سلامة العقيدة ودورها في أوقات المحن
رمضان الغنام
المحن والابتلاءات سنن كونية مكرورة يصيب الله به من يشاء من عباده تطهيراً وتمحيصاً، وتفرقة بين الصالح منهم والمفسد، فبفضل هذه السنن تتمايز الصفوف ويتوزع الناس إلى فسطاط حق لا باطل فيه، وفسطاط باطل لا حق فيه، وهنا تظهر نعمة الابتلاءات والمحن.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
المحن والابتلاءات سنن كونية مكرورة يصيب الله به من يشاء من عباده تطهيراً وتمحيصاً، وتفرقة بين الصالح منهم والمفسد، فبفضل هذه السنن تتمايز الصفوف ويتوزع الناس إلى فسطاط حق لا باطل فيه، وفسطاط باطل لا حق فيه، وهنا تظهر نعمة الابتلاءات والمحن.
وللمحن والابتلاءات فائدة وقائية أخرى أشار إليها الإمام ابن القيم بقوله: "فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه: أهَّله لأشرف مراتب الدنيا، وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه" (زاد المعاد لابن القيم: [4/195]).
فليس كل ابتلاء شر، والمؤمن الصادق لا يرى في أقدار الله إلا كل خير، ومصداق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم: [4/1992/2573]).
ومنه ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « » (رواه مسلم في صحيحه: [4/2295/2999]).
وهذا الصبر لن يتحقق إلا بعقيدة سليمة صافية، فبهذه العقيدة يقوى المسلم على مواجهة ما يمر به من ابتلاءات وشدائد ومحن، وبفقدها يضعف على هذه المواجهة، ومن ثم يسقط في متاهات من الغي والخسران والضلال، ويخسر ما كان يرجوه من أمن وسكينة ونصر.
لهذا حظيت العقيدة الإسلامية بنصيب وافر في حياة الأنبياء سيما حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فكانت هذه العقيدة هي الانطلاقة الأولى والمبتدأ في دعوة كل الأنبياء والأولياء والصالحين والمصلحين، وكانت -كذلك- محور كتب الله المنزلة على رسله، سيما كتاب الله الخاتم "القرآن الكريم"، حيث أفرد لها كتاب ربنا مواطن كثيرة منه؛ لبيانها، وبيان فضلها، وتعليمها للناس.
كما كان لسنة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم عظيم الأثر في ترسيخ هذه العقيدة، فجاءت أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته شارحة لهذه العقيدة، ومؤكدة لها، وهو جانب لن تظفر به إلا في كتاب الله، وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم فليس لديانة أو ملة أو نحلة هذا الاهتمام -ببيان مسائل الاعتقاد- كما للإسلام وللقرآن ولسنة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
لهذا كانت العقيدة الصحيحة ولازالت خير وسيله لخوض غمار المحن والابتلاءات؛ ولهذا جاء تأكيد القرآن الكريم وحضَّه على تعلُّم العقيدة الصحيحة الصافية، ونبذ الابتداع فيها، كما جاءت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم تترى لتأكيد ذات المعنى، فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فريسة لجوارح المحن وسوام الابتلاءات، فكان دائم النصح لهم لرفع إيمانياتهم وتعليمهم العقيدة الصحيحة -لنجاتهم- ومن ثم تعليمها للناس.
ولهذا كانت الوصية الأولى لمعاذ رضي الله عنه وهو راحل إلى أهل اليمن مبلِّغاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعلماً ومفقِّهاً قوله صلى الله عليه وسلم: « ...» الحديث (صحيح مسلم: [1/50/19]).
التوحيد الخالص سبيل النجاة:
بتوحيد الله تعالى يترسخ لدى المؤمن أنه لا نافع ولا ضار إلا الله عز وجل وأن كل سبب ليس موصولاً بالله، خسران وضياع، {فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف من الآية:64]، فمن تعلق بسبب غير الله تعلق بعجز، وآوى إلى ركن هش، لا قوة له ولا حول.
ولهذا وصىَّ النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: « » (سنن الترمذي: [4/667/2516]).
فمن وحد ربه وآمن بتمام ألوهيته وكمال ربوبيته وأحقيته المطلقة بالأسماء الحسنى والصفات العلا أمِن قلبه وهانت عليه الخطوب والمحن، فكيف ييأس من قرأ قوله تعالى: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف من الآية:87]؟ وكيف يخشى ويخاف من عايش قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس من الآية:63]؟
فالموحدون الخُلَّص هم أسعد الناس حالاً وأصدقهم فعلاً ومقالاً، ولأنهم عرفوا خالقهم ووحدوه كما أمرهم عرفهم، فهوَّن عليهم الخطوب والمحن، ورزقهم الصبر والقوة والإرادة، وأنار بصائرهم، وأظهر لهم من المبشرات ما يستقوون بها على ما هم فيه من ابتلاء واختبار وشدة.
فبفضل هذا التوحيد صبر بلال على أذى المشركين، وردد كلمة التوحيد ليغيط بها من أشرك وكفر، وليسلي بها نفسه؛ لينسى ما حل به ويحل من تعبٍ ونصب، وبفضلها صبر آل ياسر، وصبر الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم من أهل الإيمان، ولازالت هذه العقيدة -عقيدة التوحيد الخالص- ملجأ كل ممتحن ومكروب، وسلوى كل آيس ومصاب، ولذَّة كل محب وطالب لنعيم ربه.
وبِسرِّ كلمة التوحيد خاض المسلمون المعارك والحروب، وواجهوا أشد المحن والابتلاءات، فما وهنوا ولا استكانوا، وما عرف لهم اليأس طريقاً، فهابهم عدوهم، وحفظ لهم مكانتهم وهادنهم.
وبالتوحيد تزداد عِزّة المسلم وفخره ويزداد شرفه، وصدق القائل حيث قال:
ومما زادني شرفاً وتيهاً *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيرت أحمد لي نبيا
فمن دواعي الفخر والعزة شعور المسلم بعظمة معبوده وهيمنته على شيء، وكيف لا يفخر من يرى من يعبد البشر والبقر والشجر والحجر وهو يعبد ربّ هؤلاء وخالقهم؟ وكيف لا يشعر بالعزة من يعلم عزة خالقه وجبروته وقوته وسطوته في مقابل ضعف كل المعبودات وعُبَّادهم وعوزهم وحاجتهم وافتقارهم؟
صدق التوكل خلاص للصادقين:
من لوازم العقيدة الصحيحة صدق التوكل على مدبر السموات والأرض، والإيمان التام والجازم أنه سبحانه وتعالى المصرِّف لشؤون هذا الكون الفسيح، وأن من توكل على الله وُكِل إلى ركن شديد، ولا خاب من ركن إليه، وتوكل على الوكيل المصرف لأمور عباده.
فالتوكل شرط من شروط صحة العقيدة، ولهذا اشترطه القرآن الكريم لقبول إسلام من أسلم، وإيمان من آمن، قال الله تعالى: {إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس من الآية:84]، فالله تعالى علق الإيمان والإسلام بالتوكل عليه؛ لما للتوكل من أهمية كبرى في عقيدة التوحيد، فالتوكل عبادة قلبية تسبق كل العبادات، بل هي أصلٌ وأساسٌ لكل العبادات الأخرى (القلبي منها والقولي والفعلي)، فمن توكل على الله دعاه واستعان به طلباً للمدد والعون، ومن توكل عليه لازم كل عبادة من شأنها تحقيق كمال هذا التوكل.
والتوكل كما قال ابن القيم رحمه الله: "حال مركبة من مجموع أمور، لا تتم حقيقة التوكل إلا بها، وكل أشار إلى واحد من هذه الأمور أو اثنين أو أكثر، فأول ذلك: معرفة بالرب وصفاته: من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء لأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل" (مدارج السالكين لابن القيم: [2/ 117-118]).
ومقام التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، بل هو أعلى الأسباب وأولها، "فإن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة؛ لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به" (مدارج السالكين لابن القيم: [2/118]).
والمتوكلون على الله هانئون مطمئنون رغم ما يمرون به من أزمات ومحن، وهذا الاطمئنان سرٌّ من أسرار التوكل، وجائزة من جوائزه، وفضل من أفضاله؛ ولهذا فلا سعيد وهانئ في هذه الدنيا إلا المتوكلون الخُلَّص، الصادقون مع ربهم، العالمون بمكانته وقدرته وعظمته، ولهذا فالأنبياء والرسل وورثتهم من العلماء والأولياء هم أسعد البشر حالاً وفعلاً ومقالاً.
من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر:
من أعظم الآثار المترتبة على الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، السعادة في الدنيا والآخرة، فالإنسان إذا علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه سعد في الدنيا، وإذا علم أن جزاءه في الآخرة يكون بمقدار كسبه وعمله في الدنيا، سعد في الآخرة، هذا إن كان ممن يعمل تبعا لما يرضاه الله ويحبه.
و"الاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرّد عن شناعة الجبر يتبعه صفة الجراءة والإقدام وخلق الشجاعة والبسالة، ويبعث على اقتحام المهالك التي ترجف لها قلوب الأسود. هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات واحتمال المكاره ومقارعة الأهوال، ويحليها بحلي الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج من كل ما يَعزّ عليها، بل يحملها على بذل الأرواح والتخلي عن نضرة الحياة كل هذا في سبيل الحق" (القضاء والقدر؛ جمال الدين الأفغاني؛ ص: [10]).
فالإيمان بالقدر من أكبر الدواعي التي تجعل الإنسان يجد ويعمل في هذا الدنيا، وهو الذي يدفعه لخوض عظائم الأمور، واحتمال المحن والابتلاءات، والصبر عليها والرضا بما يحل به من سوء وتصاريف، ولولا ثبات هذه العقيدة وتمكنها لما وصل الإنسان لما وصل إليه من علم وحضارة.
و"بهذا الاعتقاد لمعت سيوف بالمشرق وانقضت شهبها على الحيارى في هبوات الحروب من أهل المغرب، وهو الذي حملهم على بذل أموالهم وجميع ما يملكون من رزق، في سبيل إعلاء كلمتهم، لا يخشون فقراً، ولا يخافون فاقة" (القضاء والقدر؛ جمال الدين الأفغاني؛ ص: [11-12]).
ومن آثار الإيمان بالقدر "أن يعرف الإنسان قدر نفسه، فلا يتكبر، ولا يبطر ولا يتعالى أبداً، لأنه عاجز عن معرفة المقدور، ومستقبل ما هو حادث، ومن ثم يقر الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه دائماً، وهذا من أسرار خفاء المقدور" (القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة - د. عبد الرحمن المحمود؛ ص: [451-452]).
ومن آمن بالقضاء والقدر، وتدبّر في خلق السماوات والأرض، وكيف يصرِف الله أمرهما، وأمر ما فيهما من خلق؛ عَلِمَ قدرة خالقه وعظمته، وسعة علمه وعظيم فضله ومنِّه على خلقه، وأن هذا الخالق لن يُضيع عبد عرفه وآمن به ورضا بقضائه وقدره.
التمكين معقود بنواصي أصحاب العقائد الصحيحة:
لم يكن للعرب قبل الإسلام دولة يُعتد بها، بل كانوا شراذم ممزقه لا جامع بينهم إلا الحروب والتناحر على الكلأ والماء، فجاء الإسلام بعقيدته الصحيحة، فوحد كلمتهم وجمع شتاتهم، وجعل أمتهم خير الأمم، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110].
وهذه الخيرية جاءت مقرونة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقبل هذا وذاك كان الإيمان بالله هو الشرط الأول لمنح الخيرية والدرجة الرفيعة للأمة العربية والإسلامية.
فالتمكين لابد له من عقيدة صحيحة صافية، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105-106].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13-14].
فموعود الله لعبادة أنه لا أحقية لوراثة هذه الأرض إلا للصالحين ولمن خاف مقامه وخاف وعيده، فالخوف من الله ووعيده يُورِث الشجاعة في مواجهة الصالحين لأعدائهم -أعداء دين الله- ويفتح للخائفين -من وعيد ربهم- المغاليق ويُدني منهم موعود ربهم بالنصرة والتمكين.
خلاصة القول:
إن العقيدة الصحيحة أمن وأمان، وسكن وسكينة، وراحة واطمئنان، فالمؤمنون الصادقون مطمئنون هانئون، وهم أقدر الناس على مواجهة المحن والفتن، والخطوب والابتلاءات، يمنحهم الله القوة والهداية، ويرزقهم الصبر والثبات، إلى أن ينزل عليهم فرجه ونصره ويذهب عنهم ما أصابهم وصب ونصب.