جدل عقيم
علينا أن نتعلم كيف نتعامل مع كل نوعية، ونعطيها حقها في التعامل، فنعطي للعالم قدره من التقدير والاحترام، وللمتعلم من الرحمة والمحبة، وللغافل من النصيحة، وللجاهل من الحذر والحرص على تجنب الوقوع معه في الجدل الغير مثمر والذي يوصل إلى طريق مسدود.
إذا كنت تحاور أحدًا ذات مرة واكتشفت جهله بما يدور الحوار حوله، فواجهته بقولك: "أنت جاهل بهذا الأمر".
طبعًا سيقيم الدنيا ولا يقعدها، وقد يصل به الأمر إلى سبك، أو من الجائز ضربك، وذلك دون محاولة منه لتبين صدق مقولتك من عدمه، وسوف تسد مسارات العقل لديه، وينقلب الحوار إلى جدل عقيم، لا طائل من ورائه.
لماذا يحدث كل هذا؟ هل لأن الكلمة -أعني كلمة الجاهل- كلمة فظة غليظة خشنة جارحة، يجب استبدالها بما هو أخف على النفس، نحو: لقد غاب عنك كذا، أو هناك معلومات أخرى حول الموضوع، وهكذا عملاً بالحكمة القائلة: "إن الحقائق مُرّة، فالتمسوا لها خفة البيان"، وكذلك: "إن النصح ثقيل، فلا ترسله جبلاً، ولا تجعله جدلاً" أم أن هناك أمر آخر - يتعلق بعدم معرفة الإنسان بحقائق الأشياء- وهو أن الجهل في الإنسان أمر طبيعي إذا قيس علمه بعلم غيره الذي هو أعلم منه، حتى نصل في نهاية الأمر إلى قمم التخصص في كل علمٍ أو فن، وبين هذه القمم من يفوقهم جميعًا والذي يعتبر مرجعية في هذا الأمر..
ويعتبر الإنسان في كل هذا جاهل بالنسبة لمن هو فوقه في المرتبة، ونصل في النهاية إلي النسبة الكبرى: وهو جهل البشرية جميعها منسوبة إلى علم الله، ولننظر إلى قوله عز من قائل: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85]، إذًا فالبشرية جميعها -من لدن آدم حتى قيام الساعة- جهلها محقق منسوبة إلى علم الله، ما لم يصل بك علمك إلى الجهل فإنه مهلكك؛ أي: إذا افتتنت أو أُعجبت بما تحمل من علم فلتنظر إلى علم الله، علماً بأن الجهل ليس هو عدم العلم.
ينبغي لنا أن نُعرِّف العلم حتى نستطيع أن نفرق بينه وبين الجهل، فما يقال له علم هو: (النسبة الواقعة المجزوم بصحتها وعليها دليل)، فإذا كانت غير واقعة فذلك الجهل، وإذا كانت راجحة فذلك ظن، وإذا كانت مرجوحة فذلك وهم، وإذا كانت في الوسط كانت شكًا، فهذه نسب المعرفة الخمسة.
والعلم مقابله الأمية، فالأمية هي ألا تعلم، أما الجهل هو أن تعلم شيء غير حقيقي وغير واقع، ومقابله المعرفة وهي التحقق من الشيء وانفعال الملكات والحواس به، وقد سئل الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه: "من العالم؟ قال: من يضع الشيء مواضعه، قيل له: فمن الجاهل؟ قال قد أجبت"! أي هو الذي لا يضع الشيء مواضعه؛ ولذا فالتعامل مع الجهل أو الجاهل أمر صعب؛ لأنه من المستحيل أن تقنعه بشيء ومعه مقابله، فأنت محتاج أولًا أن تُخرج منه الخطأ، ثم تُدخل مكانه الصواب، كما قال بذلك الراحل فضيلة الشيخ الشعراوي رحمه الله؛ وها هو الإمام الشافعي يقول: "لو جادلني ألف عالم لغلبتهم، ولو جادلني جاهل لغلبني جاهل فانبذوه".
وعلينا أن نتعلم كيف نتعامل مع كل نوعية، ونعطيها حقها في التعامل، فنعطي للعالم قدره من التقدير والاحترام، وللمتعلم من الرحمة والمحبة، وللغافل من النصيحة، وللجاهل من الحذر والحرص على تجنب الوقوع معه في الجدل الغير مثمر والذي يوصل إلى طريق مسدود، وقد حذّر الحكماء والعلماء من الجاهل، وهذا هو الحديث النبوي الذي رواه الديلمي من حديث أنس قوله صلى الله عليه وسلم: «ويل للعالم من الجاهل، وويل للجاهل من العالم» (السلسلة الضعيفة:4756)، وقول الإمام علي رضي الله عنه في التحذير من النصيحة للجاهل بقوله: "إياكم والنصيحة للعامة".
علي حسن السعدني
- التصنيف:
- المصدر: