الإسلام والدولة
لا تنتظم حياة الناس، ولا تكون السعادة إلا بالعودة إلى الوحي، وتربية الناس عليه شيئًا فشيئًا، وبيان أنه ما فرط في شيء مما يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم، وقد كانت له جولة ودولة أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأقاموا فيها العدل وغيره من القيم حين كان الغرب يتخبط في ظلمات الجهل.. ولن تقوم للمسلمين قائمة إلا بسلوك نفس طريقهم، والسير على منهجهم.
- التصنيفات: السياسة الشرعية -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فـ"ليس لي في السياسة" جملة يرددها الكثيرون.. قد تكون مقبولة قبل "ثورة 25 يناير"؛ لتفشي الظلم، وضعف أو انعدام الأثر المرجو مِن المشاركة في العملية السياسية، وهذا واضح لا يحتاج لتدليل، أما هذه الأيام فالوضع قد اختلف، وصار من الأكيد المحتَّم ضرورة الإلمام بما يدور في الكواليس السياسية؛ لنكون على بينة من أمرنا؛ إذ هذه الأيام يُسطر "تاريخ مصر" أو قل: "يعاد تسطيره"! وسيظل أثر ذلك ممتدًا سنين وسنين.. وسيؤثر أعظم الأثر على صورة "مصر" في المستقبل.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه أحمد، وصححه الألباني).
فهذا الحديث الشريف فيه إشارة إلى الربط بين عبودية الفرد وعبودية الأمة، فالغاية التي بعث بها الأنبياء جميعًا هي: "تحقيق التوحيد وإقامته في الناس": {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وليس فقط أن يعبدوا الله في ذوات أنفسهم.
هذه العبودية تشمل التزام الشرع في كل النواحي، فيما يختص بالفرد والجماعة، بالأمة والدولة، وهذا أمر عظيم في حس كل مسلم، فلا يمكن أن يحدث الانفصال بين العبودية الشخصية وعبودية الأمة، بل (حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ) يقيم الإنسان الدين في نفسه بتحقيق الإيمان والإحسان، ويسعى مع ذلك إلى إقامته فيمن حوله، بل في العالم كله حتى تكون أنظمة الحياة كلها منصبغة بصبغة الإسلام.
أما "الفصل المريب" الذي نراه هذه الأيام فإنما هو ثمرة مِن الثمار المرة للاحتلال الغربي لبلاد الإسلام؛ إذ لما يئس الكفار من المسلمين أن يتركوا دينهم؛ أخذوا يزرعون بينهم هذا المذهب الخبيث، وهو: "فصل الدين عن الدولة"، وأن يصبح الدين علاقة خاصة بين الإنسان ومعبوده.. أيًّا كان ذلك المعبود، وألا يتبنى المجتمع نشر دين معين، فتكون بذلك الدولة المدنية -ليست المقابلة للعسكرية- تأخذ تصوراتها مما تراه الأغلبية، وإن كان ذلك مخالفًا للإسلام! ومعلوم كيف توجد هذه الأغلبية وتقاد إلى ما يشاءون!
هذا الفصل هو "سمة الحياة الغربية" المبنية على الإلحاد، وإنكار وجود الله، وأقصى ما يمكن أن يقروا به إثبات الوجود المجرد بغير أمر ولا نهي، ولا دخل له بالحياة مطلقًا، والإنسان عندهم حر يقرر ما يريد، ويضع ما يشاء من نظم الحياة، وقد تسرب ذلك بالفعل إلى بلاد المسلمين خاصة على أيدي "أبناء أعدائنا منا" -كما يصفهم الشيخ "أحمد شاكر"-، فهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، لكن القلوب قلوب شياطين، تشربت بما يقوله أعداء الإسلام، أما في التصور الإسلامي فيستحيل الفصل بين الدين والحياة على مستوى الفرد والجماعة، بل هو مناقض لعقيدة المسلمين في الربوبية والألوهية، فالرب هو الآمر الناهي السيد المطاع، هو المشرع للعباد -كما هو من معاني الربوبية-، ويجب أن يعتقدوا ذلك فيه كما يجب أن يتحاكموا إليه في سائر شئونهم ونظمهم، كما أن من أسماء الله: "الحكم".
هذا وإن الخلل الحادث في الأمة، والفساد العريض ما هو إلا ثمرة لذلك الفصل المريب؛ إذ أصبحت نظم الدولة في وادٍ والإسلام في آخر في كثير من الأحيان، فأثر ذلك في الشعوب على مدار السنين والأعوام.. حتى ظهرت أجيال منبتة الصلة بدينها، لا تراه إلا علاقة بين العبد وربه؛ وفي المسجد فقط! ولا دخل له بالحياة مِن: اقتصاد، واجتماع، وتعليم، وسياسة، وغير ذلك.. !
بل صار البعض يناقش ويجادل في هذه القضية وغيرها من المُسَلَّمات التي لم يكن يُتصور أن تطرح للمناقشة، مثل ما يثيرونه هذه الأيام: "هل الإسلام هو الحق، ومَن لم يكن مسلمًا يكون كافرًا؟!"
هل النصارى واليهود يدخلون الجنة أم النار؟!
هل مَن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم يكون كافرًا؟!
وأنه لا فرق بين الملل، ولكل إنسان الحرية في الاعتقاد! إلى غير ذلك من القضايا البديهية التي لم يكن يُتصور أن تُجهل!
كيف وقد عدَّ "زيد بن صوحان" الجهل بأي اليدين تقطع في "حد السرقة" علامة على نفاق صاحبه، والأثر كما أورده ابن كثير رحمه الله أن أعرابيًّا جلس إلى "زيد بن صوحان" وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم "نهاوند"، فقال الأعرابي: "والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني". فقال زيد: ما يريبك من يدي؟ إنها الشمال! فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين تقطعون أو الشمال؟ فقال زيد بن صوحان: صدق الله: {الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97].
فماذا يُقال عمن يقول: "ليس للدين صلة بالسياسة"؟!
أو أن "الحكم ليس من الشرع"؟!
أو "ليس للشرع أن يحكم حياة الناس"؟! إلى غير ذلك.. مما يقال ويثار هذه الأيام.
لئن كان الجهل بفرض الكفاية جعل زيدًا يقول ويقرأ: {الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ.. }؛ فكيف بفروض الأعيان، بل والمعلوم من الدين بالضرورة؟!
إذن فديننا -دين الإسلام- الارتباط فيه وثيق بين عبودية الفرد في اعتقاده وتصوره، في عبادته ومعاملته، في أخلاقه وسلوكه، وكذا أحواله الباطنة، وبين أنظمة الحياة التي يعيشها، بل لا يمكن أن يحصل فصل -في الحقيقة-، وما هذه النماذج المشوهة إلا نتاج الفصل الذي يُراد للدول الإسلامية أن تتبناه وتستمر عليه.
هذا.. وإن الضغوط الغربية مستمرة، بل وتزداد؛ لتغيير الأنظمة الإسلامية -المتبقي منها كنظام الأسرة ونحوه-، وفرض الأنظمة الأوروبية بدلاً منها، كما هو الحال في النظام الاجتماعي خاصة فيما يتعلق بوضع المرأة، ونظام الزواج والطلاق في الإسلام، وهذا بدوره يؤثر -بلا شك- على حياة الأفراد، إذ في ظل الدعوة للاختلاط في المدارس كيف يجد المسلم الملتزم المدارس المناسبة لأولاده بعيدًا عن هذا الاختلاط؟! والذي كأنه يفرض فرضًا في كل مناحي الحياة!
وفي ظل النظام الاقتصادي القائم على الربا وغيره من المخالفات الشرعية، كيف يأكل المسلم الحلال ويتحراه؟! نعم يمكن ذلك، ولكن يكون عسيرًا في كثير من الأحوال، بل البعض يسقط بالفعل ولا يحتمل!
كم من الشباب يسقطون في ظل نظام يتيح للشباب فعل ما يشاءون؟!
وكيف تؤسس وتنشأ الفتاة على الحجاب وهي ترى غيرها متبرجة متزينة، فتتمنى -في كثير من الأحيان- تقليدها، وترى في سلوكيات المنزل الملتزم تقييدًا لحريتها، بل تشديدًا؟!
هذا وأوضح الأمثلة على الارتباط بين أنظمة الدولة وحياة الأفراد "النظام السياسي"؛ إذ يؤثر نظام الدولة على معطيات الأفراد سواء نظام القضاء، أو العلاقات الخارجية، والسلم والحرب، كم يكون أثره على الناس، بل على أجيال وأجيال؟!
كم مِن المعاهدات الجائرة الباطلة تؤثر على عقيدة الأفراد ولاء وبراء؟ هذه دماء تسفك بغير حق.. وهذه نصرة واجبة تترك.. وهذه مساعدات تقدَّم لأعداء الله عز وجل ضد إخوان لنا في العقيدة، بل ويقتل المسلم بسلاح أخيه، وكل هذا بناءً على سياسات الدولة البعيدة عن أنظمة الإسلام، والمفروضة على الناس.
إنها الصلة الوثيقة والتلازم الواضح بين سلوك الفرد وعمله في خاصة نفسه وأنظمة المجتمع، وإذا حاول المسلم وجاهد؛ ليعيش الإسلام في ظل هذه الأنظمة المخالفة للإسلام في كثير من نواحيها ومناهجها؛ فإنه يعيش قابضًا على الجمر؛ ولذا نجد الكثيرين قد اختاروا التحلل، ولم يستطيعوا الصبر، وانجرفوا مع التيار، وقال بعضهم بقول الطائفة العلمانية بالفصل بين الدين والدولة.
ولا تنتظم حياة الناس، ولا تكون السعادة إلا بالعودة إلى الوحي، وتربية الناس عليه شيئًا فشيئًا، وبيان أنه ما فرط في شيء مما يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم، وقد كانت له جولة ودولة أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأقاموا فيها العدل وغيره من القيم حين كان الغرب يتخبط في ظلمات الجهل.. ولن تقوم للمسلمين قائمة إلا بسلوك نفس طريقهم، والسير على منهجهم.
نسأل الله أن يردنا والمسلمين إلى دينه.
إيهاب الشريف