الحرم المكي ومضاعفة الأجر فيه
إن أفضل البقاع على الإطلاق البلد الحرام، خصّه الله سبحانه بالفضائل والمزايا وجعل له أحكاماً تخصّه عن سائر البلدان، ولذا كان من المناسب توضيح بعض الأحكام المتعلقة بالحرم المكي، وخاصة مضاعفة الأجر فيه، وقبل أن نشرع في ذلك لا بد من تعريف الحرم وحدوده وفضائله.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
إن أفضل البقاع على الإطلاق البلد الحرام، خصّه الله سبحانه بالفضائل والمزايا وجعل له أحكاماً تخصّه عن سائر البلدان، ولذا كان من المناسب توضيح بعض الأحكام المتعلقة بالحرم المكي، وخاصة مضاعفة الأجر فيه، وقبل أن نشرع في ذلك لا بد من تعريف الحرم وحدوده وفضائله، فنقول:
الحرم وأسماؤه:
ورد اسم الحرم في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولفظ الحرم إذا أطلق عموماً فإنه يراد به حرم مكة وهو حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم، والحرم قد يكون الحرام، مثل: زمن وزمان، كما يطلق على حرم مكة: المحرم (لسان العرب: [4/95]).
والحرمان: مكة والمدينة. جمع أحرام.
والحرم: "حرم مكة وهو ما أحاط بها من جوانبها و أطاف بها جعل الله حكمه حكمها في الحرمة تشريفاً لها" (تهذيب الأسماء واللغات؛ [3/1/82]).
وهذا التعريف عام وهو مبنى على أن الحرم يشمل مكة، أما الآن فإن أجزاء من مكة خارج الحرم.
الفرق بين الحرم والمسجد الحرام:
ورد ذكر اسم المسجد الحرام في خمسة عشر موضعاً من كتاب الله وقد اختلف في المراد به على أقوال ذكرها ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة بقوله: "المسجد الحرام يراد به في كتاب الله ثلاثة أشياء: نفس البيت، والمسجد الذي حوله، والحرم كله" (أحكام أهل الذمة: [1/189]).
وزاد النووي في المجموع مراداً رابعاً وهو مكة. (المجموع شرح المهذب: [3/189]).
حدود الحرم:
معرفة حدود الحرم مهم جداَ لتعلق كثير من الأحكام به، قال النووي: "واعلم أن معرفة حدود الحرم من أهم ما ينبغي أن يعتنى ببيانه، فإنه يتعلق به أحكام كثيرة" (تهذيب الأسماء واللغات: [3/1/82]).
وحرم مكة ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والأصل في معرفة حدوده التوقيف، ولا مجال للاجتهاد فيه منذ أن نصب سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام أنصاب الحرم، واختلف العلماء في زمن تحريم مكة، والصحيح أن مكة لم تزل حرماً من حين خلق الله السموات والأرض لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه ما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: « » (البخاري: [4/46]، ومسلم: [1/986]).
فيفهم من ذلك أن مكة كانت حرماً منذ خلق الله السماوات والأرض وأن ما ورد في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ...» (أخرجه البخاري: [4/346]، ومسلم: [1/991]).
فيحمل على أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أظهر تحريمها بعد أن كانت خفياً، فوضع أنصاب الحرم بدلالة جبريل عليه السلام له، وهذا هو ظاهر كلام الإمام أحمد ورجّحه النووي وابن كثير (الأحكام السلطانية لأبي يعلى؛ ص: [192]، المجموع: [7/466]، (تفسير ابن كثير: [1/174]).
حدود الحرم من الطرق الحديثة:
أما مداخلة إلى مكة من الطرق الحديثة:
1 – من طريق جدة السريع: (21كم): من جدار المسجد الحرام الغربي من باب الملك فهد وحتى العلمين الجديدين على الطريق.
2 – من طريق الليث اليمن الجديد (20كم): من جدار المسجد الحرام الجنوبي وحتى العلمين الجديدين على الطريق.
3 – من طريق الطائف الهدى الجديد (14.600كم): من جدار المسجد الحرام الجنوبي وحتى العلمين الجديدين على الطريق السريع (الطائف الهدى) بالقرب من جامعة أم القرى.
4 – من طريق الطائف السيل السريع (13.700كم): من جدار المسجد الحرام الشرقي وحتى العلمين الجديدين على طريق الطائف.
(انظر: أحكام الحرم المكي الشرعية، الحويطان؛ ص: [40]. وقد ذكر في الحاشية الجهاز الذي قام بقياس المسافة وهو "GPS").
وهناك بعض الاختلافات في حساب المسافات على حسب الجهاز المستخدم والأجدر أن يحرص المتخصصون على تحديد أعلام الحرم وحدوده بدقة في هذا الزمن لتقدم الوسائل والعلوم المعنية في هذا المجال لما يترتب على ذلك من أحكام مهمة.
فضل حرم مكة:
لقد فضل الله حرمه على سائر بقاع الأرض وجعل له فضائل عظيمة وفي ذلك يقول ابن القيم: ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم وجعله مناسك لعباده وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق (زاد المعاد: [1/46]).
ومن أهم الفضائل التي يختص به حرم مكة:
الأول: فيه بيت الله الحرام:
شرف الله منطقة الحرم بأن جعل بيته الحرام فيه كما قال سبحانه في دعاء إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
فكان أول بيت وضع للعبادة كما قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96].
وجعل حج الناس إليه كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران من الآية:97].
وجعل سبحانه قصده مكفراً لما سلف من الخطايا والآثام كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
وحمى الله بيته كما في قصة أصحاب الفيل، كما جعل الصلاة فيه مضاعفة كما سيأتي بحث ذلك بالتفصيل.
الثاني: جعل الله الحرم آمناً:
اختص الله الحرم بأن جعله آمناً بدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما دعا ربه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة من الآية:126].
وقد امتن الله على قريش بأن جعلهم آمنين في بلدهم وفي سفرهم، قال الله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4]، وهذا الأمن كان في الجاهلية عرفاً واعتقاداً منهم، وفي الإسلام شرعة ومنهاجاً قال الله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران من الآية:97].
الثالث: مضاعفة الرزق فيه:
لقد استجاب الله دعاء إبراهيم عليه السلام كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
وقيل: لما دعا إبراهيم عليه السلام استجاب الله دعاءه ونقل الطائف من الشام إلى مكة ولا يصح هذا، وثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (أخرجه البخاري في صحيحه [4/97]، ومسلم: [1/994]).
ومن عاش في تلك البقعة المباركة لمس الرزق فالخيرات تحمل إليها من كل بقعة طوال العام، قال ابن سعدي رحمه الله: "فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت، والثمار فيها متوافرة، والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب" (تيسير الكريم الرحمن؛ ص: [427]).
الرابع: مكة لا يطأها الدجال:
اختص الله مكة والمدينة بأن الدجال لا يدخلهما كما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (أخرجه البخاري: [4/95]، ومسلم: [3/2265]).
كم حرماً على وجه الأرض:
ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة حرمة مكة والمدينة، وهو قول عامة أهل العلم ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة فيما يتعلق بحرمة المدينة حيث ذهب إلى أن المدينة ليست بحرم، واختلف العلماء في وادي وج، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن وجّاً حرم واستدل بحديث الزبير بن العوام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن صيد وجّ وعضاهة حرام محرم لله" (أخرجه أبو داود: [2/528]، والبيهقي: [5/200])، وضعّفه جماعة من العلماء لضعف محمد بن عبد الله الطائفي.
والصحيح أن وجاً ليس بحرم وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
مضاعفة الصلاة في الحرم:
ثبت في الحديث الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه ما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه أحمد: [3/ 343-397] وفي إسناده مقال).
كما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه أحمد: [4/5]، والبيهقي: [5/246])، وورد الحديث موقوفاً على عبد الله بن الزبير وهو أصح من المرفوع كما ثبت موقوفاً على عمر رضي الله عنه (ابن أبي شيبة: [2/371])، ومجموع هذه الأحاديث ترتقي إلى درجة الحسن وتعضدها الآثار الثابتة عن الصحابة.
فتخيل أيها القارئ الكريم كم يخرج المرء بأجر عظيم مضاعف إذا قسمت تلك المضاعفة على قدر الصلوات الخمس في اليوم والليلة ولكن هل هذه المضاعفة في صلاة الفريضة والنفل اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: إن المضاعفة تعم صلاة الفريضة والنفل وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة (انظر مطالب أولي النهى: [2/383]، والفروع: [1/599]).
القول الثاني: إن المضاعفة تختص بالفريضة فقط وهذا مذهب أبي حنيفة والمالكية (انظر مشكل الآثار: [1/251]، وفتح الباري: [3/68]).
واستدل أصحاب القول الأول بعموم النصوص السالف ذكرها.
واستدل أصحاب القول الثاني بحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (أخرجه البخاري: [2/214]).
فلو كانت صلاة النافلة تضاعف في مسجده صلى الله عليه وسلم لما أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة في بيوتهم.
وأجيب عن هذا القول بأجوبة منها:
1 – لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما وكذا في المسجدين.
2 – أن الصلاة في البيوت تعظم ولا تضاعف لعدم وجود نص يفيد ذلك.
وجملة القول إن صلاة الفريضة والنافلة تضاعف في المسجد الحرام وعليه إطلاق الأحاديث الصحيحة كما أن صلاة النافلة في البيت خير من صلاتها في المسجد وحتى ولو كان المسجد من المساجد الثلاثة الفاضلة (انظر نيل الأوطار: [3/73]).
مضاعفة الصلاة في الحرم المكي:
اختلف العلماء في المراد بالمسجد الحرام التي تضاعف فيه الصلاة، على أقوال:
القول الأول: أن المسجد الحرام يراد به الكعبة:
واستدلوا بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة من الآية:144]؛ والمقصود أن الاستقبال في هذه الآية للكعبة فقط وأجيب بأن إطلاق لفظ المسجد الحرام هنا من باب التغليب.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: « » (أخرجه أحمد 2/386، وأخرجه ابن أبي شيبة: [2/371]).
وأجيب بأن المقصود هنا مسجد الكعبة بدلالة حديث ميمونة رضي الله عنها قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « » (أخرجه مسلم: [1/1014]).
واختار هذا القول بعض المتأخرين من الشافعية (أعلام الساجد: ص: [121]).
القول الثاني: أن المسجد الحرام يراد به المسجد حول الكعبة وهو قول الحنابلة (الفروع: [1/600])، ورجّحه بعض الشافعية (المجموع: [3/190])، واختاره من المتأخرين ابن عثيمين رحمه الله (الفتاوى المكية؛ ص: [37]).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
1 – قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة من الآية:191].
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة من الآية:28].
وقالوا إن المقصود في هاتين الآيتين مسجد الجماعة الذي حول الكعبة.
2 – قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء من الآية:1].
والنبي صلى الله عليه وسلم أسري به من الحجر عند البيت وقيل أسري به من بيت أم هاني رضي الله عنها وهو خارج المسجد ولذلك استدل به من يرى أن المضاعفة تشمل جميع الحرم.
ومسألة من أين أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم مسألة خلافية.
ولكن الثابت في البخاري عن أنس بن مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: ..» الحديث" (أخرجه البخاري: [7/201]).
3 – ما رواه مسلم عن ميمونة رضي الله عنها قالت: « ».
ومفهوم الحديث أن المضاعفة مختص بمسجد الكعبة.
4 – أن الرحال لا تشد إلا إلى ثلاثة مساجد كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (أخرجه البخاري: [3/63]، ومسلم: [1/1014]).
ومعلوم أننا لو شددنا الرحال إلى مسجد من مساجد مكة غير المسجد الحرام لم يكن هذا مشروعاً بل كان منهياً عنه فما يشد الرحل إليه هو الذي فيه المضاعفة (انظر الفتاوى المكية لابن عثيمين؛ ص: [31]).
5 – ما تقرر من أن الجنب لا يجوز له اللبث في المسجد الحرام كبقية المساجد ومع ذلك يجوز له اللبث في بقية الحرم مما يدل على أن المقصود بالمسجد الحرام مسجد الجماعة لا كل الحرم.
القول الثالث: أن المسجد الحرام يطلق على الحرم كله وهو قول الأحناف (بدائع الصنائع: [2/301])، والمالكية (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: [3/1275])، والشافعية (مغني المحتاج: [6/67])، ورجّحه ابن تيمية (الفتاوى: [22/207])، وابن القيم (زاد المعاد: [3/303])، وابن باز (مجموع فتاوى ومقالات: [17/198]).
واستدلوا بأدلة منها:
1 – قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة من الآية:28].
فهذه الآية تدل على أن المقصود بالمسجد الحرام هو الحرم كله وليس المسجد فقط، قال ابن حزم بلا خلاف (المحلى: [4/243]).
ونوقش هذا الاستدلال بأن الله تعالى قال: {فَلا يَقْرَبُوا} ولم يقل: فلا يدخلوا، فالمشرك عندما يأتي إلى حدود الحرم فإنه يصبح قريباً من المسجد مما يدل على أن المقصود بالمسجد الحرام في هذه الآية عين المسجد ويجاب عن ذلك بأنه ليس من المسلم أن مقصوده فلا يقربوا المسجد الحرام أي عين المسجد لأنه قرباً لكافر من الحرم لا يلزم منه قربه من ذات المسجد وخاصة في العهد القديم وانعدام الوسائل الحديثة فبعض حدود الحرم تبعد عن المسجد أكثر من واحد وعشرين كيلو مما يدل على أن القرب من الحرم لا يلزم منه القرب من عين المسجد الذي هو مكان للطواف.
2 – قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
والمقصود بالمسجد الحرام هنا الحرم كله ونوقش هذا الاستدلال بأن المراد بالمسجد الحرام في هذه الآية هو المسجد حول الكعبة وهو ظاهر القرآن وقال به النووي (تهذيب الأسماء واللغات: [9/250])، وابن القيم (أحكام أهل الذمة: [1/189])، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي- أنه كان يصلي في الحرم فعلم من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن صد عن الحرم.
3 – أن النبي صلى الله عليه وسلم -عندما كان في صلح الحديبية- (أخرجه أحمد مطولاً: [4/323]) كان يصلي في الحرم مع أن إقامته في الحديبية بالحل وذكر الشافعي أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم (الأم: [2/341]).
وهذا من أصرح الأدلة على أن مضاعفة الصلاة تتعلق بجميع الحرم وليس مسجد الجماعة فقط قال ابن القيم رحمه الله: "وفي هذا دلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم لا يخص بها المسجد الذي هو مكان الطواف (زاد المعاد: [3/303]).
ونوقش هذا الاستدلال بأن غاية ما يدل عليه الحديث فضيلة الصلاة في الحرم مقارنة بالحل وهذا لا شك فيه قال الرحيباني وهذا لا يستريب به عاقل" (مطالب أولي النهى: 2/384]).
وأما المضاعفة فهي خاصة بالمسجد.
وأجيب بأن أفضلية الصلاة في الحرم إنما كانت بالمضاعفة المتعلقة بجميع الحرم وإلا لما كان للحرم مزية في الصلاة فيه عن باقي الأماكن.
وورد عن ابن عباس رضي الله عنه ما قوله: الحرم كله هو المسجد الحرام (أخرجه الفاكهي: [2/106] وفيه مقال). » (أخرجه البخاري [3/382]، واللفظ له، ومسلم: [1/984]).
كما ورد ذلك عن عطاء (مصنف عبد الرزاق: [5/151]، وابن أبي شيبة: [1/4/392])، ومجاهد (مصنف عبد الرزاق: [4/345]، وابن أبي شيبة 1/4/392)، وقتادة (تفسير الطبري: [3/359]).
مضاعفة أعمال البر الأخرى في الحرم:
اختلف العلماء هل التضعيف خاص بالصلاة أم يشمل جميع الأعمال الصالحة كالصوم والصدقة والتسبيح على قولين:
القول الأول: أن الأعمال الصالحة لا تضاعف في الحرم كالصلاة واستدلوا بأن الأدلة الثابتة في التضعيف مختصة بالصلاة فقط والقول بمضاعفة الطاعات الأخرى يحتاج إلى دليل ثابت وهذا هو قول الجمهور.
القول الثاني: أن الأعمال الصالحة تضاعف كالصلاة وقال به الحسن البصري فذكر أن من صام في الحرم كتب له صوم مئة ألف يوم ومن تصدق فيها بدرهم كتب له مئة ألف درهم صدقة. (أخبار مكة للفاكهي: [2/292]).
واستدل أصحاب هذا القول بما رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنه ما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ...» (أخرجه ابن ماجة: [3117]، وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد العمي، متروك الحديث).
قال الألباني في (الضعيفة: [2/232]): "الحديث موضوع".
ونوقش الاستدلال بأن الحديث لا يثبت.
واستدلوا ببعض الأحاديث والآثار ولكن كلها لا ترقى لدرجة الاحتجاج.
وخلاصة الكلام:
أنه لم يثبت دليل ينص على مضاعفات الطاعات في المسجد الحرام كمضاعفة الصلاة أي بمئة ألف.
ولكن تبقى الأعمال الصالحة في الحرم لها تعظيم ومزية عن غيرها وذلك لفضيلة الحرم على الحل. (انظر الفروع: [1/600]).
وقال ابن باز رحمه الله: "وبقية الأعمال الصالحة تضاعف -أي في الحرم- ولكن لم يرد فيها حد محدود، إنما جاء الحد والبيان في الصلاة، أما بقية الأعمال الصالحة كالصوم والأذكار وقراءة القرآن والصدقات فلا أعلم. فيها نصاً ثابتاً يدل على تضعيف محدد" (مجموع فتاوى ومقالات: [17/198]).
وفي الختام نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد اللطيف بن عوض القرني
- التصنيف: