة، وتشمل نفس الدروس المعطاة في الثانويات الرسمية؛ كالفلسفة والتاريخ والأدب التركي والرياضيات والمبادئ الأتاتوركية وغيرها.

- دروس مختارة، يملك الطالب حق اختيار ما يناسب ميوله ورغباته، كالفنون والرياضة واللغات الأجنبية والكومبيوتر (محمد نور الدين: تركيا الجمهورية الحائرة. مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق. بيروت 1998م. ص:[158]).

"حظيت معاهد إمام خطيب بإقبال شعبي ملحوظ كتعبير على التمسك بالهوية الإسلامية من جهة، ومن جهة أخرى لما تمتعت به المعاهد من جودة في التعليم وانضباطية فائقة. لكن الجدل بشأنها لم يتوقف بين علمانيين يرونها تهديدًا لمبادئ أتاتورك، وقوى دينية معارضة للتطرف العلماني ومتمسكة بحق الشعب في تعليم يعزز انتماءه الديني. فتعرّضت المعاهد مرارًا للحظر الجزئي وتحديد مساهمة الدولة في التمويل ودفع رواتب الأساتذة؛ مما جعلها تعتمد بشكل كبير على مساهمات الأهالي والأوقاف والجمعيات الخاصة. وكان التضييق يبلغ أشده في الفترات التي تلي انقلاب المؤسسة العسكرية على الحكومة المنتخبة، حيث حُذفت المواد الدينية في انقلاب مارس 1971م، وصدر قرار بحظر التحاق الفتيات بها عقب انقلاب 1972م. أما بعد احتدام المواجهة بين الجيش وحزب الرفاه الإسلامي سنة 1997م فقد أصدرت حكومة الائتلاف قرارًا يقضي برفع مدة التعليم الإلزامي من خمس إلى ثمان سنوات، مما يعني ضمنيًا شطب المرحلة المتوسطة من معاهد (إمام- خطيب) التي كان لِزامًا على كل طالب اجتيازها لإتمام مرحلته الابتدائية" (محمد نور الدين: تركيا الجمهورية الحائرة. مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق. بيروت 1998م. ص:[156]).

أدركتْ القوى المناهضة للحِراك الإسلامي في تركيا أن انتشار هذه المعاهد وتزايد الإقبال عليها يرفع من أسهم الأحزاب الدينية، ويوفر لها قاعدة عريضة تدعم حضورها القوي على المستويين السياسي والاجتماعي. وما من شك في أن التعليم يُعد أداة مركزية لتحقيق المقاصد الكبرى لأي حركة إصلاحية، إلا أن النهج الاستئصالي الذي تبنته المؤسسة العسكرية والحكومات الموالية لها أثبت عجزه عن تغيير الهوية الثقافية والحس الزائد بالانتماء لأمة الإسلام.

وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى عوامل أخرى يرجع لها الفضل في تجذير الوعي بضرورة التصدي لمحاولات تشويه وطمس الحقيقة الإسلامية، وفي مقدمتها الدور الكبير الذي لعبه الإمام سعيد النورسي مطلع القرن العشرين لإحياء حركة التعليم، ومواجهة دعاة الطورانية والوطنية الضيقة. إذ كان لـ (رسائل النور) التي بثها بين طلابه وأتباعه تأثير إيجابي على المربين والمعلمين في مواجهتهم للجهل والخرافة وعوامل التحلل الحضاري.

يحرص النظام التركي اليوم على تقديم نموذج معتدل للتعليم الديني يمزج بين المعارف الإسلامية والتأثيرات الغربية، خصوصًا وأن فئة عريضة من صانعي القرار السياسي والإعلامي هم من خريجي هذه المعاهد وفي مقدمتهم الرئيس التركي عبد الله غول، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. وإذا كان بعض المحللين يُعزون الاهتمام بهذه المعاهد إلى التغيير الذي طرأ على السياسية الخارجية التركية منذ تولي حزب العدالة والتنمية شؤون البلاد، إلا أنها وبكل تأكيد خطوة إيجابية لإنهاء التذبذب بين الشرق والغرب، وتخليص النظام التعليمي من أزمة الهوية.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

  • 2
  • 0
  • 4,809

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً