ابن تيمية بين آيات الأحزاب وانقلاب مصر
نزل شيخ الإسلام ابن تيمية آيات غزوة الأحزاب، على حرب المغول في زمانه، وهي جديرة عند التأمل بالتنزيل على معركتنا مع انقلاب مصر في زماننا.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
الحمد لله الملك القهار، مكور النهار على الليل، ومكور الليل على النهار، الذي جعل القرآن هدى لأولي الأبصار، وجعل الأحداث مذكرة لأولي الاعتبار، فهل من مدكر؟! وصلى الله وسلم على محمد رسول الله، قدوة المؤمنين إلى يوم الدين، الثابت أمام العدو المتحزبين، فكشف أمراض المنافقين، ونشر في الصادقين التفاؤل والصبر واليقين. فالأيام دول، ولنا في كل يوم وغده.. أمل، وبعد:
فقد نزل شيخ الإسلام ابن تيمية آيات غزوة الأحزاب، على حرب المغول في زمانه، وهي جديرة عند التأمل بالتنزيل على معركتنا مع انقلاب مصر في زماننا، وذلك من الجهات التالية:
أولا: اجتماع مختلف الأعداء على من رفع راية الإسلام. فقد [كَانَ مُخْتَصَرُ الْقِصَّةِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَحَزَّبَ عَلَيْهِمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ وَجَاءُوا بِجُمُوعِهِمْ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَسْتَأْصِلُوا الْمُؤْمِنِينَ... وَفِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ تَحَزَّبَ هَذَا الْعَدُوُّ مِنْ مَغُولٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ التُّرْكِ وَمِنْ فُرْسٍ وَمُسْتَعْرِبَةٍ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَجْنَاسِ الْمُرْتَدَّةِ وَمِنْ نَصَارَى الْأَرْمَنِ وَغَيْرِهِمْ ].
*وهذا هو ما كان في انقلاب مصر، إذ ما جمع بينهم إلا عداوة الإسلاميين، فمن أقصى اليمين العلماني إلى أقصى اليسار الشيوعي، ومن الثوري إلى الفلولي، ومن شيخ الأزهر إلى بابا الكنيسة، ومن قادة في العسكر إلى قادة في السياسة...
ثانيا: شدة الابتلاء. كما [قَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِ الْأَحْزَابِ: {إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11]. وَهَكَذَا هَذَا الْعَامُ. جَاءَ الْعَدُوُّ مِنْ نَاحِيَتِي عُلُوِّ الشَّامِ وَهُوَ شَمَالُ الْفُرَاتِ. وَهُوَ قِبْلِيِّ الْفُرَاتِ. فَزَاغَتْ الْأَبْصَارُ زَيْغًا عَظِيمًا وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ؛ لِعَظْمِ الْبَلَاءِ].
*وها نحن قد أحاط بنا أعداؤنا، فنحن بين شهيد وأسير، ومن يعمل مترقبا لا يدري ما قد يصيبه، في ظل تهديد شديد بالاستئصال من صنوف المجرمين.. فأطواق عسكرية للجيش والشرطة، ومداهمات أمنية للبيوت، ونشر لعصابات البلطجية في الشوارع، في ظل إعلام يبيح الدماء والحرمات، وترديد من مجرمي الببغاوات...
ثالثا: انقسام الناس حول الثقة في وعد الله وبشاراته. [وَظَنَّ النَّاسُ بِاَللَّهِ الظَّنُونَا. هَذَا يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَقِفُ قُدَّامَهُمْ أَحَدٌ... وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّهُمْ لَوْ وَقَفُوا لَكَسَرُوهُمْ كَسْرَةً وَأَحَاطُوا بِهِمْ إحَاطَةَ الْهَالَةِ بِالْقَمَرِ. وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّ أَرْضَ الشَّامِ مَا بَقِيَتْ تُسْكَنُ وَلَا بَقِيَتْ تَكُونُ تَحْتَ مَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا يَظُنُّ إنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلَى مِصْرَ فَيَسْتَوْلُونَ عَلَيْهَا فَلَا يَقِفُ قُدَّامَهُمْ أَحَدٌ فَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالْفِرَارِ إلَى الْيَمَنِ وَنَحْوِهَا... وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ أَهْلُ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَأَهْلُ التَّحْدِيثِ وَالْمُبَشِّرَاتُ أَمَانِي كَاذِبَةٌ وَخُرَافَاتٌ لَاغِيَةٌ... {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}؛ ابْتَلَاهُمْ اللَّهُ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ الَّذِي يُكَفِّرُ بِهِ خَطِيئَاتِهِمْ وَيَرْفَعُ بِهِ دَرَجَاتِهِمْ وَزُلْزِلُوا بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الرَّجَفَاتِ مَا اسْتَوْجَبُوا بِهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]. وَهَكَذَا قَالُوا فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ فِيمَا وَعَدَهُمْ أَهْلُ الْوِرَاثَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالْخِلَافَةُ الرسالية وَحِزْبُ اللَّهِ الْمُحَدِّثُونَ عَنْهُ. حَتَّى حَصَلَ لِهَؤُلَاءِ التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]... فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ وَالنِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ يُوجِبُ الرَّيْبَ فِي الْأَنْبَاءِ الصَّادِقَةِ الَّتِي تُوجِبُ أَمْنَ الْإِنْسَانِ مِنْ الْخَوْفِ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهَا كَانَتْ غُرُورًا لَهُمْ كَمَا وَقَعَ فِي حَادِثَتِنَا هَذِهِ سَوَاءٌ ].
*وهكذا انقسم الناس اليوم، فالمنافقون والذين في قلوبهم مرض ساءت ظنونهم، كأنهم لم يسمعوا الآيات، وكأنهم ما رأوا البراهين والمبشرات، بل كأنهم ما عرفوا سنة الله في خلقه، وكيف يجري أمره بين أهل الحق وأهل الباطل.. كأنهم ما رأوا سقوط دولة المخلوع، ولا رأوا خط القدر الساري في الأمة. أما المؤمنون فقد اطمأنوا إلى ما بشرهم به ربهم، وثقوا بوعده، وازداد يقينهم بما رأوا من آياته، علموا أن تكاثر المبشرات لم يأتهم لمزيد فضل، بل لشدة فتن مع ضعف قلوب، في ظل رحمة من الله غالبة، ولذا سماها مبشرات.. فهموا سنة الله في خلقه، وميزوا أمره في امتحانه، وأعلوا سنن الإيمان على سنن المادة، واستحضروا سير المرسلين.
رابعا: ظهور خطاب الإرجاف والتخذيل. [قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 13] وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَسْكَرَ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ سَلْعٍ وَجَعَلَ الْخَنْدَقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: لَا مُقَامَ لَكُمْ هُنَا؛ لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ. فَارْجِعُوا إلَى الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: لَا مُقَامَ لَكُمْ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ فَارْجِعُوا إلَى دِينِ الشِّرْكِ. وَقِيلَ: لَا مُقَامَ لَكُمْ عَلَى الْقِتَالِ فَارْجِعُوا إلَى الِاسْتِئْمَانِ وَالِاسْتِجَارَةِ بِهِمْ. وَهَكَذَا لَمَّا قَدِمَ هَذَا الْعَدُوُّ كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ قَالَ: مَا بَقِيَتْ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَقُومُ فَيَنْبَغِي الدُّخُولُ فِي دَوْلَةِ التَّتَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْخَاصَّةِ: مَا بَقِيَتْ أَرْضُ الشَّامِ تُسْكَنُ؛ بَلْ نَنْتَقِلُ عَنْهَا إمَّا إلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَإِمَّا إلَى مِصْرَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ الْمَصْلَحَةُ الِاسْتِسْلَامُ لِهَؤُلَاءِ كَمَا قَدْ اسْتَسْلَمَ لَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ حُكْمِهِمْ. فَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ الثَّلَاثُ قَدْ قِيلَتْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ. كَمَا قِيلَتْ فِي تِلْكَ].
*وهكذا يقال في محنة الانقلاب: لا تقوم دولة إسلامية في مصر، فالظروف ليست مهيأة لذلك، بل لا زال هذا مطلبا بعيدا. والسفر إلى غيرها أولى للنجاة، فالسلامة لا يعدلها شيء، حتى تسكن هذه المعركة. ولا حل إلا بالدخول في دولة العلمانيين من الانقلابيين، فإنه لا طاقة لنا بهم، وهذه حكمة الواقع وأقصى الآمال فيه.
خامسا: الاعتذار بالأعذار الكاذبة لترك المرابطة. [قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] وَكَانَ قَوْمٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ يَقُولُونَ...: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ. أَيْ: مَكْشُوفَةٌ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَدُوِّ حَائِلٌ... {إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا} فَهُمْ يَقْصِدُونَ الْفِرَارَ مِنْ الْجِهَادِ وَيَحْتَجُّونَ بِحُجَّةِ الْعَائِلَةِ. وَهَكَذَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْغُزَاةِ. صَارُوا يَفِرُّونَ مِنْ الثَّغْرِ إلَى الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ وَإِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ كَمِصْرِ. وَيَقُولُونَ: مَا مَقْصُودُنَا إلَّا حِفْظَ الْعِيَالِ وَمَا يُمْكِنُ إرْسَالُهُمْ مَعَ غَيْرِنَا. وَهُمْ يَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ. فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ جَعْلُهُمْ فِي حِصْنِ دِمَشْقَ لَوْ دَنَا الْعَدُوُّ. كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ إرْسَالُهُمْ وَالْمُقَامُ لِلْجِهَادِ. فَكَيْفَ بِمَنْ فَرَّ بَعْدَ إرْسَالِ عِيَالِهِ؟].
*واليوم ما أكثر الأعذار؟!.. وما أكثر حاجات البيوت؟!.. وما أكثر القاعدين معها، القاصدين للفرار؟!.. ممن علت في قلوبهم مصالحهم الشخصية وما يقترب منها على مصلحة الدين والأمة، وقائمة الأعذار جاهزة وطويلة، تقال للمؤمنين في محاولة يائسة، لتجميل صورة الفرار القبيحة.. مع أن الله قد فضحهم.
سادسًا: استعداد المنافقين ومرضى القلوب لقبول الباطل. [قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب: 14] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ الْمَدِينَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا ثُمَّ طَلَبَتْ مِنْهُمْ الْفِتْنَةَ -وَهِيَ الِافْتِتَانُ عَنْ الدِّينِ بِالْكُفْرِ أَوْ النِّفَاقِ- لَأعْطُوا الْفِتْنَةَ. وَلَجَاءُوهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ. وَهَذِهِ حَالُ أَقْوَامٍ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعَدُوُّ الْمُنَافِقُ الْمُجْرِمُ. ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمْ مُوَافَقَتَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ -وَتِلْكَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ- لَكَانُوا مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ. كَمَا سَاعَدَهُمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي أَقْوَامٌ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا بَيْنَ تَرْكِ وَاجِبَاتٍ وَفِعْلِ مُحَرَّمَاتٍ إمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ وَإِمَّا فِي حَقِّ الْعِبَادِ. كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَشُرْب الْخُمُورِ وَسَبِّ السَّلَفِ وَسَبِّ جُنُودِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّجَسُّسِ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَدَلَّالَتِهِمْ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرِيمِهِمْ. وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَتَعْذِيبِهِمْ وَتَقْوِيَةِ دَوْلَتِهِمْ الْمَلْعُونَةِ وَإِرْجَافِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِتْنَةِ].
*فمفتون يساعدهم بالكلمة، ومفتون يساعدهم بالفعل.. مفتون يساعدهم بذم المؤمنين، ومفتون يساعدهم بفتوى باطلة، ومفتون -بعد أن ملأ الدنيا كلاما عن نصرته لشريعة الإسلام- يدعم دولتهم الخارجة عن الشريعة.. إلى أبواب من الفتنة لا آخر لها.. لأن الانقلابيين من العلمانيين قد دخلوا عليهم!.. فانحازوا إليهم، وروجوا باطلهم.. فلم يسكتوا سكوت المضطر، بل قبلوا فتنتهم التي دعوهم إليها.
سابعا: وهناك من يخلف عهده مع الله. [قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّون الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب: 15] وَهَذِهِ حَالُ أَقْوَامٍ عَاهَدُوا ثُمَّ نَكَثُوا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ. فَإِنَّ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَفِي هَذَا الْعَامِ: فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ مَنْ عَاهَدَ عَلَى أَنْ يُقَاتِلَ وَلَا يَفِرَّ ثُمَّ فَرَّ مُنْهَزِمًا لَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْر].
*أما يومنا، فليس كأي يوم.. كم ممن انتظر ناس منهم الثبات وأكثر.. فأخلفوا!.. وكم ممن عاهد الله من قبل.. فلما حان وقت الوفاء.. تخلفوا!.. فكم سقطت من أقنعة.. وتهاوت من ألقاب.. وتحررت القلوب من مبالغة في إحسان الظن بالبعض.. أو انتظار لهم!
ثامنا: لن ينفع الجبناء فرارهم. [قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 16] فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْفِرَارَ لَا يَنْفَعُ لَا مِنْ الْمَوْتِ وَلَا مِنْ الْقَتْلِ... فَاقْتَضَى ذَلِكَ: أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَبَدًا. وَهَذَا خَبَرُ اللَّهِ الصَّادِقِ. فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ فَقَدْ كَذبَ اللَّهَ فِي خَبَرِهِ. وَالتَّجْرِبَةُ تَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَرُّوا فِي هَذَا الْعَامِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ فِرَارُهُمْ؛ بَلْ خَسِرُوا الدِّينَ وَالدُّنْيَا وَتَفَاوَتُوا فِي الْمَصَائِبِ. وَالْمُرَابِطُونَ الثَّابِتُونَ نَفَعَهُمْ ذَلِكَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. حَتَّى الْمَوْتُ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ كَثُرَ فِيهِمْ. وَقَلَّ فِي الْمُقِيمِينَ. فَمَا مَنَعَ الْهَرَبُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالطَّالِبُونَ لِلْعَدُوِّ وَالْمُعَاقِبُونَ لَهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا قُتِلَ؛ بَلْ الْمَوْتُ قَلَّ فِي الْبَلَدِ مِنْ حِينِ خَرَجَ الْفَارُّونَ. وَهَكَذَا سُنَّةُ اللَّهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. ثُمَّ قَال تَعَالَى: {وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَلِيلًا}... لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَبَدًا. ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَانِيًا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَنْفَعُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا مَتَاعٌ قَلِيلٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَالِثًا: وَهُوَ أَنَّ الْفَارَّ يَأْتِيهِ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ الْمَضَرَّةِ وَيَأْتِي الثَّابِتُ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ الْمَسَرَّةِ. فَقَالَ: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 17] فَمَضْمُونُ الْأَمْرِ: أَنَّ الْمَنَايَا مَحْتُومَةٌ فَكَمْ مَنْ حَضَرَ الصُّفُوفَ فَسَلَّمَ وَكَمْ مِمَّنْ فَرَّ مِنْ الْمَنِيَّةِ فَصَادَفَتْهُ، كَمَا قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لَمَّا احْتُضِرَ: "لَقَدْ حَضَرْت كَذَا وَكَذَا صَفًّا وَأَنَّ بِبَدَنِي بِضْعًا وَثَمَانِينَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسَيْفِ وَطَعْنَةٍ بِرُمْحِ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمِ. وهأنذا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي كَمَا يَمُوتُ الْبَعِيرُ. فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ"].
*فمهما ادعوا أن الفرار ذكاء، وأنه لا شيء مثل البقاء، وأن الثبات تعرض للفناء، وأن المنافع سوف تقبل عليهم لحكمة قرارهم.. صدق الله.. ولن ينفعهم جبنهم. بل سيكشف المستقبل زيف أوهامهم، كما كشف الحاضر ضعف قلوبهم.. وسيسقط معهم ميزانهم الباطل في المصالح والمفاسد الذي زعموه شرعيا، فظهر خذلانه للشرع، وانحيازه لأعدائه.. لأنه قام في الحقيقة عندهم على طلب الحياة الدنيا.. وصدق خالد: فلا نامت أعين الجبناء.
تاسعا: إنهم مثبطون في الشدة، مؤذون للمؤمنين في الفرج. [قَالَ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا} [الأحزاب: 18] قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَرْجِعُ مِنْ الْخَنْدَقِ فَيَدْخُلُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا جَاءَهُمْ أَحَدٌ قَالُوا لَهُ: وَيْحَك اجْلِسْ فَلَا تَخْرُجْ. وَيَكْتُبُونَ بِذَلِكَ إلَى إخْوَانِهِمْ الَّذِينَ بِالْعَسْكَرِ: أَنْ ائْتُونَا بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّا نَنْتَظِرُكُمْ. يُثَبِّطُونَهُمْ عَنْ الْقِتَالِ. وَكَانُوا لَا يَأْتُونَ الْعَسْكَرَ إلَّا أَلَّا يَجِدُوا بُدًّا. فَيَأْتُونَ الْعَسْكَرَ لِيَرَى النَّاسُ وُجُوهَهُمْ. فَإِذَا غفَلَ عَنْهُمْ عَادُوا إلَى الْمَدِينَةِ. فَانْصَرَفَ بَعْضُهُمْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَعِنْدَهُ شِوَاءٌ وَنَبِيذٌ. فَقَالَ: أَنْتَ هَهُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ؟ فَقَالَ: هَلُمَّ إلَيَّ فَقَدْ أُحِيطَ بِك وَبِصَاحِبِك...
كَمَا جَرَى فِي هَذِهِ الْغزَاةِ. فَإِنَّ أَقْوَامًا فِي الْعَسْكَرِ وَالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمَا صَارُوا يُعَوِّقُونَ مَنْ أَرَادَ الْغَزْوَ وَأَقْوَامًا بعِثُوا مِنْ الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ وَغَيْرِهَا إلَى إخْوَانِهِمْ: هَلُمَّ إلَيْنَا...
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19] مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ يُشْبِهُونَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَقْتَ النَّزْعِ. فَإِنَّهُ يَخَافُ وَيذْهِلُ عَقْلَهُ وَيَشْخَصُ بَصَرُهُ وَلَا يَطْرِفُ. فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ الْقَتْلَ. {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} وَهَذَا السَّلْقُ بِالْأَلْسِنَةِ الْحَادَّةِ يَكُونُ بِوُجُوهِ: تَارَةً يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَذَا الَّذِي جَرَى عَلَيْنَا بِشُؤْمِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ الَّذِينَ دَعَوْتُمْ النَّاسَ إلَى هَذَا الدِّينِ وَقَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفْتُمُوهُمْ؛ فَإِنَّ هَذِهِ مَقَالَةُ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ أَشَرْتُمْ عَلَيْنَا بِالْمُقَامِ هُنَا وَالثَّبَاتِ بِهَذَا الثَّغْرِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ وَإِلَّا فَلَوْ كُنَّا سَافَرْنَا قَبْلَ هَذَا لَمَا أَصَابَنَا هَذَا. وَتَارَةً يَقُولُونَ: أَنْتُمْ -مَعَ قِلَّتِكُمْ وَضَعْفِكُمْ- تُرِيدُونَ أَنْ تَكْسِرُوا الْعَدُوَّ وَقَدْ غَرَّكُمْ دِينُكُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49] وَتَارَةً يَقُولُونَ: أَنْتُمْ مَجَانِينُ لَا عقل لَكُمْ. تُرِيدُونَ أَنْ تُهْلِكُوا أَنْفُسَكُمْ وَالنَّاسُ مَعَكُمْ. وَتَارَةً يَقُولُونَ أَنْوَاعًا مِنْ الْكَلَامِ الْمُؤْذِي الشَّدِيدِ. وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَشِحَّةٌ عَلَى الْخَيْرِ. أَيْ: حُرَّاصٌ عَلَى الْغَنِيمَةِ وَالْمَالِ الَّذِي قَدْ حَصَلَ لَكُمْ. قَالَ قتادة: إنْ كَانَ وَقْتَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَسَطُوا أَلْسِنَتَهُمْ فِيكُمْ. يَقُولُونَ: أَعْطُونَا فَلَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا. فَأَمَّا عِنْدَ الْبَأْسِ فَأَجْبَنُ قَوْمٍ وَأَخْذَلُهُمْ لِلْحَقِّ. وَأَمَّا عِنْدَ الْغَنِيمَةِ فأشح قَوْم].
*وقد رأيناهم.. يدعون إلى التراجع في الشدة لأنها فتنة.. أو لأنها مهلكة.. فيحثون على القفز من مركب توهموا أنها ستغرق.. لا يكادون يصطفون وراء حق إلا اضطرارا.. ثم يكونون من أول من يبدي استعداده للتخلي عنه.. فلا ينصرون حقا حتى النهاية. أما عند المكاسب، فكانوا من أعلى الناس صوتا.. وأكثرهم تشغيبا وتفريقا للصف.. كأنهم صناع نصر، أو أصحاب حق.. إنه حقا (جبن وشح).
عاشرا: متلازمات الجبناء. [قَالَ تَعَالَى: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 20] فَوَصَفَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لِفَرْطِ خَوْفِهِمْ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَنْصَرِفُوا عَنْ الْبَلَدِ. وَهَذِهِ حَالُ الْجَبَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ. فَإِنَّ قَلْبَهُ يُبَادِرُ إلَى تَصْدِيقِ الْخَبَرِ الْمُخَوِّفِ وَتَكْذِيبِ خَبَرِ الْأَمْنِ.
الْوَصْفُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَحْزَابَ إذَا جَاءُوا تَمَنَّوْا أَنْ لَا يَكُونُوا بَيْنَكُمْ؛ بَلْ يَكُونُونَ فِي الْبَادِيَةِ بَيْنَ الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ: إيش خَبَرُ الْمَدِينَةِ؟ وإيش جَرَى لِلنَّاسِ؟
وَالْوَصْفُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَحْزَابَ إذَا أَتَوْا وَهُمْ فِيكُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا إلَّا قَلِيلًا.
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَيَعْرِفُهُ مِنْهُمْ مِنْ خَبَرِهِم].
*وهي منطبقة على كثير من الناس في ظل الانقلاب. يظنون جند الطاغوت لم يكسروا، وذلك لضخامة قوة الباطل في حسهم، مع شدة جبنهم وفزعهم مما قد يصيبهم. ويودون البعد عن مواطن المرابطة، بل يكتفون بالكلام عنها، لأن ذلك أقل كلفة وأقرب للسلامة -زعموا-. ولو حضروا أي موطن لكان منهم الخذلان وقلة الثبات، ومواطن الخطر الحقيقية شاهدة، تنبئ أنه لن ينتفع المؤمنون وقضيتهم منهم بأكثر من هذا.. مهما علا صوتهم.
أحد عشر: يقين أهل التأسي الواجب بالرسول صلى الله عليه وسلم. [قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِينَ يُبْتَلَوْنَ بِالْعَدُوِّ كَمَا اُبْتُلِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُمْ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ حَيْثُ أَصَابَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُ. فَلْيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ وَلَا يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ نِقَمٌ لِصَاحِبِهَا وَإِهَانَةٌ لَهُ. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا اُبْتُلِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْخَلَائِقِ؛ بَلْ بِهَا يُنَالُ الدَّرَجَاتُ الْعَالِيَةُ وَبِهَا يُكَفِّرُ اللَّهُ الْخَطَايَا لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا... ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَانَ اللَّهُ قَدْ أَنْزَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ -مُنْكِرًا عَلَى مَنْ حَسَبَ خِلَافَ ذَلِكَ- أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُبْتَلَوْا مِثْلُ هَذِهِ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ بـ(الْبَأْسَاءِ) وَهِيَ الْحَاجَةُ وَالْفَاقَةُ. وَ(الضَّرَّاءُ) وَهِيَ الْوَجَعُ وَالْمَرَضُ. وَ(الزِّلْزَالُ) وَهِيَ زَلْزَلَةُ الْعَدُوِّ. فَلَمَّا جَاءَ الْأَحْزَابُ عَامَ الْخَنْدَقِ فَرَأَوْهُمْ. قَالُوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ ابْتَلَاهُمْ بِالزِّلْزَالِ. وَأَتَاهُمْ مثْل الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا لِحُكْمِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ. وَهَذِهِ حَالُ أَقْوَامٍ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ: قَالُوا ذَلِك].
*وهذه حال أهل الإيمان اليوم.. أهل التأسي الصادق بالرسول صلى الله عليه وسلم.. أهل العلم بطريق الله طريق المرسلين.. كما قال الله عز وجل.. طريق آخره النصر.. لكن من خلال مركب الصبر.. صبر على الإصابة في الأموال، وعلى الإصابة في الأنفس، وعلى إحاطة المخاوف.. فمن مثلهم؟! أما أصحاب الأشكال الظاهرة والمكاسب الباردة.. فالطريق تلفظهم.. ليبقى فيها أصحابها.. أصحابها الحقيقيين فقط.
ثاني عشر: وهؤلاء هم أهل الصدق والثبات. [وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23] أَيْ: عَهْدَهُ الَّذِي عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، أَوْعَاشَ... ثُمَّ لَمَّا كَانَ عَهْدُهُمْ هُوَ نَذْرُهُمْ الصِّدْقُ فِي اللِّقَاءِ -وَمَنْ صَدَقَ فِي اللِّقَاءِ فَقَدْ يُقْتَلُ- صَارَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ {قَضَى نَحْبَهُ} أَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ. لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ النَّحْبُ: نَذْرُ الصِّدْقِ فِي جَمِيعِ الْمُوَاطِنِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِيهِ إلَّا بِالْمَوْتِ. وَقَضَاءُ النَّحْبِ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أَيْ: أَكْمَلَ الْوَفَاءَ. وَذَلِكَ لِمَنْ كَانَ عَهْدُهُ مُطْلَقًا: بِالْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} قَضَاءَهُ إذَا كَانَ قَدْ وَفَى الْبَعْضَ فَهُوَ يَنْتَظِرُ تَمَامَ الْعَهْدِ. وَأَصْلُ الْقَضَاءِ: الْإِتْمَامُ وَالْإِكْمَال].
*فهم اليوم بين شهيد قد كمل الوفاء بعهده مع ربه، وأثبت بالفعل بعد القول أن ربه أحب إليه من نفسه، وأنه سيظل ينصر الدين والأمة حتى يلقى الله على ذلك، فثبت حين حمي الوطيس.. وختم له بخاتمة الشهادة التي تلخص حياته.. وبها يفتتح آخرته ويلقى ربه. وبين من مد له في عمره وهوثابت ينتظر أن يكمل وفاءه بالموت على ذلك، فلا تفارق قضيته روحه، ولا تفارق مشاهد من سبقوه عينيه، فهو كما وصفه ربه (ينتظر).. وحالهم أنهم (ما بدلوا تبديلا).
ثالث عشر: مآل ثبات ومرابطة المؤمنين: [{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَتَى بِالْأَحْزَابِ لِيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ حَيْثُ صَدَقُوا فِي إيمَانِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فَحَصَرَ الْإِيمَانَ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ الصَّادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا. لَا مَنْ قَالَ كَمَا قَالَتْ الْأَعْرَابُ: "آمَنَّا" وَالْإِيمَانُ لَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ؛ بَلْ انْقَادُوا وَاسْتَسْلَمُوا... فَهَذَا حَالُ النَّاسِ فِي الْخَنْدَقِ وَفِي هَذِهِ الْغَزَاةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى النَّاسَ بِهَذِهِ الْفِتْنَةِ لِيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَهُمْ الثَّابِتُونَ الصَّابِرُونَ لِيَنْصُرُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ... وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي ومِنْهُمْ ابْنُ إسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْخَنْدَقِ: «الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا» فَمَا غَزَتْ قُرَيْشٌ وَلَا غطفان وَلَا الْيَهُودُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهَا؛ بَلْ غَزَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ، فَفَتَحُوا خَيْبَرَ ثُمَّ فَتَحُوا مَكَّةَ. كَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْأَحْزَابُ مَنَّ الْمَغُولِ وَأَصْنَافِ التُّرْكِ وَمِنْ الْفُرْسِ والمستعربة وَالنَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ: الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا].
*فهي شهادة لهم بالصدق في الإيمان.. أقامها الله في دار الامتحان.. وشرفهم بها حين تمايز الناس.. وجعلها بشرى لهم بخيري الدنيا والآخرة.. الدنيا التي ضحوا بها في سبيله تعالى فلتأتينهم وهي راغمة، وهم في عز وكرامة.. والآخرة التي عملوا لها، وقدموها على عاجل الفانية.
رابع عشر: مآل المنافقين ومرضى القلوب. [وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَإِمَّا أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. وَنَحْنُ نَرْجُو مِنْ اللَّهِ أَنْ يَتُوبَ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ نَدِمَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ. وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ لِلتَّوْبَةِ بَابًا مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ عَرْضُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً. لَا يُغْلِقُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا... وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَالَطَ قُلُوبَهُمْ مَرَضٌ أَوْ نِفَاقٌ بِأَنْ يُنِيبُوا إلَى رَبِّهِمْ وَيحْسنَ ظَنُّهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَتَقْوَى عَزِيمَتُهُمْ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ. فَقَدْ أَرَاهُمْ اللَّهُ مِنْ الْآيَاتِ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَبْصَار].
*فقد أتوا ذنبا عظيما.. وفشلوا في هذا الامتحان الكبير.. ولا نجاة لهم إلا بالتوبة.. فليعترفوا بجرمهم، وليندموا عليه، وليلحقوا بركب الإيمان، ولينتفعوا بالآيات.. وإلا فالعذاب هو مصيرهم.. بعد أن فروا مما توهموه عذاب المخلوق.. ليلاقوا عذاب الخالق، وهو أشد (ولا يعذب عذابه أحد).
خامس عشر: مآل أعداء الدين. [كَمَا قَالَ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] فَإِنَّ اللَّهَ صَرَفَ الْأَحْزَابَ عَامَ الْخَنْدَقِ بِمَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ رِيحِ الصبا: رِيحٌ شَدِيدَةٌ بَارِدَةٌ. وَبِمَا فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ حَتَّى شَتَّتَ شَمْلَهُمْ وَلَمْ يَنَالُوا خَيْرًا. إذْ كَانَ هَمُّهُمْ فَتْحُ الْمَدِينَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا وَعَلَى الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ.
كَمَا كَانَ هَم هَذَا الْعَدُوُّ فَتْحَ الشَّامِ وَالِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَنْ بِهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَرَدَّهُمْ اللَّهُ بِغَيْظِهِمْ حَيْثُ أَصَابَهُمْ مِنْ الثَّلْجِ الْعَظِيمِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالرِّيحِ الْعَاصِفِ وَالْجُوعِ الْمُزْعِجِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَكْرَهُ تِلْكَ الثُّلُوجَ وَالْأَمْطَارَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الْعَامِ حَتَّى طَلَبُوا الاستصحاء غَيْرَ مَرَّةٍ. وَكُنَّا نَقُولُ لَهُمْ: هَذَا فِيهِ خَيْرَةٌ عَظِيمَةٌ. وَفِيهِ لِلَّهِ حِكْمَةٌ وَسِرٌّ فَلَا تَكْرَهُوهُ. فَكَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ: أَنَّهُ فِيمَا قِيلَ: أَصَابَ قازان وَجُنُودَهُ حَتَّى أَهْلَكَهُمْ وَهُوَ كَانَ فِيمَا قِيلَ: سَبَبُ رَحِيلِهِمْ. وَابْتُلِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ مِمَّنْ يَفِرُّ عَنْ طَاعَتِهِ وَجِهَادِ عَدُوِّهِ... فَلَمَّا ثَبَّتَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ صَرَفَ الْعَدُوَّ جَزَاءً مِنْهُ وَبَيَانًا أَنَّ النِّيَّةَ الْخَالِصَةَ وَالْهِمَّةَ الصَّادِقَةَ يَنْصُرُ اللَّهُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ وَإِنْ تَبَاعَدَتْ الدِّيَارُ.
وَذكَرَ أَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمَغُولِ وَالْكَرَجِ وَأَلْقَى بَيْنَهُمْ تَبَاغُضًا وَتَعَادِيًا كَمَا أَلْقَى سُبْحَانَهُ عَامَ الْأَحْزَابِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وغطفان وَبَيْنَ الْيَهُودِ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَغَازِي... فَكَانَ مِنْ الْمُقَدَّرِ: أَنَّهُ إذَا عَزَمَ الْأَمْرُ وَصَدَقَ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ يُلْقِي فِي قُلُوبِ عَدُوِّهِمْ الرُّعْبَ فَيَهْرُبُونَ. لَكِنْ أَصَابُوا مِنْ البليدات بِالشَّمَالِ... مَا لَمْ يَكُونُوا وَطِئُوهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي. وَقِيلَ: إنَّ كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ كَانَ فِيهِمْ مَيْلٌ إلَيْهِمْ؛ بِسَبَبِ الرَّفْضِ وَأَنَّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَرَامِينَ مِنْهُمْ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ ظَلَمَةٌ وَمَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بُلِيَ بِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] وَقَدْ ظَاهَرُوهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ (سِيسَ) وَالْإِفْرِنْجِ. فَنَحْنُ نَرْجُو مِنْ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَهُمْ مِنْ صَيَاصِيِهِمْ وَهِيَ الْحُصُونُ... وَيَقْذِف فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ. وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ تِلْكَ الْبِلَادَ. وَنَغْزُوهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَنَفْتَحُ أَرْضَ الْعِرَاقِ وَغَيْرَهَا وَتَعْلُو كَلِمَةُ اللَّهِ وَيَظْهَرُ دِينُهُ].
*وهذا ما نراه من سوق هؤلاء المجرمين إلى مصارعهم.. فالقدر يحيط بهم.. والأهواء تفرقهم.. والأخطاء تلاحقهم.. والمصائب تنال أولياءهم، الذين ظنوا الفوز بالانحياز إليهم.. ومن حلفائهم من ترددوا عن كمال نصرتهم.. وقد رأوا من صدق المؤمنين ما لم يكن لهم في حسبان.. فنحن ننتظركمال ذلك بإسقاط انقلابهم.. وانفضاض جمعهم.. بل ننتظر ألا تقوم لهم بعد ذلك شوكة.. فنغزوهم بعدها ولا يغزوننا.
سادس عشر: سر الأمل المبثوث في الآيات والأحداث. [فَإِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ كَانَ فِيهَا أُمُورٌ عَظِيمَةٌ جَازَتْ حَدَّ الْقِيَاسِ. وَخَرَجَتْ عَنْ سُنَنِ الْعَادَةِ. وَظَهَرَ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ مِنْ تَأْيِيدِ اللَّهِ لِهَذَا الدِّينِ وَعِنَايَتِهِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَحِفْظِهِ لِلْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ، بَعْدَ أَنْ كَادَ الْإِسْلَامُ أَنْ يَنْثَلِمَ وَكَرَّ الْعَدُوُّ كَرَّةً... وَانْقَطَعَتْ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ، وَأَهْطَعَتْ الْأَحْزَابُ الْقَاهِرَةَ، وَانْصَرَفَتْ الْفِئَةُ النَّاصِرَةُ، وَتَخَاذَلَتْ الْقُلُوبُ الْمُتَنَاصِرَةُ، وَثَبَتَتْ الْفِئَةُ النَّاصِرَةُ، وَأَيْقَنَتْ بِالنَّصْرِ الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ، وَاسْتَنْجَزَتْ مِنْ اللَّهِ وَعْدَهُ الْعِصَابَةُ الْمَنْصُورَةُ الظَّاهِرَةُ، فَفَتَحَ اللَّهُ أَبْوَابَ سَمَوَاتِهِ لِجُنُودِهِ الْقَاهِرَةِ، وَأَظْهَرَ عَلَى الْحَقِّ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةَ، وَأَقَامَ عَمُودَ الْكِتَابِ بَعْدَ مَيْلِهِ، وَثَبَتَ لِوَاءُ الدِّينِ بِقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ، وَأَرْغَمَ مَعَاطِسَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إلَى يَوْمِ التلاق].
*فنحن نلمح قدرا ماضيا.. ونقرأ وحيا ناطقا.. فنجد السنن تمضي.. فنفهم ماضيا وحاضرا.. ونستشرف مستقبلا آتيا.. له أماراته رغم العقبات.. وتكاد تلمع أنواره رغم الظلمات.. يتمايز الناس في الطريق إليه.. لكن اليقين والبصيرة يذللان الصعاب.. وتبقى الآيات للمؤمنين.. إلى يوم التلاق.
أشرف عبد المنعم