الوصية المربحة للبقية المصلحة؟
إن معظم ما تعيشه أمة الإسلام من صراعات وخصومات ومنازعات سببها الحسد والبغضاء، وكل طرف في النزاع يبرر ما هو عليه وما يدعو إليه بما يجده يخدم مآربه ومصالحه حتى ولو كان على حساب هذه القواعد والثوابت والأصول عياذا بالله! لكن ما ينبغي الإيمان به أن هذه الأسس والقواعد هي ليست وقفاً على أحد أو حكراً على آخر، يسيرها على حسب هواه، وقد عمل بهذا الصنيع الشنيع أهل الكتاب فضلوا وأضلوا كثيراً من خلق الله عن سواء السبيل
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صل اللهم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]. ونزعنا ما في قلوبهم من حقد وعداوة، يعيشون في الجنة إخوانًا متحابين، يجلسون على أسرَّة عظيمة، تتقابل وجوههم تواصلا وتحاببًا. هكذا أرادها الله لهم في الآخرة بجواره في جنة الخلد. وهكذا أرادها للخيرة من خلقه محمد رسول الله والذين معه (رحماء بينهم). وهكذا أرادها لنا نحن من بعدهم: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رءوف رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
لكن خلف من بعدهم خلف أرادوها غير ذلك. شددوا على أنفسهم وشرعوا للناس من الدين ما لم يأذن به الله، والنهاية حتمية كحتمية القضاء، أليمة شديدة وهي دليل الصد عن نهج الله ومنهج رسول الله عليه الصلاة والسلام ومنهاج السلف الصالح عليهم رضوان الله. والعجب أن كثيراً من الناس في حيرة من هذه النهاية التي خربت الأركان ومزقت الأوطان وشردت بني الإنسان وأصبح الهرج فيها ظاهر للعيان.
أيها الإخوة الكرام:
إن الله تعالى نظر في العرب نظرة السمح الكريم فوجد أن لا صلاح لهم سوى هذه الشريعة السمحة السهلة وخص لها نبياً عزيز عليه عنتهم حريص عليهم، رؤوف رحيم بهم. فعاش تحت ظل هذه الشريعة الوارفة الظلال الصحابة ومن تبعهم من بعدهم رحماء بينهم تكافأت أعراضهم وأموالهم ودماؤهم فلا فرق بين أبيض وأسود ولا أعجمي ولا عربي ولا شرقي ولا غربي. وحث نبينا صلى الله عليه وسلم على ضرورة التمسك بهذا الأصل والقاعدة التي بنيت عليها أركان الإسلام وقواعد الإيمان؛ جاء في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى».
الجسد الواحد:
الرئيس والمرؤوس، العالم والجاهل، القوي والضعيف، السليم والضرير، والغني والفقير، فالكل سواسية كأسنان المشط، تجمعهم لحمة الأخوة شعارهم: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]. وعن عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِه» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُود وَالنَّسَائِيّ). فمن سعى في زعزعة وهدم هذه القواعد إنما سعيه في تهديم الدين بكامله. وفي الحديث الشريف عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْبَغْضَاءُ وَالْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ وَهِيَ الْحَالِقَةُ، لَيْسَ حَالِقَةَ الشَّعْرِ لَكِنْ حَالِقَةَ الدِّينِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ أَظُنُّهُ بِمَا يَثْبُتُ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ» (رواه البزار).
إن معظم ما تعيشه أمة الإسلام من صراعات وخصومات ومنازعات سببها الحسد والبغضاء، وكل طرف في النزاع يبرر ما هو عليه وما يدعو إليه بما يجده يخدم مآربه ومصالحه حتى ولو كان على حساب هذه القواعد والثوابت والأصول عياذا بالله! لكن ما ينبغي الإيمان به أن هذه الأسس والقواعد هي ليست وقفاً على أحد أو حكراً على آخر، يسيرها على حسب هواه، وقد عمل بهذا الصنيع الشنيع أهل الكتاب فضلوا وأضلوا كثيراً من خلق الله عن سواء السبيل قال جل وعلا: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37] فهم يكيفون تعاليم الرب تقدس وعلا على ما يخدم مصالحهم ومآربهم فيحلوا ما حرم الله عليهم، وهذا الذي أحلوه في زمن يحرمونه في آخر، كما هو الأمر اليوم فالدم في بلاد (كريم ثمين) وفي بلاد أخرى (ماء مهين) وهل هناك أعظم وأشد حرمة في ديننا من دم مسلم يؤمن بالله ورسوله؟! دم مسلم وكفى! عجبا في قوم ظنوا أن الله لم يهد سواهم، أفيقوا مع أنفسكم قبل فوات الأوان!
وبهذا المعتقد الخطير قد استبيحت دماؤنا اليوم بشكل افتتن به كثير من خلق الله حتى وصل الحال بفئة من الناس أن يدخل معترك الفتن ليُكتب في سجل الشهداء، وينصب كمينا لإخوانه لينال جنة الفردوس الأعلى ويجاور الحبيب المصطفى ويده مدرجة بدم مسلم موحد لله تعالى، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
الكرب عظيم:
ما أعظم وما أشد ما نحن عليه من فتنة حذرنا منها نبي الله صلى الله عليه وسلم يشيب لهولها الولدان ويبقى لها الحليم حيران، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً.
وقفة فاعتبر:
يصبح الرجل: وهي من الرجولة (كمال الصفات في القوة والشجاعة والحنكة) مؤمناً: موقناً بالله وبالآخرة، فهو كامل القلب والقالب. ثم في زمن قصير بين الغدوة والروحة ينتكس انتكاسة زاوية ميلها عظيماً فينقلب رأساً عن عقب، فيمسي كافراً مستبيحاً لدماء المسلمين ملطخ يده بها، ومن أغرب الغرائب وأعجب العجائب يظن أنه يحسن صنعاً؟! فمن أجل ماذا تسفك هذه الدماء هدرا، إنها الشحناء والبغضاء التي بدأت بها الحياة بين الأخوين على أتفه أسباب الدنيا الفانية البالية، وبها تكون النهاية، وكما بدأكم تعودون؟
دعاة الحطمة:
(حطموا قواعد الدين وخربوا أسسه باسم الدين).
قد ظهر في زماننا دعاة ألسنتهم أحلى من العسل وصورهم أبهى من ضوء القمر اغتر بهم كثير من الناس فأحدثوا لهم غسيلا في عقولهم بأفكار تتنافى مع سماحة ديننا ورحمة ورأفة نبينا ونهج سلفنا وحتى عاداتنا وتقاليدنا التي لا تقبل ولا تسمح بالتنافر والتناحر. جاء في صحيح البخاري رحمه الله عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الفتن: «قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».
فنحن نهيب بالبقية التي لا تزال مستمسكة بهذه المبادئ أن يعضوا عليها بالنواجذ ولا يغرنهم في دينهم الغرور، ولنعلم أن الثبات عليها ليس بالأمر الهين في هول ما نحن عليه من فتن ومحن. ولا يكون ذلك إلا بتوفيق من الله؛ {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116]. والشاهد في هذه الآية: أنجينا، أي الهداية من الله.وهذا ليس معناه أن هذه البقية هي الناجية والمفضلة عن بقية الأمة (فربما تاهت في وحل الغرور وهو من أعظم الشرور)، بل هي جزء لا يتجزأ عن هذه الأمة المفضلة تحس بآلام أبنائها، يعز عليها ما انتابهم من عنت، حريصة على ما ينفع أمتها فتدعو لها وعلى ما يضرها فتحذر منه، بقلب أرأف من رأفة الأم برضيعها وأرحم من رحمة الوالدة بمولودها.
قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. ولتكن منكم أيها المؤمنون جماعة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف، وهو ما عُرف حسنه شرعًا وعقلا وتنهى عن المنكر، وهو ما عُرف قبحه شرعًا وعقلا وأولئك هم الفائزون بثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
للعلم:
قد تكون هذه الفئة قليلة العلم قليلة الفقه، قليلة المؤيدين كثيرة المعاندين والمعارضين، وهذه سنة الأنبياء والمرسلين. لكن عليها بالحكمة والموعظة الحسنة والبصيرة بعواقب الأمور، وكذلك أن تكون على قلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من الرحمة والرأفة، والنجاة عند الله موصوف ونعم الوصف: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]. فاثبتوا على ما أنتم عليه عسى الأمة أن لا تفقد أملها في ما تبقى من بقية، فلا ينتاب أبناءها اليأس والقنوط فتأتي بعدها الطامة الكبرى عياذاً بالله.
وصية الله لكم:
{وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170]. والله نسأل أن يلهمنا جميعا السداد والرشاد والنجاة يوم المعاد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد الله لرعيط