البخيل
سألني سائل: ماذا يستفيد الإنسان من حتى بخله على نفسه؟ وأي غرض يرمي إليه من ذلك؟
سألني سائل: ماذا يستفيد الإنسان من حتى بخله على نفسه؟ وأي غرض يرمي إليه من ذلك؟
فأجبته بهذا الجواب:
البخل إحدى الملكات النفسية، والمَلَكَةُ صفةٌ راسخة في النفس تصدر عنها آثارها عفواً بدون روية ولا اختيار؛ فكما لا يُسأل المسرفُ عن سبب إسرافه، والغاضبُ عن غايته من غضبه، والحاسدُ عن غرضه من حسده كذلك لا يسأل البخيل عما يستفيده من بخله وحرصه؛ فكثيراً ما تعرُض لأرباب هذه الملكات عوارضُ تنزع بهم إلى الرغبة عن التخلي عنها حيناً، فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً؛ لمكان تلك الملكات من نفوسهم، ونزولها منها منزلة لا تزعجها الرغبات، ولا تزعزعها الإرادات.
وربما عرض للبخيل ما يدفعه إلى بذل شيء من ماله؛ فإذا وضع يده في كيسه وحاول القبض على شيء مما فيه أحس كأنَّ تياراً كهربائياً قد سرى من نفسه إلى يده؛ فتشنَّجت أعصابُها، وتصلَّبت أناملُها، وأعيت على الالتواء والانثناء؛ فأخرجها صفراً كما أدخلها، وبودِّه أنْ لا يفعل لولا أنَّ للغريزة قوةً فوقَ الإرادة، وسلطاناً تخضع له الرغبات، وتنقاد إليه العقول، إلا إذا كان وراءها وازع من القانون يزعها؛ فإنه يكسر شرتها أحياناً، وإن لم ينتزعها انتزاعاً.
ويحكى أن شحيحاً تحرّكت في قلبه يوماً الشفقةُ على ابنته الجائعة العارية؛ فأراد نفسه على أن يبذل لها شيئاً من ماله فَتَأَبَّتْ عليه؛ فأذن لوكيله أن يختلس لها من ماله ما يسد خلَّتها من حيث لا يعلمه بذلك، ولا يدعه ينتبه لشيء منه، علماً بأنه لا يستطيع أن يكون كما يريد.
فالوجه في السؤال أن يقال: ما هي الأسباب التي غرست ملكةَ البخل في نفس البخيل؟
فيكون الجواب عن ذلك: أن الأسباب تختلف باختلاف الأشخاص، وأطوارهم، وأخلاقهم، وتربيتهم، ونحن نذكر أهم تلك الأسباب من حيثُ ذاتُها بقطع النظر عن افتراق ما يفترق منها، واجتماع ما يجتمع.
الأول؛ الوراثة:
وهي وإن كانت سبباً ضعيفاً لما يعرُض للأخلاق الموروثة أحياناً من التغير والانقلاب بمعاشرة المتصفين بأضدادها، والتأثر بمخالطتهم إلا أنها كثيراً ما تنمو، وتتجسَّم إذا أُغفلت ولم يعترضها ما يسد سبيلها، ويقف في طريق نمائها.
الثاني؛ التربية: إذا نشأ الطفل بين أهل أشحَّاء، ولم يكن في فطرته ما يقاوم سلطان التربية على نفسه أخذ أخذهم في الحرص، وتخلَّق فيه بأخلاقهم كما يتخلق بها في العقائد والعادات من حيث لا يفكر في استحسان أو استهجان، كأنما هي عدوى الأمراض التي تسري إلى الإنسان من حيث لا يدري بها، ولا يشعر بسريانها.
ويُحْكَى أن رجلاً دخل منزلاً يُعْرَف أهلُه بالشح والحرص، فرأى طفلاً صغيراً في يده ليمونة؛ فطلب إليه أن يعطيه إياها، فأجابه الطفل: "إن يدك لا تسعها!".
الثالث؛ سوء الظن بالله: ذلك أن المتدين إذا أخذت عقيدة القضاء والقدر من نفسه مأخذها رسخ في قلبه الإيمانُ بأن لله سبحانه وتعالى عيناً ساهرة على عباده الضعفاء؛ فهو أرحم من أن يغفل شأنهم، ويكلهم إلى أنفسهم، ويسلمهم لصروف الليالي وعاديات الأيام؛ فلا يَلِجُّ به الحرصُ على الجمع، ولا يزعجه الخوف من البذل.
وعلى العكس منه ضعيف الإيمان، ضعيف الثقة بواهب الأرزاق، ومقسم الحظوظ والجدود؛ فهو لسوء ظنه لا يزال الخوف من الفقر نصبَ عينيه حتى يصير البخل ملكةً راسخة فيه.
الرابع؛ النكبات: كثيراً ما تحلُّ بالإنسان نكباتٌ تصهر قلبه، وتزعج غريزته من مستقرها، ومن ذلك النكباتُ التي يكون مرجعُها قلةَ المال، كأنْ يقع الرجل في خصومة يرى أنه لولا ضيقُ ذات يده لما وقع في مثلها، فكلما تمثلت له نكبةٌ لجَّ به الحرصُ، وأغرق في المنع، حتى يصير ذلك غريزة فيه، وخلقاً ثابتاً له.
ومن ذلك جديد النعمة الذي ذاق مرارة الفقر حِقْبَةً من الزمان، وكابد منه ما كابد من الآلام والأوجاع؛ فإنه -مهما حسنت حاله، وانتعشت نفسه، وفاضت خزائنه بالفضة والذهب- لا تذهب من فمه تلك المرارة، ولا تُضَيِّع ذاكرتُه آلامها، فلا يزال يتملك قلبه وسواس مقلق يُخَيِّل ما لا يُتَخَيَّل، ويريه ما لا يرى، كمن تمثل له خيال الشيطان مرة في أبشع صورة، وأفظع شكل؛ فهاله منظره، وذهب الخوف منه برشده؛ فلا يزال يراه في كل مكان وزمان، وفي حالتي الأمن والخوف، والوحشة والأنس.
الخامس؛ اللؤم: فإن النفس إذا خبثت طينتُها، ولَؤُمَ طبعُها كان من أخص صفاتها الحقدُ على الوجود بأجمعه، وبغضُ الخير للناس قاطبة، فكيف يمنحهم من ذات يده ما يزيده ألماً على ألم، وحسرة فوق حسرة، وهو لو استطاع أن يمنع عنهم سارية السماء، ويعترض دونهم نابتة الأرض لفعل؟
السادس؛ سقوط الهمة: إذا نشأ الإنسان عاليَ الهمة طموحاً إلى المعالي، محباً للذكر الحسن، والثناء الجميل، سهلٌ عليه أن يبذل في سبيل ذلك كل ما يستطيع بذله من ذات يده أو ذات نفسه.
وحب المجد أسال الذهب من خزائن الأغنياء، وصيَّر نفوس الشجعان نهباً مقسماً بين شفرات السيوف، وأسنة الرماح؛ طلباً لسعادة الحياة بالذكر، وسعادة الممات بالخلود؛ فمن لساقط الهمة ضعيف النفس بدافع يدفعه إلى بذل المال على مكانته الراسخة في قلبه، وامتزاج حبه بلحمه ودمه؟ أيدفعه حبُّ الثناء، وهو لا يشعر بلذته؟ أو خوف المذمة، وهو لا يتألّم منها، ولا يُحس بمرارتها؟ أم سعادة الحياة وسعادة الممات؟ وهو لا يفهم للسعادة معنى غير ما فهمه الزبرقان بن بدر حينما قنع على لسان الحطيئة من المكارم بلقمة يمضغها، وحُلَّةٍ يلبسها .
السابع؛ فساد المجتمع الإنساني: ذلك أن كثيراً من الناس قد بلغ بهم حبُّ المال، والتعبدُ له أن صاروا يعظمون صاحبه لا لفائدة يرجونها، أو خيرٍ يطمعون فيه، بل لأنه ذو مال، وذو المال في نظرهم أحق الناس بالمحبة والإكرام والإعظام، وإن لم يحصلوا منه على طائل؛ فلو أنهم عبدوا الله سبحانه وتعالى بهذا النوع من العبادة لأصبحوا من عِبَاده المقربين، فمن ذا الذي لا يحب من البخلاء أن ينال هذه المنزلة في نفوس هؤلاء المتملقين وليس بينه وبينها إلا الحرص على ما في يده، وهو عمل يتكلفه، ولا يتعمَّل له، بل هو أشهى الأشياء إليه، وأكثرها ملائمة لفطرته؛ ليزداد شرفاً وعزاً، كلما ازداد ثراءً ووفراً.
ومن هنا قال أحد البخلاء لأولاده: "يا بني لأنْ يعلم الناس أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهما من أن يقسمها فيهم".
وقال رجل آخر: "يا بخيل"؛ فقال له: "لا أحرمني الله بركة هذا الاسم؛ فإني لا أكون بخيلاً إلا إذا كنت غنياً فَسمِّ لي المال، ولقبني بما تشاء".
هذه هي أهم الأسباب التي تألفت منها رذيلة البخل؛ فإن أغفلنا النظر إليها، وسَلَّمْنا للسائل صحة سؤاله عما يستفيده البخيل من بخله، حتى على نفسه، وفرضنا البخيل مختاراً فيما يفعل غير مساق إلى هذا المورد الوبيل بسائق الغريزة الفاسدة، كان منال النجم أقرب من تَطَبُّقِ حاله هذه على قاعدة من قواعد العقل؛ لأنَّ الله تعالى خلق الإنسان، وَرَكَّبَ فيه رغباتِ الشهوات مختلفة، بعضها نفسي، والآخر جسدي؛ فهو لا يزال يتطلبها ما لم يعجز عنها.
فصاحب المال الكثير الذي يقنع بالشملة والمضغة، والجرعة والظلة، ويحمل في كل لحظه أشد الآلام من مقاومة نزوات نفسه، ونزعاتها إلى ميولها ورغباتها لا يمكن أن يحمل حاله على محمل العجز؛ لأنه قادر، ولا على الزهد؛ لأنه ما زهد فيما لا ينفع؛ فيزهد فيما ينفع، ولا على الخوف من الفقر؛ لأن عنده من المال ما يفني الأعمار؛ فهيهات أن يفنيه عمر واحد، ولا على رغبة في سعادة الذرية؛ لأن محبة الأب لولده لا يمكن أن تزيد على رغبته في أن يراه شريكاً له في سعادته.
فأما أن يشقى في حياته، ليسعد ولده بعد مماته فما لا يقبله العقل، ولا يدخل في دائرة من دوائر الفهم، فلم يبقَ لنا إلا نتوسل إلى علماء النفس أن يأذنوا لنا بالتوسع في تفسير معنى الجنون؛ حتى لا يكون مقصوراً على المعربدين والهاذين، بل يكون شاملاً للعابثين الذين لا يدرون ما يأخذون وما يدعون، والذين يجلبون لأنفسهم بإرادتهم وباختيارهم آلاماً نفسية هي أشد مما يجلبه المجانين على أنفسهم بمناطحة الجدران، ومطاردة الصبيان، كما نتوسل إلى علماء الشرائع أن يضعوا قانوناً لاستخراج المال من خزائن المقترين كما وضعوا قانوناً لحفظ المال في صناديق المبذرين؛ فإن تبذير المال يضر قوماً وينفع أقواماً، أما حبسه فيضر صاحبه، ويضر معه الناس أجمعين.
- التصنيف: