التمكين نظرة عقدية
رمضان الغنام
في المنظور الإسلامي شروط لابد من تحققها وموانع ينتفي بوجودها، وهي -شروط وموانع- تختلف في مجملها عن الرؤية التمكينية لباقي الجماعات والأمم غير الإسلامية، ولعل شرط صحة العقيدة وسلامتها يكون هو الشرط الأقوى..
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
الحديث عن التمكين حديث ذو شجون، وهو حديث لا يكاد يخلو منه زمان أو مكان أو مجتمع من المجتمعات، فكل جماعة تنشد لنفسها التمكين، وأن يكون لها الغلبة والسلطة والقوة، وأن تجعل لأفراد جماعتها وأتباع فكرتها الحظوة والسيطرة؛ لفرض الهيمنة والاستعلاء الدنيوي على بقية المجتمعات والجماعات، وفي سبيل ذلك قد يضيع الكثير من القيم والمُثل، وتتغاضى الغايات عن طبيعة هذه الوسائل، مهما سفلت هذه الوسائل وبلغ انحطاطها.
لكن المنظور الإسلامي للتمكين -بالملك والسلطان- يختلف عن هذه النظرة المادية المبتورة عن الوحي والسماء، وعليه فللتمكين في المنظور الإسلامي شروط لابد من تحققها وموانع ينتفي بوجودها، وهي -شروط وموانع- تختلف في مجملها عن الرؤية التمكينية لباقي الجماعات والأمم غير الإسلامية، ولعل شرط صحة العقيدة وسلامتها يكون هو الشرط الأقوى، والحد الفاصل بين آليات المسلم وغير المسلم في طريقه إلى التمكين في الأرض، كما أن لشرف الوسيلة مكانة لا يمكن التغاضي عنها، وهي مفترق آخر إلى جانب مفترق العقيدة، تتمايز فيه الجماعة الإسلامية عن غيرها من الجماعات الساعية نحو التمكين.
فلصفاء العقيدة ونقائها وطهارتها أكبر الأثر في التعجيل بجيل التمكين وزمنه، وفي تاريخ أُمّتنا الإسلامية أوضح الشواهد على هذا الأمر، وقبل ذلك يعرِض لنا القرآن الكريم وتعرِض لنا سنة النبي العظيم صلى الله عليه وسلم ما يقطع بأهمية العقيدة وصفائها في معادلة التمكين لهذه الأمة الخاتمة، والعودة بها إلى المشهد الذي تركها عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك المشهد الذروي، الذي كمل فيه الدين، وتمت فيه النعمة، يقول جل جلاله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة من الآية:3].
فمن ذلك قول الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، ومنه قوله تعالى مخاطباً المصطفى صلى الله عليه وسلم: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49].
وفي سنة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم شواهد كثيرة على أهمية صحة العقيدة وسلامتها للتمكين، وبلوغ أسباب العِزّة والغلبة، بل إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الأطهار، خير شاهد على هذا، فما مُكِّن لدولة الإسلام الأولى إلا بعقيدة صادقة صحيحه، لا تشوبها شائبة، ولا يعتريها وهن أو خطل.
ومسألة صحة العقيدة وصفائها غاية، ووسيلة -في ذات الوقت- للساعين نحو التمكين، فهي وسيلة بحسب الوعد الإلهي في مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، فالصلاح بحسب الوعد الإلهي شرطٌ أصيلٌ من شروط وراثة الأرض.
وصحة العقيدة غاية بحسب الأمر الإلهي الوارد في أكثر من آية من آي الذكر الحكيم، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، ومنه قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، فهذه الآيات تُشير بشكلٍ صريحٍ ومباشر إلى أن غاية الملك والسلطان في الإسلام تتمثّل في الحكم بين المسلمين بما يُوافق شرع الله عز وجل القائم على صحيح المعتقد.
وقريبٌ من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، يقول قتادة رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "هذا شرط الله على هذه الأمة والله أعلم" (الدر المنثور للسيوطي: [10/503]).
وبتتبع دول الإسلام وما أصابها من محن وابتلاءات وما حدث لها من نصرٍ أو انتكاسات يتبدى للناظر أن أساس كل تمكين كان يرتكز على أصول عقدية صحيحة، وأن سقوط الدول والممالك الإسلامية كان نتيجة حتمية لخواء الجانب العقدي في عصر السقوط، ودولته، وجماعة المسلمين في ذلك العصر وتلك الدولة.
وأيام التاريخ شاهدة على أن جميع مسارات التصحيح والاستنهاض الإسلامي كانت تأتي على مراكب العقيدة التي تتحرّك بأشرعة من الإيمان الصادق، من خلال نشر المعتقد الصحيح، والعودة بالناس إلى فطرهم السوية، بتذكيرهم بالغاية من خلقهم وتعميرهم للأرض.
فتصحيح المسار العقدي كفيل باستنهاض أحط النفوس وأدناها، وفي حياة من تحوّل إلى الإسلام من بعد الكفر في عصور الإسلام الأولى خير شاهد على هذا المعنى، فبفضلٍ مِنْ الله ثم بفضلِ مَنْ تحوّل إلى الإسلام -من بعدِ كفر- من الصحابة وتابعيهم وغيرهم، ودخولهم في جماعة المسلمين، حصل للإسلام والمسلمين من التمكين، ما أمكنهم من بسط دولة الإسلام، إلى أن ضربت بأطرافها تخوم الصين وفرنسا، بعد فترة ليست بالطويلة من بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه ملمح جيد لمكانة العقيدة الصحيحة في مسارات الدعوة والتمكين، فقد جاء في كتاب التوحيد من صحيح الإمام البخاري رحمه الله (باب: ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى)، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما بعثه إلى أهل اليمن: « » (صحيح البخاري: [9/140/7372])، وفي رواية أخرى: « » (صحيح البخاري: [2/130/1395]).
ففي هذا الحديث دلالة قوية على أهمية العقيدة الصحيحة كمدخل للتمكين المنشود، وعلى هذا الأساس كانت كافة البعثات الدعوية، حيث كانت الغاية العقدية هي الغاية الأولى في جميع الطروحات الدعوية -ولازالت- منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، فالثبات العقدي من أشد عوامل التثبيت والتمكين والنصرة؛ لأن التمكين أمانة لا يقوى على حملها وأداء واجباتها إلا من تحصن قلبه بالمعتقد الصحيح الذي لا تزعزعه محن أو توهِنه ابتلاءات.
وعلى هذا الأساس فليس من لوازم التمكين التي يُمنع بفقدها -مع عدم إغفالنا لتلك اللوازم- توافر الأسباب الدنيوية جميعها، بل اللازم الأول والأوجب، هو لازم العقيدة الصحيحة، فبه قد يُستغنى عن كل سبب دنيوي، كتوافر العدة والعتاد والقوة والمنعة، فهذه الأسباب مع أهميتها إلا أنها تتلاشى وتضيع أمام القلوب العامرة بالإيمان، المعتصمة بربها، الواثقة في نصره وحفظه ورعايته.
فبهذه القلوب أوقدت الشعلة الأولى التي أنارت للبشرية طريقها، وهل كان أكثر أتباع الأنبياء والأولياء والمصلحين إلا الضعفاء والعجزة والفقراء؟ فعلى أكتاف هؤلاء بزغ فجر هذا الدين، وقامت دولة الإسلام، حتى بلغ هذا الدين كل مبلغ، وعلى أيديهم سيتحقق وعد الله عز وجل وموعود النبي صلى الله عليه وسلم ولن يترك الإسلام بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله الله إياه.
ومن فوائد سلامة المعتقد للسائرين في مسارات التمكين؛ أنها من دواعي الثبات والصمود، وإنْ تأخّر زمن نصرتهم، فهم ماضون في طريقهم لا تَغَيِّر في وجهاتهم محن الزمان، بل لا يفتّ في عزائمهم موت صاحب فكرتهم وحامل لوائها، يقول الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]. فأصحاب الغاية السامية لا يرون إلا شرف الغاية، فإن سقط سائر منهم خَلَفَه سائر آخر، ليحمل نفس اللواء، حتى تصل بهم وسائلهم إلى أكناف غاياتهم.
ومن طباع أصحاب هذه الغاية صدق توكلهم على الله عز وجل، وتعلقهم الشديد بأسباب السماء؛ لهذا فالحسابات الأرضية لا تؤثر في حساباتهم السماوية، ولهذا -أيضاً- فهم أسعد الناس حالاً، وإن اشتدت الظروف، وأيس الآيسون، فلإن خَذلت الآيسين أسبابهم الدنيوية، فصادقو العقيدة دائمي الوصل بأسباب السماء الممدودة في كل حين.
ويلخص مقالنا حول صلة التمكين بصحيح الاعتقاد الموصول بالعمل الصالح قول الله عز وجل في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3]، فهذه السورة استثنت من الخسران أهل الإيمان، والعمل الصالح، المتواصين بالحق والصبر، وهي شروط تمكينية بالدرجة الأولى، كما أن الخسران المشار إليه في السورة خسران عام، في الدنيا والآخرة، إذ ليس في السورة ما يستدعي تخصيص هذا الخسران بالآخرة، كما ذهب بعض المفسرين لها، بل هو خسران عام في الدنيا والآخرة، كما أن الفلاح فلاح عام لأهل الإيمان، فهو تمكين في الدنيا، وفلاح وفوز في الآخرة.