الكنز العظيم
الصبر ذكر في القرآن الكريم في نحو تسعين موضعًا وذُكر في السنة النبوية في مواضع كثيرة لا يعلمها إلا من يعلم السِّر وأخفى وذلك لشرف مكانه ولأهميته وحاجة الناس إليه. وما أجمل النداء من الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى الذي ينادي به أهل الإيمان بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
كنتُ قبل فترة في عيادة أحد المشايخ الفضلاء بعدما أجرى عملية جراحية ومكث بعدها أيامًا على فراشه في منزله يستقبل الناس بحفاوة وبشاشة وجه وكلام طيب ويتحدث غالبًا بعدما يجلس الزائرون في مجلسه عن تفسير كتاب الله تعالى وعن نعمة الصحة والعافية، وفي إحدى الزيارات تحدث عن الصبر وفضائله فتغيرت نبرة صوته وامتلأت بالحزن وتحدث بأسلوب وعظي مؤثر وذكر أن الكلمات والمحاضرات التي ألقيتها واستمعت إليها عن الصبر عند الابتلاء تمثلت أمامي عندما كنت أعاني الآلام قبل وبعد إجراء العملية الجراحية، ثم ختم موعظته البليغة التي ذرفت منها الدموع ووجلت منها القلوب بالحمد والشكر لله تعالى.
وهذا الموقف وما شابهه لا يفارقني عندما تتكرر الصورة أمامي أو أعيش أحداثها بنفسي كلما مررت بآية أو بحديث نبوي أو بكلام للسلف الصالح، وما لفت انتباهي أثناء قراءتي أن الصبر ذكر في القرآن الكريم في نحو تسعين موضعًا وذُكر في السنة النبوية في مواضع كثيرة لا يعلمها إلا من يعلم السِّر وأخفى وذلك لشرف مكانه ولأهميته وحاجة الناس إليه. وما أجمل النداء من الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى الذي ينادي به أهل الإيمان بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، ووعد الصابرين بالفضل العظيم بقوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان: 75]، وجعل ملائكته الكرام يستقبلون الصابرين بالتحية والسلام بقوله: {وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23، 24].
فمنزلة الصبر في الدين بمكان الرأس من البدن فلا إيمان لمن لا صبر له، ومن يتصبَّر يُصبِّره الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر، وقد جاء في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم أجمعين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع اللهُ الخلائق نادى منادٍ: أين أهل الصبر؟ قال: فيقوم ناسٌ وهم يسير فينطلقون سِراعًا إلى الجنة فيلقاهم الملائكة فيقولون: إنا نراكم سِراعًا إلى الجنة فمن أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر فيقولون: وما كان صبركم؟ فيقولون: كنا نصبر على طاعة الله وكنا نصبر عن معاصي الله فيقال لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجرُ العاملين» (ضعفه ابن حجر العسقلاني)، وتأمل هذا الحديث العظيم فعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: «فإن من ورائكم أيام الصبر فيه مثل القبض على الجمر للعامل فيهم أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله. قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم قال: أجر خمسين منكم» (ضعفه الألباني)، وجاء في الخبر كما صح عن سيِّد البشر صلى الله عليه وسلم بقوله: «الصبر ضياء» (صححه الألباني) وهذا التشبيه البليغ جعل الصبر كالسِّراج يحترق من داخله ويضيء من خارجه، والصبر في حقيقته كالدواء لكل داء، والعلاج طعمهُ لا يُقبل ولكن نهايته شفاء بإذن الله تعالى.
وخرجت أقوال السلف الصالح من مشكاة النبوة كقول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: "الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر"، وقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "يحتاج المؤمن إلى الصبر كما يحتاج إلى الطعام والشراب"، وقول سليمان بن القاسم رحمه الله تعالى: "كلُّ عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر"؛ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب} [الزمر: 10]. فقال: "كالماء المنهمر"، وكان صالح المرِّي رحمه الله تعالى يقول: "اللهم ارزقنا صبرًا على طاعتك وارزقنا صبرًا عن معصيتك وارزقنا صبرًا على ما نكره وارزقنا صبرًا عند عزائم الأمور".
والمؤمن بالقضاء والقدر ليس له إلا الإيمان والراحة والاطمئنان والأمن في الدنيا والآخرة ومصداق هذا قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]. وقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]. وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [البقرة: 155- 157].
وتقاس قوة الإيمان في القلب عند حلول المصيبة فقد جاء في الحديث عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: «اتقي الله واصبري. قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت إليه فقالت: لم أعرفك فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (صحيح البخاري).
ونصيحتي إلى كل مهموم ومغموم ومُبتلًا في دينه ودنياه أن يذكر هذا الحديث العظيم الذي هو في الحقيقة عزاء لأهل البلاء فعن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب» (صححه الألباني).
والمصائب والبلايا تحل على الناس خاصة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ليمحص الله تعالى إيمانهم فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل الرجلُ على حسب دينه فإن كان في دينه صُلبًا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» (صححه الألباني).
إذًا البلايا على مقادير الرجال، ومن تأمل أحوال الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وشدة ما مرَّ بهم من بلاء ازداد يقينًا وإيمانًا. فهذا نوح عليه السلام ابتلي بابن كافر وزوجة كافرة وابتلي بقوم في غاية الكفر معاندين ومستهزئين وساخرين يدعوهم نوح عليه السلام ليلًا ونهارًا سرًا وجهارًا وما آمن معه إلا قليل في دعوة بلغت ألف سنة إلا خمسين عامًا.
وهذا إبراهيم عليه السلام أُمر بذبح ولده وفلذة كبده بعدما كبُر سنه وشاب شعر رأسه ودق ظهره فأجاب أمر خالقه ففداه ربه بذبح عظيم. وهذا يعقوب عليه السلام ابتلي بفقد ابنه يوسف عليه السلام الذي امتلأ قلبه حبًا له فعندما طال الفراق بينهما قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]. وهذا يوسف عليه السلام أُلقي في الجب وهو صغير وبيع كبيع الرقيق بثمن بخس بدراهم معدودة وابتلي بامرأة العزيز وسُجن فلبث في السجن بضع سنين وخرج فأصبح أمينًا على خزائن الأرض وجاءه أهله من فلسطين. وهذا أيوب عليه السلام ابتلي بفقد ماله وأولاده وأصحابه ثم ابتلي بفقد العافية في بدنه حتى تضرع إلى ربه فأجاب دعاءه فقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83].
وهذا يونس عليه السلام دعا قومه وخالفوه وعاندوه فركب البحر غضبان فمضى قدر الله تبارك وتعالى فوقعت القرعة عليه ورمى بنفسه في البحر فالتقمه الحوت فأصبح في ثلاث ظلمات فنادى رب الأرض والسموات فنجّاه ونبذه على شاطئ البحر بعدما قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]. وهذا خير الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إمام المتقين والصابرين نُشهد الله أنه بلغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيله حق جهاده وتركنا على محجَّة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها والله إلا هالك فكم لقي من الأذى، وكم لقي من الاستهزاء، وكم لقي من السخرية، وكم لقي من شتى صنوف الأذية، فصبر فكان إمام الصابرين ولنا فيه قدوة حسنة فأعطاه ربه سبحانه وتعالى على جهده وجهاده ودعوته وطاعته فقرَّبه منه وأعطاه الحوض والمقام المحمود والشفاعة ورفع ذكره وشرح صدره ووضع عنه وزره وقطع شأن من نال منه في حياته وبعد مماته.
وهذا ينبغي على كل مكلف أن يبحث عن هذا الكنز العظيم ويأخذ منه مقدار ما يمتلأ قلبه من الإيمان ويتذكر دائمًا الخطاب من الله تعالى لكل مبتلى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].
فاللهم اجعلنا من الصابرين ومن الشاكرين، ومن أصحاب جنتك جنة النعيم يا رب العالمين، وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ناصر بن سعيد السيف