أين ضمائرنا المتصلة
إن الدول والشعوب والحكومات لتسن القوانين وتوجد التشريعات وتحدد العقوبات التي تكفل لها ولأفرادها الحياة الطيبة والآمنة، فتحفظ الحقوق وتنجز الأعمال وتؤدى الواجبات وتكافح الجرائم والاختلالات، وأصبح الفرد ينظر عندما يقدم على عمل إلى موقف القانون والعقوبة المترتبة على ذلك فإذا وجدت وسائل الرقابة البشرية التزم بذلك وإلا فإنه سرعان ما يتفلت ويتهرّب ويتحايل على هذا القانون.
- التصنيفات: التقوى وحب الله -
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي رفع السماء بلا عمد، الحمد لله الذي خلق الخلق وأحصاهم عددا، الحمد لله الذي رزق الخلق ولم ينس منهم أحدا، أحمده سبحانه وأشكره حمداً وشكراً كثيراً بلا عدد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلّى الله وسلّم عليك يا رسول الله:
يا خير من دفنت في القاع أعظمه *** فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه *** فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الحبيب الذي ترجى شفاعته *** عند الصراط إذا ما زلت القدم
أما بعد:
عباد الله: الضمير هو تلك القوة الروحية التي تحكم مواقف الإنسان وتفكيره وهو منحة من الله للإنسان يدله بها على الخير والشر وكيف يكسب الرضا والراحة النفسية، ولذلكَ ضَربَ اللهُ مثلاً بيوسفَ عليه السلام حينما حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى وقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف من الآية:23].
إن الدول والشعوب والحكومات لتسن القوانين وتوجد التشريعات وتحدد العقوبات التي تكفل لها ولأفرادها الحياة الطيبة والآمنة، فتحفظ الحقوق وتنجز الأعمال وتؤدى الواجبات وتكافح الجرائم والاختلالات، وأصبح الفرد ينظر عندما يقدم على عمل إلى موقف القانون والعقوبة المترتبة على ذلك فإذا وجدت وسائل الرقابة البشرية التزم بذلك وإلا فإنه سرعان ما يتفلت ويتهرّب ويتحايل على هذا القانون.
أما في شريعة الإسلام إلى جانب ما شرعته من أحكام وحدود وعقوبات فإنها سعت لتربية الفرد المسلم على يقظة الضمير والخوف من الله ومراقبته وطلب رضاه حتى إذا غابت رقابة البشر وهمت نفسه بالحرام والإفساد في الأرض تحرك ضميره الحي يصده عن كل ذلك ويذكره بأن هناك من لا يغفل ولا ينام ولا ينسى، يحكم بين عباده بالعدل ويقتص لمن أساء وقصر وتعدى في الدنيا والآخرة القائل سبحانه: {وإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَاماً كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12]، وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً . اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13-14].
يأتي رجلان من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم يختصمان في قطعة أرض ليس لأحدٍ منهما بينة، وكل واحدٍ منهما يدّعي أنها له، وقد ارتفعت أصواتهما فقال: « » (البخاري [6566]).
عند ذلك تنازل كل واحدٍ منهما عن دعواه، فقد حرّك رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوسهما الإيمان وارتفع بهما إلى مستوى رائع من التربية الوجدانية وبناء الضمير والتهذيب الخلقي للفرد؛ فكانت هذه التربية وبناء الضمير حاجزاً لهما عن الظلم والحرام وهو الدافع إلى كل خير فتقوى الله ومراقبته دليل على كمال الإيمان، وسبب لحصول الغفران، ودخول الجنان، وبه يضبط السلوك والتصرفات وتحفظ الحقوق وتؤدى الواجبات حتى وإن غابت رقابة البشر ووسائل الضبط وقوانين العقوبات والجزاءات، فتقوى الله ومراقبته والخوف منه والاستعداد للقائه أقوى في نفس المسلم من كل شيء قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].
عباد الله:
إن تربية الضمير وتقوية الوازع الديني في نفوس الناس فيه سعادة الأفراد والمجتمعات والدول وبدونه لن يكون إلا مزيداً من الشقاء مهما تطورت الأمم في قوانينها ودساتيرها وطرق ضبطها للجرائم وإدارة شؤون الناس فإنه سيأتي يوم وتظهر ثغرات في هذه القوانين وبالتالي ما الذي يمنع الموظف أن يرتشي، والكاتب أن يزوّر، والجندي أن يخل في عمله، والطبيب أن يُهمل في علاج مريضه، والمعلم أن يُقصّر في واجبه، والقاضي أن يَظلم في حكمه، والمرأة أن تُفرّط بواجبها، والتاجر من أن يغش ويحتكر في تجارته.
هذا عثمان رضي الله عنه في عام الرمادة وقد اشتد بالمسلمين الفقر والجوع جاءت تجارته من الشام ألف بعير محملة بالتمر والزيت والزبيب، فجاءه تُجّار المدينة، وقالوا له: تبيعنا ونزيدك الدرهم درهمين؟ فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لهم: "لقد بعتها بأكثر من هذا"، فقالوا: نزيدك الدرهم بخمسة؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه: "لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة". فقالوا له: فمن الذي زادك؟ وليس في المدينة تُجّارٌ غيرنا؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه: "لقد بعتها لله ولرسوله، فهي لفقراء المسلمين".
الله أكبر... ماذا لو لم يكن يحمل بين جوانحه ضمير المؤمن الحي لكانت هذه الفرصة لا تُعوّض ليربح أموال طائلة ومكاسب كبيرة، فلنحذر من الغفلة وبيع ضمائرنا ولنتذكر قوة الله وقدرته وعلمه.
وقال نافع: "خرجتُ مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحاب له فوضعوا سفرة، فمر بهم راع. فقال له عبد الله: هلم يا راعي فكل معنا. فقال: إني صائم. فقال له عبد الله: في مثل هذا اليوم الشديد حرّه وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم؟ فقال الراعي: أُبادِر أيامي الخالية، فعجب ابن عمر. وقال: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها ونُطعمك من لحمها ونُعطيك ثمنها. قال: إنها ليست لي إنها لمولاي. قال: فما عسى أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب؟! فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول: فأين الله؟ قال: فلم يزل ابن عمر يقول: فأين الله؟. فلما قَدِمَ المدينة بعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم فأعتق الراعي ووهب له الغنم، وقال له: إن هذه الكلمة أعتقتك في الدنيا وأسأل الله أن تعتقك يوم القيامة" (صفة الصفوة [2/188]).
إنها ضمائر متصلة بالله، فأين ضمائرنا المتصلة بالله وبالقيم والأخلاق في زمن الغاية تبرر الوسيلة؟
إنه مهما خوف الناس وبعث في قلوبهم الرعب برقابة البشر فهي تسقط أمام رقابة الذات ورقابة الله وما تغيرت الحياة وحدث البلاء ووجدت الخيانة وانتشر الظلم إلا يوم ضعفت رقابة الله في قلوب البشر وأصبح جسد الإنسان خاوي من الضمير الحي والقيم النبيلة.
اللهم ارزقنا خشيتك في السر والعلن. قلتُ قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله:
إن ضمير الإنسان إذا لم يكن موصولاً بالله، فتجد صاحبه محافظاً على العبادات والطاعات والذكر وقراءة القرآن فإنه سيأتي يومٌ ويموت ضمير هذا الإنسان أو يعرض ذلك الضمير للبيع في سوق الحياة وعندما يُباع الضمير يختل الميزان وتضطرب الحياة وتحدث المتناقضات.
ففي الجانب السياسي مثلاً يجد المتأمل والمتابع للحالة السياسية أن الضمير السياسي قد يُصاب بالعطب والعفن لدرجة أن الكذب والنفاق والتحوّل والخبث والخداع وغيرها من قواميس السوء باتت هي الأخلاق الأساسية والمبادئ الأصيلة التي يتسم بها العديد من رموز السياسة وطوائفها المتعددة في كثير من مجتمعاتنا.
وجانب الإعلام بمختلف وسائله أصبح اليوم يستخدم وكأنه مأجور يفعل كل ما يطلب منه بعد الدفع له بما يكفي لتغيير الضمير أو تغيبه أو حفظه في التجميد لحين أداء عمليات الهدم والتدمير والتشويه لمؤسسات المجتمع وتأجيج الخلافات وإثارة الصراعات وإفساد القيم والأخلاق.
وهل من الضمير أن يتم انتقاء بعض الأخبار والأحداث وتحليليها بما يتناسب مع أهداف ومصالح سياسية أو حزبية بعينها بعيداً عن الحقيقة دون احترام لعقلية المشاهد أو المستمع، ودون مراعاة للظروف الصعبة التي تعيشها الأمة.
تنظر إليهم بأجسادهم وملابسهم ومؤهلاتهم وتسمع لأقوالهم وتتفحّص كلماتهم فتجد الضعف الروحي والأخلاقي والقيمي فتدرك أنها أجساد بلا ضمائر.
وفي الجانب الاقتصادي ضعف الضمير وتلاشى واختفى فما كان إلا إهدار المال العام والإسراف والتبذير والسعي للربح بأي وسيلة ولو كانت على حساب طعام الجوعى ولباس العرايا وحاجة اليتامى ودواء المرضى.
وفي الجانب الاجتماعي قد يموت الضمير الإنساني فينتج عن ذلك فساد في الأخلاق والمعاملات وقد تذهب المودة وتختفي الرحمة وتسوء العلاقات. وهكذا في كثير من جوانب الحياة إذا مات الضمير فإن الحياة تفسد. ذلك أن الضمير الحي سِرّ الحياة من غيره تموت الشعوب والأوطان وتنتهي الأمم والحضارات وتزول القيم والمبادئ.
حين يموت الضمير يُصبح الجلاد بريء والضحية مُتهم. وحين يموت الضمير يتحوّل الإنسان لوحش كاسر ينتظر فريسة للانقضاض عليها، و يُصبِح كل شيء مباح: كلام الزور، الخيانة، السرقة، المال الحرام، القتل، والسكوت عن الظلم والظالمين، تزييف الحقائق، وغيرها من موبقات الحياة.
وحين يموت الضمير تغفو العقول وتثور الأحقاد، تتعطّل إنسانية الإنسان وتفقد حواسه قيمتها ويغدو صاحب عقل لا يفقه، وصاحب عين لا تبصر، وصاحب إذن لا تسمع، وصاحب قلب لا يدرك. لذا وجب علينا جميعاً أن نحيي ضمائرنا بتقوى الله ومراقبته وإدراك خطورة الغفلة وموت ضمائرنا وعلينا التعلق بمعالي الأخلاق وترك سفاسفها والنظر إلى مصالح مجتمعاتنا وشعوبنا وأوطاننا وندرك جيداً مسئولياتنا ودورنا في عملية البناء والإصلاح، ولنحذر أن تكون أجسادنا بلا ضمائر حية متصلة بالحق والخير والمعروف ومصالح البلاد والعباد وتقديم النفع للناس من حولنا. حتى لا تزداد تعاستنا وشقائنا وتكثر مشاكلنا وتفسد أخلاقنا وتطول معاناة مجتمعاتنا وأمتنا ويستبد بنا غيرنا، ولا نوفّق لأن تتنزل علينا رحمة الله ومغفرته.
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ وزكوا أنفسكم وهذبوا أخلاقكم وأحيوا ضمائركم ورَبُّوها على عَمَلِ الخيرِ والبعدِ عن الشر تسعدون في حياتكم وتنالون رضا ربكم وتقوى أخوتكم وتحفظ حقوقكم وينتشر الخير في مجتمعكم واحذروا من التمادي والغفلة وأقبِلوا على الله بأعمال صالحة ونيّات خالصة قال تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
والحمد لله ربِّ العالمين.
حسان أحمد العماري