كالقابض على الجمر

منذ 2013-09-12

إن محنة المسلمين اليوم لا تقتصر على تسلط أئمة الضلالة عليها فحسب، بل تعدت ذلك إلى تربية سخرت المناهج الدراسية، وكراسي الجامعات، والصحف، والمجلات، والإذاعات لمسخ الأفكار والقيم الإسلامية

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:

فإن محنة المسلمين اليوم لا تقتصر على تسلط أئمة الضلالة عليها فحسب، بل تعدت ذلك إلى تربية سخرت المناهج الدراسية، وكراسي الجامعات، والصحف، والمجلات، والإذاعات لمسخ الأفكار والقيم الإسلامية حتى غدا كثير من المسلمين اليوم ضحية تربية خاطئة أخلدتهم إلى الأرض، أرادت لهم الكفر، والفسوق، والعصيان، ابتداءً، ليستخف بهم أئمة الضلالة انتهاءً، ففرقوهم شيعاً {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، وإنها خطة قديمة يأخذها اللاحق عن السابق: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53]. إنها خطة إفساد تجعل من المجتمعات شراذم غارقة في الفساد، مشغولة بلقمة الخبز، لا يجدها أحدهم إلا بضنك، وكدر، وجهد كي لا يفيق فيعرف الطريق، ويستمع إلى الدين، أو يفي إلى يقين [1].

إن زماننا الذي نعيشه اليوم يصدق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر» [2]. وعن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة، كيف تقول في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105]. قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحاً مطاع [3] وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك وَدَع عنك العوام؛ فإن من ورائكم أيام الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم»؛ قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة: «قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال: بل أجر خمسين منكم» [4].

فهذه الأحاديث وغيرها تتكلم عن زمان يأتي بعد زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون فيه الصابر على دينه كالقابض على الجمر أو الشوك. فالجمر في يده وهو قابض عليه ومحكم يده عليه، وهذا التشبيه يعكس مدى ما يقاسيه ويعانيه المؤمنون في ذلك الزمان في سبيل الاحتفاظ بدينه وتعاليمه، فالمغريات والصعوبات تأتي من كل جهة، وتصل إليه وهو في مكانه، فالمتدين غريب في مجتمعه! بل وفي بيته وعائلته!! وإن زماننا الذي نعيشه اليوم هو داخل في هذه الأحاديث، حيث تجد الملتزم بدينه وعقيدته، كالقابض على الجمر حقاً لما يلاقيه من استهزاء، وسخرية، واتهامات، ونبذ من المجتمع، ولما يعايشه من الفساد الذي انتشر بجميع صوره وأشكاله، حيث استخدمت في نشره أحدث الطرق وأجمل الأساليب، فأصبح الناس بعيدون عن دينهم وعقيدتهم، فالذي يرونه على التزام في مظهره، وتدين في عبادته، ومخالف لما هم عليه من العادات الجاهلية، يلمزونه، ويسخرون منه، ويحاربونه، بل ويتعرض إلى أنواع من الأذى من قبل أبناء جلدته، وعشيرته، ومن أبناء الإسلام أنفسهم.

فعلى المؤمن في هذا الزمان أن يبحث عن المؤمنين الصابرين مثله، لكي يخفف من وحدته وغربته، فيتواصوا بالحق و بالصبر. فصحبة المؤمنين ومجالستهم ورؤيتهم من أنجع أساليب تذكر الآخرة، وتجديد النشاط لمواجهة النفس، والشياطين من الإنس والجن. فلا تكن كالشاة المنفردة حيث يسهل على الذئب افتراسها. كما لا بد من إكثار ذكر الله تعالى بالليل والنهار سراً وعلانية. فاستعينوا بقيام الليل فإنه خير معين على الآخرة والدنيا، لأننا في زمن الغربة والغرباء. قال ابن القيم رحمه الله: "ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة. بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده. وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً وأكثر الناس، بل كلهم لائم لهم. فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم".

وقال أيضاً: "فإذا أراد المؤمن الذي رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهاً في سنة رسوله،وفهماً في كتابه وأراه ما الناس فيه: من الأهواء، والبدع، والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال، وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وازدرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلونه مع متبوعه وإمامه صلى الله عليه وسلم، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه: فهناك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل. فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم [5].

وفي الختام: وإن كنا في زمن الغربة، وزمن القابضون على الجمر، إلا أن هناك أموراً لم تسقط، ولا يمكن لها أن تسقط في زمن من الأزمان فمن هذا الواجبات:
- الصبر وتحمل الأذى، والمصاعب التي يواجهها هذا المؤمن، من استهزاء، وسخرية، وضرب، وشتم وغيرها من أصناف الأذى.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر الاستطاعة. كما قال عليه الصلاة والسلام: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر».
- العمل على تعليم الناس الدين الصحيح، وتحذيرهم من الشركيات، والبدع، والخرافات المنتشرة والمتسلطة على عقول وأفكار الناس.

أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرزقنا الصبر، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى. والحمد لله رب العالمين،،


[1] راجع: القابضون على الجمر ص5-6 بتصرف يسير.
[2] رواه الترمذي (2260)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (8002).
[3] بخلاً مطاعاً؛ بأن أطاعته نفسك وطاوعه غيرك، وهو أشد أنواع البخل وأضرها.
[4] رواه أبو داود (4341)، والترمذي (3058)، وحسنه، وابن ماجه(4014)، وغيرهما، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود برقم (938)؛ غير أن فقرة أيام الصبر صحيحة انظر السلسلة الصحيحة رقم (494).
[5] مدراج السالكين (3 / 194-201).
 

المصدر: موقع إمام المسجد
  • 19
  • -3
  • 51,676

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً