رمضان شهر الدعاء

منذ 2006-08-06

الحمد لله مجيب الدعوات وكاشف الكربات، والصلاة والسلام على أزكى البريات، أما بعد:

 

الدعاء هو أن يطلبَ الداعي ما ينفعُه وما يكشف ضُرَّه؛ وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمةُ العبوديةِ، واستشعارُ الذلةِ البشرية، وفيه معنى الثناءِ على الله عز وجل، وإضافةِ الجود والكرم إليه.

 

فإن شأنَ الدعاءِ عظيم، ونفْعَهُ عميم، ومكانتَه عاليةٌ في الدين، فما استُجْلِبت النعمُ بمثله ولا استُدْفِعت النِّقَمُ بمثله، ذلك أنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون من سواه، وهذا رأس الأمر، وأصل الدين. وإن شهرَ رمضانَ لفرصةٌ سانحة، ومناسبة كريمة مباركة يتقرب فيها العبد إلى ربه بسائر القربات، وعلى رأسها الدعاء؛ ذلكم أن مواطن الدعاء، ومظانَّ الإجابة تكثر في هذا الشهر؛ فلا غَرْوَ أن يُكْثِر المسلمون فيه من الدعاء.

 

ولعل هذا هو السر في ختم آيات الصيام بالحثّ على الدعاء، حيث يقول ربنا عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.

 

وإليكم معاشر الصائمين هذه الوقفات اليسيرة مع مفهوم الدعاء، وفضله.

 

 

أيها الصائمون: الدعاء هو أن يطلبَ الداعي ما ينفعُه وما يكشف ضُرَّه؛ وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمةُ العبوديةِ، واستشعارُ الذلةِ البشرية، وفيه معنى الثناءِ على الله عز وجل، وإضافةِ الجود والكرم إليه.

 

أما فضائلُ الدعاءِ، وثمراتُه، وأسرارُه فلا تكاد تحصر، فالدعاءُ طاعةٌ لله، وامتثال لأمره، قال الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُـمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.

 

والدعاء عبادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة». رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه ابن ماجه، وصححه الألباني.

 

والدعاء سلامة من الكبر: {وَقَالَ رَبُّكُـمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.

 

والدعاءُ أكرمُ شيءٍ على الله، «قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)». رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وابن ماجة، والترمذي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.

 

والدعاء سبب لدفع غضب الله، «قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَسْألِ الله يَغْضَبْ عَلَيْهِ)». أخرجه أحمدُ، والترمذيُّ، وابن ماجةَ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني.

 

والدعاء سبب لانشراح الصدر، وتفريج الهم، وزوال الغم، وتيسير الأمور، ولقد أحسن من قال:

 

وإنـي لأدعـو اللهَ والأمـرُ ضـيّـقٌ            علــيَّ فمـا ينفـك أن يـتفــرّجــا

وربَّ فتىً ضاقتْ عليه وجوهُـهُ             أصاب له في دعوة الله مَخْرَجا

 

والدعاء دليل على التوكل على الله، فسرُّ التوكلِ وحقيقتُه هو اعتمادُ القلبِ على الله، وفعلُ الأسباب المأذون بها، وأعظمُ ما يتجلى هذا المعنى حالَ الدعاء؛ ذلك أن الداعيَ مستعينٌ بالله، مفوضٌ أمرَهُ إليه وحده.

 

والدعاء وسيلة لكِبَرِ النفس، وعلو الهمة؛ ذلك أن الداعيَ يأوي إلى ركن شديدٍ ينزل به حاجاتِه، ويستعين به في كافّة أموره؛ وبهذا يتخلص من أَسْر الخلق، ورقِّهم، ومنَّتِهِم، ويقطعُ الطمعَ عما في أيديهم، وهذا هو عين عِزِّهِ، وفلاحِه.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكلّما قوي طمع العبد في فضل الله، ورحمته، لقضاء حاجته ودفع ضرورته؛ قويت عبوديتُه له، وحريته مما سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديتَه له فَيأْسُهُ منه يوجب غنى قلبه" ا.هـ.

 

والدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكَياسة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ أَبْخَلَ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بالسَّلَامِ، وَأَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عنِ الدُّعَاءِ)). رواه ابن حبان، وصححه الألباني.

 

ومن فضائل الدعاء: أن ثمرته مضمونة بإذن الله. «قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلاّ آتَاهُ الله مَا سَألَ أَوْ كفَّ عَنْهُ مِنْ السُوءِ مِثْلَهُ مَا لَمْ يَدْعُ بإِثْمٍ أوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ)». رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني. و«قال صلى الله عليه وسلم: (يُسْتَجَابُ لأحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ)، قِيلَ: وَكَيْفَ يَعْجَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ اللَّهَ، فَلَمْ يَسْتَجِبِ اللَّهُ لِي)». أخرجه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.

ففي الحديثين السابقين وما في معناهما؛ دليل على أن دعاء المسلم لا يُهمل، بل يُعطى ما سأله إما مُعجلاً، وإما مُؤجلاً.

 

قال ابن حجر رحمه الله: "كلُّ داعٍ يُستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارةً تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعِوَضِه". ا.هـ.

 

قال بعضهم في وصف دعوة:

 

وساريةٍ لـم تَسْرِ فـي الأرض تبتغي         مَحَلاً ولـم يـقـطـعْ بـهـا   الـبِـيْدَ قاطعُ

سَرَتْ حيث لم تَسْرِ الركابُ ولم تُنِخْ         لِـورْدٍ ولـم يَـقْـصُـرْ لهـا القـيـدَ مانـعُ

تحـلُّ وراءَ الـلـيــلِ والـلـيـلُ ساقـطٌ          بـأرواقــه فـيـه سـمـيـــرٌ وهــاجـــعُ

تُــفــتِّــحُ أبــوابَ الســماء ودونـها          إذا قــرعَ الأبــوابَ مــنــهــن قــارعُ

إذا أَوْفَـــدَتْ لــم يَـــرْدُدِ اللهُ وفدَها          عـلــى أهــلــهــــا والله راءٍ وسـامعُ

وإنــي لأرجــو اللهَ حــتــى كأننـي           أرى بجـمـيـل الظنِّ مــا اللهُ صــانعُ

 

ومن فضائل الدعاء: أنه سبب لدفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يغني حذر من قدر والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء ينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة). أخرجه الطبراني وقال الحاكم: صحيح الإسناد.

ومعنى يعتلجان أي: يتصارعان، ويتدافعان.

 

والدعاء يفتح للعبد بابَ المناجاةِ ولذائذَها، قال بعضُ العُبَّادِ: "إنه ليكون لي حاجةٌ إلى الله، فأسأله إياها، فَيَفْتَحُ عَلَيَّ من مناجاتهِ، ومعرفتهِ، والتذللِ لَهُ، والتملقِ بين يديه ما أحب معه أن يؤخَّر عني قضاؤها، وتدومَ لي تلك الحال".

 

أيها الصائمون الكرام.. والدعاء من أعظم أسباب الثبات والنصر على الأعداء، قال تعالى عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. فماذا كانت النتيجة؟ {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ}.

 

ومن فضائل الدعاء: أنه مَفْزَعُ المظلومين، ومَلْجَأُ المستضعفين؛ فالمظلوم أو المستضعف إذا انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، ولم يجد من يرفع عنه مظلمته، ويعينه على دفع ضرورته، ثم رفع يديه إلى السماء، وبث إلى الجبار العظيم شكواه نصره الله، وأعزه، وانتقم له ولو بعد حين.

 

قال الإمام الشافعي رحمه الله:

 

وربَّ ظــلـــومٍ قــد كُـفِـيـتُ بحربهِ            فَــأَوقـعَــه الـمــقـــدورُ أيَّ وقـوعِ

فَـمــا كــان لــيْ الإسلامُ إلا تَعَبـــُّداً           وأدعـــيـــــةً لا تُـتَّـقــــى بـــدروعِ

وحسبك أن ينجو الظـلــومُ وَخَلْفَهُ            سهــامُ دعـاءٍ مــن قِسِـيِّ ركـــوعِ

مُـرَيَّشةً بالهـدب من كـــل ساهــرٍ            ومـنـهـلــةً أطـرافـهـــا بـدمـــــوع

 

 

ويقول:

 

أتـهـــزأُ بـالـدعـــاء وتـزدريـــه            ومــا تـدري بمـا صنع الدعاءُ

سهامُ الليلِ لا تخطـــي ولكــــن            لـهــا أَمَــدٌ وللأمـــدِ انـقـضــاءُ

 

وأخيراً: فإن الدعاءَ دليلٌ على الإيمان بالله، والإقرار له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات؛ فدعاءُ الإنسان لربه متضمنٌ إيمانهَ بوجوده، وأنه غنيٌّ، سميعٌ بصيرٌ، رحيمٌ، قادرٌ، جوادٌ، مستحقٌ للعبادة دون من سواه.

 

اللهم يسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واقرن بالعافية غدوَّنا وآصالنا، اللهم انصر المجاهدين، وفرج هم المهمومين، ونِّفسْ كربَ المكروبين من المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

محمد بن إبراهيم الحمد

دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم

  • 2
  • 0
  • 18,536

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً