قوافل الذاكرين

منذ 2013-10-16

وقف رجل يشاهد موكب الحجيج فتنهد وقال: هذه حسرة من انقطع من الوصول إلى البيت، فكيف ترى حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت؟


وقف رجل يشاهد موكب الحجيج فتنهد وقال: هذه حسرة من انقطع من الوصول إلى البيت، فكيف ترى حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت؟

فإن كنت ممن لم يمن الله عليه بأن يكون مع موكب الحجيج في هذه الرحلة الربانية، فهذا لا يمنعك أن تحج بقلبك، فكم من أناس يذهبون إلى الحج بأموالهم وأجسادهم، ولكن تبقى قلوبهم معلقة بالدنيا التي تركوها قبل الرحيل!

يا الله ما أرحمك بأمتك ترسل إليها العطايا والمنن؛ لترحم بها أمتك. قال أحد الصالحين: ما أجمل عظمة الربوبية؟ وما أعظم فضل الألوهية؟ أن يتفضل الله على عباده فيدعوهم إلى البيت العتيق؛ ليغفر ذنوبهم، ويطهر قلوبهم، ويضاعف أجورهم، فالكيِّس الفطن من عَرَّضَ نفسه لنفحات رحمة الله تعالى فصلى، وصام، وتصدق، ووصل رَحِمَهُ، وعفا عمن أساء إليه وظلمه، وقرأ القرآن، وتدبر، وسبَّح، وكبَّر، وذكر الله تعالى، واستغفر، ونهل من الصالحات ما أمكن، والغافل المغرور الذي يقضي تلك الأيام المباركات في غفلته، وفي لعبه، وفي ركضه وراء دنيا زائلة، ونفس أمارة بالسوء، وصحبة فاسدة، فيخسر موسم طاعة عظيم لا يأتي إلا مرة واحدة كل عام.

ولكن في البداية نحب أن نشير إلى معنى كلمة الحج:
تتركب كلمة الحج من الحاء والجيم: الإشارة إلى أن الحاء من الحلم، والجيم من الجرم؛ فكأن العبد يقول: يا رب جئتك بجرمي -أي ذنبي- لتغفره بحلمك، وقال الشافعي رضي الله عنه: "فرض الله تبارك وتعالى الحج على كل حر بالغ استطاع إليه سبيلا بدلالة الكتاب والسنة"، قال الماوردي: "الحج في لسان العرب، ففيه قولان: أحدهما: أنه القصد، ولهذا سمي الطريق محجة، لأنه يوصل إلى المقصد، فعلى هذا سمي به النسك، لأن البيت مقصود فيه، والقول الثاني: أنه العود مرة بعد أخرى". لنتخيل معاً هذه الرحلة، وما فيها من عبر لنقف عليها لعلنا إذ كتب لنا الحج يوماً أن نرتحل، وترتحل معنا هذه المعاني: الحج يهدم ما قبله.

وأذن في الناس:
قال الله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] فخاطب الله تعالى بذلك نبيه إبراهيم عليه السلام فقال إبراهيم أي رب فأين يبلغ ندائي؟ فقال الله تعالى عليك النداء وعَلَيّ البلاغ، فصعد إبراهيم على المقام، وقال: عباد الله أجيبوا داعي الله، فأجاب من في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، لبيك داعي ربنا لبيك، فيقال: إنه لا يحج إلا من أجاب دعوة إبراهيم عليه السلام.

الحج نداء قديم؛ أمرٌ من الله تعالى إلى نبيه إبراهيم، ودعاك ودعاني إلى بيته والطواف به، فيقال: أن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وسمع من في الأرحام والأصلاب وأجابه كل شيء سمعه من حجر، وشجر، ومدر، ومن كتب له أن يحج إلى يوم القيامة، لبيك اللهم لبيك، أتدري أنت عندما تقولها أنك تجيب نداء إبراهيم، ولكن هل تقولها في كل شيء في حياتك؟ في كل طاعة فرضها الله علينا قلت لربك: سأطيعك في صلاتي، في أبي وأمي، في هذا البيت الذي أعده الله لعباده لكي يقصدوه ويحجوا إليه، هذا البيت كل مسلم يهفو إليه بقلبه، ومن لا تهفو إليه نفسه هو صاحب فطرة منكوسة، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، من يعظم شعائر الله في هذه الأيام، من يعظم الصلاة، ويصوم بإخلاص، ويتصدق، ويتقرب إلى الله أكثر هذه الأيام، فلا يسرق، ولا يزني، إنها أيام يعظم الله شأنها، أصبحت أيام تمر على المسلمين من رمضان وانتهاء بالحج، ونجد من يفعل المعصية يصر عليها، ولا يعتبر بقيمة هذه الأيام، ألا نعظم حرمة هذه الأيام في قلوبنا حتى تملأ التقوى قلوبنا؟

الحج تجرد وإخلاص:
لم تقطع هذه المسافة التي كان يقطعها من كان من قبلنا في شهور، فقد يموتوا قبل أن يصلوا إلى المكان، لكي تعمل بعمل أهل الدنيا، أو تذهب لمصيف، ولكن تقطعها لله، ولله فقط، وتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كان هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (متفق عليه).

يقول الشاعر:

إليك قصدي رب البيت والحجر *** فأنت سؤلي من حجي ومن عمري
زاد رجائي لكم والشوق راحلتي *** والماء من عبراتي والحب سفري


الحج يوحد الأمة الإسلامية على كلمة واحدة:
فالقبلة واحدة، والزي واحد، والرب واحد، لا إله إلا هو، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، والتقوى محلها القلب، وليس طريق الزينة، والملابس، وأنواع العطور، فقد تستخدم في بلدك أنواع العطور، أو ملابس غالية الثمن، لكن هنا في بلده هو، وعند بيته، الكل سواء في الملابس، لا عطور، لا مبالغة في اللباس، حتى لا يفخر أحد على أحد، وينشغلوا باللباس والزينة عن العبادة المقصودة، ولتتأمل معي: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]. من الذي جمع الأبيض مع الأسود في مكان واحد؟ من الذي جمعهم من كل بقاع الأرض؟ يأتى هذا من الجنوب، و هذا من الشمال، جمعهم: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 17، 18].

الحج رحلة السلام:
قال تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. تخيل في هذا المكان الضيق المحدد، فهذا المكان يتسع لملايين، تسعهم طهارة قلوبهم وصفائها، وأنت أيضا في هذه الأيام إن استطعت أن تمسك لسانك عن الفسوق، وفحش القول، كما يفعل الحاج هناك، فأبشر فقد خرجت من هذه الأيام كيوم ولدتك أمك من الذنوب والمعاصى.

وقفة مع سيدنا إبراهيم في هذا الوادي القاحل:
عندما ترك زوجته وابنه، ومشى خطوات اعترضه الشيطان، وأخذ يصده عما يفعله ويقول له: تترك زوجك وولدك وترحل!! ليدخل عليه شبهة أو فتنة فلم يبالِ إلا أن التقط حجرة ورجمه بها وانطلق يكمل طريقه؛ يقول الله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]. كأنه يقول له أنهم في حفظ الرب وفى حرمك من قبل أن تكون هناك حرم. وانظر في الدعاء؛ أهم شيء الصلة بينهم وبين الرب. فليتأمل الآباء بماذا يدعو لأبنائهم وعلى ماذا يربيهم، ودعا لهم بما يؤنس وحدتهم وكأنه يبعث لنا رسالة أن في هذا الإنسان لا بد له من صحبة صالحة يأنس بها في حياته، فهو ليس بنفسه ولكن بمن حوله.

الحج طاعة وانقياد:
فلا يجوز لنا أن نسأل لماذا نقبل الحجر، ولماذا نطوف سبع مرات، ولماذا هذا الزي البسيط فلنستمع إلى قول المولى عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، إنه اختبار الطاعة والانقياد لله، فإن فعلت هذه المناسك بهذه الطريقة في هذه الأيام فهذا يدفعك أن تقبل على الله بقية أيام العام، ويكون من السهل تلقي أوامره لأنك تعلم أنه حتما لم يفرض علينا طاعة إلا وكان فيها خير.

الحج من مال طيب:
لحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى:» {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، «ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنا يستجاب لذلك» (رواه مسلم).

اغتسل من الذنوب والخطايا كما يغتسل المحرم بالماء استعداد لهذه الرحلة، اغتسل أنت بدمع الخشية من الله، وليكن من دعائك اللهم اغسلني من الخطايا والذنوب بالثلج والماء والبرد، واعلم أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

اسع أنت بقلبك:
هنا من هذا المسجد تصلي هنا وتحضر مسجد علم هناك، اسعَ على طلب الرزق. ألا يذكرك هذا اليوم بيوم الحشر؟ تذكر ماذا أعددت لهذا اليوم؟

أول نظرة:
أين أنتم من الوقوف على هذا الباب لالتزام هذه الأعتاب؟ إن المشتاق يشم: يشم رائحة من أحب ولو على بعد أميال وأعوام يقول الله تعالى: {وَلَمَّا فصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أبُوهُمْ إِنِّي لأجد رِيحَ يُوسُف} [يوسف: 94].. وهذا أنس بن النضر قال: "واها لريح الجنة؛ إني لأشم لريح الجنة من جبل أحد"، استشعر لذة النظر إلى وجه الله في الجنة بكرة وعشيا كما رزقك النظر إلى بيته يرزقك النظر إلى وجهه، من منا عندما ينظر للكعبة ينصرف ذهنه إلى طرح التساؤل: ماذا فيك..؟ ماذا فيك يا سواد الأستار؟ ما سر هذا البهاء؟ وماذا بين جنبات هذه الأحجار؟ نظرة.. أول نظرة..

أو أشد ذكراً:
قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]. لا يكون ذكرهم لله في هذه الأيام كذكركم آبائكم ودنياكم ولكن أشد ذكراً أي علينا أن نجتهد في الذكر في كل وقت، ففي الحديث القدسي: «قال الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» وأي ملأ خير من ملأ عند المشعر الحرام!!

إذا هم تعلقوا بأستار الكعبة تعلق أنت بالله في هذه الأيام: وتذكر قول ابن القيم: لا تسأم من الوقوف بابه ولو طردت، ولا تقطع الاعتذار ولو رددت، فإن فتح الباب للمقبولين فادخل دخول المتطفلين، وابسط كفك وقل تصدق. على أنكم تذكرون آباءكم حيث لا يجوز أن تذكروا إلا الله بل كونوا أشد ذكرا، وأنتم خرجتم إليه متجردين من الثياب فتجردوا من الأنساب، فإن ذكر الله هو الذي يرفع العباد، وليس التفاخر بالأنساب، فالميزان الجديد للقيم البشرية هو ميزان التقوى، (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله). يقول أحد المبشرين: "سيظل الإسلام الصخرة التي تتحطم عليها سفن التبشير المسيحي ما دام الإسلام معه هذه الدعائم الأربعة: القرآن، مؤتمر الحج السنوي، الأزهر، اجتماع المسلمين الأسبوعي في الجمعة"، انظروا إلى ماذا يحسدنا الغرب على هذه العطايا والمنن الإلهية، هم يعرفون قيمتها أكثر منا ونحن مغيبون عنها، فلنتمسك بالقرآن وجميع شعائرنا فهي سبب رقينا وتقدمنا.

الحج جهاد:
إلى من يشتاقون إلى الجهاد في سبيل الله تأملوا معي هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يا رسول الله ترى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ فقال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور». تعال نخطو الخطوات كما صنعت تلك المرأة التي ظلت تسأل وفد الحجيج: أين بيت ربي؟؟ أين بيت ربي؟؟ حتى بلغته فلما رأته سقطت ميتة، (ماتت مشتاقة) ونحن: متى نشتاق؟؟ فتعال نطير بقلوبنا لتنزل في بيت الله الحرام. أراك الآن لربك منكسرا، ومن هيبته خاشعا، هيا ادخله وأنت متذلل لله، ادخله بالسكينة والوقار فهكذا دخله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، مطأطأً رأسه ذلة لله، فهنا لا ترفع الرؤوس خشية لله، هنا أظهر لربك فقرك وحاجتك.

طاف قلبي حول العرش:
طف وكأنك حول العرش. قال بعض السلف: "إنَّ هذه القلوب جوالة، فمنها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحش (أي القاذورات؛ يعني حطام الدنيا الفاني)، فلا عبرة لطواف دون ذلك". وانظر لهذه الكلمات المهمة لابن القيم في (الفوائد) يقول: "فترى الرجل روحه في الرفيق الأعلى وبدنه عندك، فيكون نائماً على فراشه وروحه عند سدرة المنتهى تجول حول العرش. وآخر واقف في الخدمة ببدنه وروحه في السفل تجول حول السفليات، فإذا فارقت الروح البدن التحقت برفيقها الأعلى أو الأدنى، فعند الرفيق الأعلى كل قرة عين، وكل نعيم وسرور، وبهجة ولذة وحياة طيبة، وعند الرفيق الأسفل كل هم وغم وضيق وحزن وحياة نكدة ومعيشة ضنك، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه: 124]. واستشعر وكأنك مثل الملائكة تحوم حول العرش لا تكل ولا تمل، بل تقول: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك".

الطواف يبدأ بالرمل، وهكذا اصنع في طريقك لربك، الآن هيا تقدم وتحرك فقد اقترب زمان العشر، تقدم بمضاعفة وردك اليومي لا سيما من الذكر فهذا أوان اليقظة. والطواف فيه الاضطباع لتظهر لله قوتك، فأرِ الله قوتك في طاعته، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله، فلا تكن ضعيفا، واستقو بالله، وتذكر أنه (لا حول ولا قوة إلا بالله). وأنت تطوف لا تضع قدماً ولا ترفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة وكتب له بها حسنة، فتذكر أسباب المغفرة، فهيا أسمع ربك أنين استغفارك.

واشوقاه أحب أيام الله:
روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام (يعني أيام العشر) قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء».

إلا من أتى الله بقلب سليم:
سلم قلبك من الحسد والغل، وإذا كنت على خلاف مع أحد ابدأ من الآن واطلب العفو منه، فأسرع إليه قبل أن تبدأ الأيام حتى لا يكون بينك وبين الله حجاب في هذه الأيام. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أفضل؟ فقال: «كلُّ مخمومِ القلب، صدوقِِ اللسان». قالوا: صدوقُ اللسانِ نعرفه، فما مخمومُ القلب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هو التَّقيّ النَّقيّ، لا إثمَ فيه ولا بَغْي، ولا غِلّ ولا حَسَد».

طلق الدنيا قبل أن تدخل هذه الأيام:
وليكن دعائك فيها اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، فإنه لا يجتمع في قلب مسلم حب الدنيا وحب الآخرة، فلا بد أن يطرد أحدهما الآخر، يقول المولى عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ} [الحديد: 20]. يقول يحيى بن معاذ: "العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى ربه قبل أن يلقاه".

جدد التوبة والإنابة إلى الله:
بصلاة ركعتين في أول ليلة من هذه الليالي تتذكر فيها ذنوبك وتتوب إلى الله، واحذر أن يقال لك لا لبيك ولا سعديك وكيف ذلك؟ إثر معصية ما زال القلب مصر عليها، فاترك المعصية واسأل الله العافية كما سألها أحد الصالحين، قال رجل لأحد العابدين: ما تشتهي؟ قال: أشتهي عافية يوم، قال: أليس كل الأيام عافية، قال: عافية يوم لا أعصي الله فيه. فأنِر قلبك بنور الطاعة ولا تطفئه بعد العيد بظلمة المعصية.

التكبير والتهليل والتحميد:
ما طابت الدنيا إلا بذكره ولا الآخرة إلا برؤيته، يقول الله عزوجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. هل استشعرت معنى هذه الآية التي نزلت في حجة الوداع؟! أول وآخر حجة لرسول الله، يوم أكمل لنا ديننا فلا يعتريه نقصان، صالح لكل زمان ومكان فلا يأتي من ينظر إلى أحكامه أنها أحكام الجاهلية، فالله هو خالق هذا الكون ومدبره إلى يوم القيامة، فلا ينازعه أحد، عندما يأمر بالصلاة والحجاب والصيام فليس لنا إلا أن نقول كما قال الحاج: لبيك اللهم لبيك.

وأتممت عليكم نعمتي:
هذا النعمة العظيمة التي تشملنا بمعاني كثيرة: العدل والرحمة والمودة لا توجد في أي دين آخر، دين الوسطية بين العاطفة والمادية، فهلا أدركنا قيمة هذه النعمة، أم أننا ما زلنا ننبهر بثقافات أخرى لا تسمن ولا تغني من جوع، يا ليتنا نعلم أنه ليس هناك تعارض بين الدين وأمور الحياة العصرية. {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فهل نستشعر أن الله يحدثنا بهذة الكلمات؟ ارتضى لنا هذا الدين، فهل نحن ارتضيناه لأنفسنا؟ أم إننا نأخذ منه ما هو على هوانا، نأخذ بعضه ونترك بعضه؟

الإكثار من الأعمال الصالحة:
أطعم الطعام، جهز وجبة يوميا في هذه الأيام وأخرجها لفقير تعرفه، وتذكر وأنت تجهزها أن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها قيل لمن يارسول الله؟ قال: «لمن أطعم الطعام وألان الكلام، وصلى بالليل والناس نيام». صلة الرحم، قم بزيارة أبوك وأمك إن كنت متزوج، أو زيارة أقاربك، وتذكر قول رسولك الكريم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه» (متفق عليه).

مائدة القرآن:
في هذه الأيام قد اكتمل هذا الدين بنزول القرآن واكتمل المنهج الرباني فهلا اكملناه أو بمعنى آخر ختمناه، اقرأ وتدبر، اقرأ وارتق ورتل فمنزلتك عند آخر آيه تقرأها.

الصدقة:
ليكن لك حظ منها في هذه الأيام ولو بشق تمرة، وتذكر فقد سبق درهم ألف درهم، تذكر أن ما تفعله من خير لا بد أن يعود عليك بالخير، يقول المولى عز وجل: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]. فجدد نيتك، وأمسك عليك لسانك في هذه الأيام كما يفعل الحاج، يقول المولى عز وجل: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].

يوم عرفة:
كثرة العتق من النار في يوم عرفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة» (رواه مسلم)، «أفضل الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلى، لا إله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».

وفي هذا اليوم يباهي بنا الله الملائكة:
ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، فيباهي بكم الملائكة، يقول: "انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، يرجون جنتي"، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل أو كقطر المطر أو كزبد البحر لغفرها (أفيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم له). وفي هذا اليوم: ركن الحج العظيم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» (متفق عليه).

وأخيراً احذر أن تلبي بلسانك وقلبك مصر على هواه، وكبر كما كان عبد الله بن عمر يكبر في كل وقت وعلى كل حال على فراشه وعلى فسطاطه وممشاه وفي جميع الأحوال، لبيك اللهم لبيك.



إيمان الخولي
 

  • 3
  • 0
  • 9,416

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً