آداب أهل الإنصاف

منذ 2013-11-01

التّحلّي بصفة الإنصاف، وسلوك درب المنصفين يلزم معه التّأدّب بآداب خاصّة، وقد التزم بها أهل السّنّة والجماعة، وعلى من يسير على منهجهم أن يتأدّب بتلك الآداب...


التّحلّي بصفة الإنصاف، وسلوك درب المنصفين يلزم معه التّأدّب بآداب خاصّة، وقد التزم بها أهل السّنّة والجماعة، وعلى من يسير على منهجهم أن يتأدّب بتلك الآداب، وأهمّها:

1- التّجرّد وتحرّي القصد عند الكلام على المخالفين: وذلك أنّه قد تلتبس المقاصد عند الكلام عن المخالفين، فهناك قصد حبّ الظّهور، وقصد التّشفّي والانتقام، وقصد الانتصار للنّفس أو للطّائفة الّتي ينتمي إليها النّاقد.

وقد حذّر ابن تيمية من يردّ على أهل البدع من التباس المقاصد فقال: "...وهكذا الرّدّ على أهل البدع من الرّافضة وغيرهم، وإذا غلّظ في ذمّ بدعة أو معصية كان قصده بيان ما فيها من إفساد ليحذر العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها. وقد يهجر الرّجل عقوبة وتعزيراً والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرّحمة والإحسان، لا للتّشفّي والانتقام" وقد انتبه ابن القيّم رحمه الله إلى هذا الأمر فوضع قاعدة لمن يريد أن يتجرّد من الهوى فقال: "وكلّ أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومن رزقه اللّه بصيرة فهو يكشف بها حقيقة ما تحت الألفاظ من الحقّ والباطل، ولا تغترّ باللّفظ كما قيل في هذا المعنى:


تقول هذا جنى النّحل تمدحه *** وإن تشأ قلت: ذا قيء الزّنابير
مدحا وذمّا وما جاوزت وصفهما *** والحقّ قد يعتريه سوء تعبير


2- أهمية التبين والتثبت قبل إصدار الأحكام: وذلك امتثالاً لقول اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ} [الحجرات:6].

وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94].

والتّبيّن والتّثبّت من خصائص أهل الإيمان، قال الحسن البصر يرحمه الله: "المؤمن وقّاف حتّى يتبيّن".

وقال الإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله: "ومتى لم يتبيّن لكم المسألة لم يحلّ لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتّى يتبيّن لكم خطؤه، بل الواجب السّكوت والتّوقّف".

3- حمل الكلام على أحسن الوجوه، وإحسان الظن بالمسلمين: فالواجب على المسلم أن يحسن الظّنّ بكلام أخيه المسلم، وأن يحمل العبارة المحتملة محملاً حسناً.

فقد حثّ الرّسول صلى الله عليه وسلم على إحسان الظّنّ بالمسلم حين قال وهو يطوف بالكعبة: «ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والّذي نفس محمّد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند اللّه حرمة منك، ماله ودمه، وأن لا يظنّ به إلّا خيرا».

وقال سعيد بن المسيّب: "كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرّا وأنت تجد لها في الخير محملاً".


4- ألّا ينشر سيّئات المخالف ويدفن حسناته؛ فقد ذكّر الرّسول صلى الله عليه وسلم عمر بحسنات حاطب فقال: «وما يدريك يا عمر لعلّ اللّه قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

فكون حاطب من أهل بدر ترفعه ويذكر له في مقابل خطئه الفاحش، ولذا غفر له خطؤه.

5- النقد يكون للرأي وليس لصاحب الرأي: فالنّقد الموضوعيّ هو الّذي يتّجه إلى الموضوع ذاته وليس إلى صاحبه. وكان الرّسول صلى الله عليه وسلم إذا حدَث خطأ من أحد أصحابه أو بعضهم. لا يسمّيهم غالباً وإنّما يقول: «ما بال أقوام»، «ما بال رجال».

6- الامتناع عن المجادلة المفضية إلى النزاع: وقد حذّر الرّسول صلى الله عليه وسلم من الجدل المفضي إلى الخصومة فقال: «إنّ أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم».

وقال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما: "لا تمار أخاك فإنّ المِراء لا تفهم حكمته، ولا تؤمن غائلته..".

وقال مالك بن أنس: "المِراء يقسّي القلوب، ويورث الضّغائن".

7- حمل كلام المخالف على ظاهره وعدم التعرض للنوايا والبواطن: وقد علّمنا ذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حينما قتل أسامة بن زيد المشرك بعد أن قال: لا إله إلّا اللّه، فلمّا عل صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك عليه، فقال أسامة: إنّما قالها متعوّذا. فقال صلى الله عليه وسلم: «هلّا شققت عن قلبه» (نضرة النعيم: [3/583]، بتصرّف وإيجاز عن: إنصاف أهل السنة والجماعة ومعاملتهم لمخالفيهم محمد بن صالح بن يوسف العلي (69- 101)، ط: دار الأندلس الخضراء).

2- سَأل الإمام أحمد رحمه الله بعض تلاميذه: "من أين أقبلتم؟ قالوا: من مجلس أبي كريب، فقال: اكتبوا عنه؛ فإنه شيخ صالح، فقالوا: إنه يطعن عليك! قال: فأي شيء حيلتي؟! شيخ صالح قد بُلي بي!" (السِّيَر: [11/317]).

3- قال الإمام الذهبي رحمه الله: "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له، قمنا عليه وبدعناه، وهجرناه، لما تسلّم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة" (سير أعلام النبلاء: [14/40]).

4- قال ابن عبد البر رحمه الله: "من بركة العلم وآدابه الإنصاف فيه، ومن لم ينصف لم يفهم، ولم يتفهم!" (تفسير القرطبي: [1/286]).


5- قال أحمد بن حنبل في إسحاق بن راهويه: "لم يَعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً" (السير: [11/371]).

6- إن أبا نعيم الحافظ ذكر له ابن مندة، فقال: "كان جبلاً من الجبال! قال الذهبي رحمه الله معلقاً: فهذا يقوله أبو نعيم مع الوحشة الشديدة التي بينه وبينه" (السير: [17/32]).

7- عن طاوس بن كيسان: "أن زيد بن ثابت وابن عباس تماريا في صدر الحائض (قبل أن يكون آخر عهدها الطواف بالبيت)؛ فقال ابن عباس: تنفر، وقال زيد: لا تنفر. فدخل زيد على عائشة رضي الله عنهم فسألها فقالت: "تنفر"، فخرج زيد وهو يتبسم ويقول ما الكلام إلا ما قلت".

قال أبو عمر (ابن عبد البر) - توفي سنة (463 هـ) رحمه الله: "هكذا يكون الإنصاف وزيد معلم ابن عباس فما لنا لا نقتدي بهم والله المستعان" (التمهيد: [17/270]).

قلت: كان هذا في زمانه! رحمه الله... فكيف به لو أدرك زماننا؟!

8- قال الشافعي: "قال لي محمد: أيهما أعلم، صاحبنا أم صاحبكم؟ -يعني: أبا حنيفة ومالكاً-. قلت: على الإنصاف؟ قال: نعم. قلت: أنشدك بالله، من أعلم بالقرآن؟ قال: صاحبكم. قلت: من أعلم بالسنة؟ قال: صاحبكم. قلت: فمن أعلم بأقاويل الصحابة والمتقدمين؟ قال: صاحبكم.

قلت (الذهبي): فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فمن لم يعرف الأصول، على أي شيء يقيس؟ قلت: وعلى الإنصاف؟ لو قال قائل: بل هما سواء في علم الكتاب، والأول أعلم بالقياس، والثاني أعلم بالسنة، وعنده علم جم من أقوال كثير من الصحابة، كما أن الأول أعلم بأقاويل علي، وابن مسعود، وطائفة ممن كان بالكوفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضي الله عن الإمامين، فقد صرنا في وقتٍ لا يقدر الشخص على النطق بالإنصاف! -نسأل الله السلامة-" (سير أعلام النبلاء: [8/113].


8- سئل على ابن المديني عن أبيه فقال: اسألوا غيري فقالوا سألناك. فأطرق ثم رفع رأسه وقال: هذا هو الدين أبى ضعيف" (المجروحون: [2/14)].

9- قَالَ عَلَّامَةُ القَصِيْمِ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَاصِرٍ بْنِ سِّعْدِيِّ رحمه الله تعالى في كِتَابِهِ النَّفِيسِ (الرِّياض النَّاضِرة والحدائق النيرة الزَّهرة في العقائد والفنون المتنوّعة؛ ص: [105-106]): "ومن أعظم المحرمات وأشنع المفاسد، إشاعـة عثراتهم، والقدح فيهم (و) في غلطاتهم. وأقبح من هذا وأقبح: إهدار محاسنهم عند وجود شيء من ذلك.

وربما يكون -وهو الواقع كثيرًا- أن الغلطات التي صدرت منهم لهم فيها تأويل سائغ، ولهم اجتهادهم فيه. معذورون، والقادح فيهم غير معذور.
وبهذا وأشباهه يظهر لك الفرق بين أهل العلم النَّاصحين، والمنتسبين للعلم من أهل البغي والحسد والمعتدين.


فإن أهل العلم الحقيقي قصدهم التّعاون على البر والتّقوى؛ والسّعي في إعانة بعضهم بعضًا في كل ما عاد إلى هذا الأمر، وستر عورات المسلمين، وعدم إشاعة غلطاتهم، والحرص على تنبيههم، بكل ما يمكن من الوسائل النَّافعة، والذّب عن أعراض أهل العلم والدِّين.
ولا ريب أن هذا من أفضل القربات.


ثم لو فرض أن ما أخطأوا فيه أو عثروا ليس لهم فيه تأويل ولا عذر، لم يكن من الحق والإنصاف أن تهدر المحسان، وتمحي حقوقهم الواجبة بهذا الشيء اليسير، كما هو دأب أهل البغي والعدوان، فإن هذا ضرره كبير، وفساده مستطير. أي عالِم لم يخطئ؟ وأي حكيم لم يعثر؟" (من مشاركة للأخ: سلمان أبو زيد في المجلس العلمي).

10- قال ابن حزم رحمه الله: "من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه فإن يلوح له وجه تعسفه" (الأخلاق والسير؛ ص: [80]).


11- سئل عبد الله بن وهب تلميذ الإمام مالك عن عبد الله بن زياد بن سمعان فقال: "ثقة. فقلت: إن مالكاً يقول فيه: كذّاب. فقال: لا يقبل قول بعضهم في بعض" (جامع بيان العلم وفضله: [2/305]).

12- قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "فإن وطنّت نفسك أيها الطالب على الإنصاف وعدم التعصُّب لمذهب من المذاهب ولا لعالِم من العلماء بل جعلت الناس جميعاً بمنزلةٍ واحدة في كونهم منتمين إلى الشريعة محكوماً عليهم بما لا يجدوا لأنفسهم عنها مخرجاً ولا يستطيعون تحولاً فضلاً عن أن يرتقوا إلى واحد منهم أو يلزمه تقليده وقبوله قوله فقد فزت بأعظم فوائد العلم وربحت بأنفس فرائده" (أدب الطلب؛ ص: 89]).

13- تثبُّت الشيخ السعدي رحمه الله، (حتّى في هتلر): قال الشيخ عبد الله الشبل حفظه الله: متذكرًا بعض المواقف التي عايشها من حياة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "موقف آخر أذكره للشيخ رحمه الله: وهو أنه -أيضًا- بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية صدر كتاب لهتلر اسمه: "كفاحي"، وكان يسبّ العرب، فأذكر أن أحد الناس جاء إلى الشيخ وأنا أسمعه، وقال: إنه يقول كذا وكذا. قال له: هل قرأت كتابه بخط يده وبِلُغَته؟ قال: لا. قال: إذًا: أولاً: الكتاب ترجم للغة الانجليزية، ثم من اللغة الإنجليزية إلى العربية؛ فنحن لا نضمن التحريف؛ خاصةً أن هناك أناسٌ يكرهون هذا الرجل ويناصبونه العِداء -وخاصةً اليهود-! فلا تُصدِّق ما قيل فيما ورد في هذا الكتاب إلا بعد أن تطلع على النسخة الأصلية لكتاب هتلر" (فُرِّغَتْ من مادة صوتية من موقع الشيخ ابن سعدي رحمه الله، وهي على الرابط التالي، من (الدقيقة: 44):

http://www.binsaadi....tion=view&id=40

14- قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "ومن جملة الأسباب التي يتسبب عنها ترك الإنصاف، ويصدر عنها البعد عن الحق، وكتم الحجة، وعدم ما أوجبه الله من البيان؛ حب الشرف والمال اللذين هما أعدى على الإنسان من ذئبين ضاريين، كما وصف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا هو السبب الذي حرّف به أهل الكتاب كتب الله المنزلة على رسله، وكتموا ما جاءهم فيها من البينات والهدى كما وقع من أحبار اليهود، وقد أخبرنا الله بذلك في كتابه العزيز وأخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثابت عنه في الصحيح.

وبهذا السبب بقى من بقى على الكفر من العرب وغيرهم بعد قيام الحجة عليهم وظهور الحق لهم، وبه نافق من نافق. ووقع في الإسلام من أهل العلم بذلك السبب عجائب مودعة بطون كتب التاريخ، وكم من عالٍ قد مال إلى هوى ملك من الملوك فوافقه على ما يريد وحسن له ما يخالف الشرع وتظهر له بما ينفق لديه من المذاهب، بل قد وضع بعض المحدثين للملوك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وقع من وهب بن وهب أبو البخترى مع الرشيد، ووقع من آخر في حديثٍ لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل، فزاد في الحديث أو جناح موافقة للملك الذي رآه يلعب بالحمام ويسابق بينها، ووضع جماعة مناقب لقوم وآخرون مثالب لآخرين لا حامل لهم على ذلك إلا حب الدنيا والطمع في الحطام والتقرّب إلى أهل الرئاسة بما ينفق لديهم ويروِّح عليهم- نسأل الله الهداية والحماية من الغواية-.

وكم قد سمعنا ورأينا في عصرنا من أهله فكثيراً ما نرى الرجل يعتقد في نفسه اعتقاداً يوافق الحق ويطابق الصواب؛ فإذا تكلم عند من يخالفه في ذلك ويميل إلى شيء من البدعة فضلاً عن أن يكون من أهل الرئاسة وممن بيده من الدنيا، فضلاً عن أن يكون من الملوك وافقه وساعده وسانده وعاضده وأقل الأحوال أن يكتم ما يعتقده من الحق ويغمط ما قد تبين له من الصواب عند من لا يجوز منه ضرراً ولا يقدِر منه نفعاً، فكيف ممن عداه وهذا في الحقيقة من تأثير الدنيا على الدين والعاجلة على الآجلة وهو لو أمعن نظره وتدبر ما وقع فيه لعلم أن ميله إلى هوى رجل أو رجلين أو ثلاثة أو أكثر ممن يجاملهم في ذلك المجلس ويكتم الحق مطابقة لهم واستجلاباً لمودتهم واستبقاء لما لديهم، وفِراراً من نفورهم وهو من التقصير بجانب الحق والتعظيم لجانب الباطل.

فلولا أن هؤلاء النفر لديه أعظم من الربّ سبحانه لما مال إلى هواهم وترك ما يعلم أنه مراد الله سبحانه ومطلبه من عباده وكفاك بهذه الفاقرة العظيمة والداهية الجسيمة فإن رجلاً يكون عنده فرد من أفراد عباد الله أعظم قدرا من الله سبحانه ليس بعد تجرئه على الله شيء" (أدب الطلب؛ ص: [110]).

15- أخرج الطبراني في (مسند الشاميين؛ ص: [298])؛ بسندٍ جيد عن الخولاني: "أنه قدِم العراق فجلس إلى رفقة فيها ابن مسعود، فتذاكروا الإيمان، فقلت: أنا مؤمن. فقال ابن مسعود: أتشهد أنك في الجنة؟ فقلت: لا أدري مما يحدث الليل والنهار. فقال ابن مسعود: لو شهدت أني مؤمن لشهدت أني في الجنة. قال أبو مسلم: فقلت: يا ابن مسعود! ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أصناف: مؤمن السريرة مؤمن العلانية، كافر السريرة كافر العلانية، مؤمن العلانية كافر السريرة؟ قال: نعم. قلت: فمن أيهم أنت؟ قال: أنا مؤمن السريرة مؤمن العلانية. قال أبو مسلم: قلت: وقد أنزل الله عز وجل: هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن فمن أي الصنفين أنت؟ قال: أنا مؤمن. قلت: صلى الله على معاذ. قال: وما له؟ قلت: كان يقول: اتقوا زلة الحكيم وهذه منك زلة يا ابن مسعود، فقال: أستغفر الله.

قال الشيخ الألباني رحمه الله معلقاً على هذا الخبر: "رضي الله عن ابن مسعود ما أجمل إنصافه، وأشد تواضعه، لكن يبدو لي أنه لا خلاف بينهما في الحقيقة، فابن مسعود نظر إلى المآل، ولذلك وافقه عليه أبو مسلم، وهذا نظر إلى الحال، ولهذا وافقه ابن مسعود، وأما استغفاره، فالظاهر أنه نظر إلى استنكاره على أبي مسلم كان عاما فيما يبدو من ظاهر كلامه. والله أعلم" [السلسلة الضعيفة: [4/193]).

16- سمعَت عائشة رضي اللّه عنها عروة ابن الزّبير يسبّ حسّان بن ثابت رضي الله عنهما، وكان ممّن خاض في حديث الإفك. فقالت رضي اللّه عنها: "يا ابن أختي دعه، فإنّه كان ينافح عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم" (رواه البخاري: [4145]).

17- قال أبو داود: جاء رجلٌ إلى أحمد، فقال: أنكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟ فقال: إذا لم تكتب عن محمد بن منصور فعمن؟! يقول ذلك مراراً. ثم قال له الرجل: إنه يتكلم فيك! فقال أحمد: رجل صالح ابتُلي بِنا! فما نعمل؟! (طبقات الحنابلة: [2/45]).

18- قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً} [النساء:105]؛ يتلخّص سبب النّزول في "أنّ طعمة ابن أبيرق سرق درعاً في جراب فيه دقيق لقتادة بن النّعمان، وخبّأها عند يهوديّ، فحلف طعمة مالي بها علم، فاتّبعوا أثر الدّقيق إلى دار اليهوديّ، فقال اليهوديّ: دفعها إليّ طعمة" (البحر المحيط: [3/358]).

يقول أحد العلماء المعاصرين معلّقاً على هذه الواقعة: "يا للّه! إنّه الإسلام! الإسلام وحده في تاريخ البشريّة كلّه. وغير الإسلام لم يكن ضميره ليتحرّك لتبرئة متّهم ينتمي إلى قوم بينه وبينهم كلّ ذلك العِداء. ألا إنّها القمّة السّامقة الّتي لا يقيمها ابتداء إلّا الإسلام، ولا يرقاها إلّا المسلمون في كلّ التّاريخ. لقد كانت كلّ الظّروف "مشجّعة" على اتّهام ذلك اليهوديّ وتبرئة ذلك المنافق الّذي ينتمي ولو شكلا إلى الإسلام!

فالعداوة بين المسلمين واليهود قائمة في المدينة، وكيد اليهود للمسلمين قائم واضح للعيان. إلّا أنّ الإسلام ما جاء ليتستّر على انحرافات البشريّة أو يتسامح مع شيء منها! وما جاء ليُجاري الجاهليّات فيما تقع فيه من انحراف. وإنّما جاء لينشأ الإنسان الصّالح في الأرض.

إنّها ليست حادثاً عارِضاً يمرّ فينسى، إنّها درس هائل في التّربية على الأفق الأعلى لا يقدّمه إلّا الإسلام، ولا يقدر عليه إلّا المسلمون. وإنّه لدرس في التّطبيق العمليّ للإنصاف الإلهيّ والعدل الرّبّانيّ الّذي لم تعرفه أمة في التّاريخ، إلّا الأمّة الّتي ربّاها القرآن الكريم. تسع آيات كريمة تنزل لكشف ذلك المنافق الّذي انضمّ إلى المشركين بعد فضحه، ولتبرئة ساحة ذلك اليهوديّ، وما كان الإسلام ليتألّف قلب المنافق لأنّه يحمل اسماً مسلماً على حساب الإنصاف والعدل الّذي يريد إقامتهما في الأرض نِبراساً لكلّ البشريّة، لقد ذهب ابن أبيرق مع الشّيطان، وبقي ذلك الدّرس الرّبّانيّ الخالد درساً وعاه المسلمون وحفظوه، لتتعلّمه البشريّة منهم يوم تفيء إلى رشدها وتحبّ أن تعرف الطّريق إلى ما فيه خيرها وسعادتها" (نضرة النعيم: (3/580)].

19- قال الشعبي رحمه الله: "كان بين عمر بن الخطاب وبين أُبيّ بن كعب رضى الله عنهما تدارى في شيء وادّعى أُبيّ على عمر رضي الله عنهما فأنكر ذلك فجعلا بينهما زيد بن ثابت فأتياه في منزله، فلما دخلا عليه قال له عمر رضي الله عنه أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يؤتى الحكم فوسع له زيد عن صدر فراشه؛ فقال ها هنا يا أمير المؤمنين، فقال له عمر رضى الله عنه لقد جرت في الفتيا ولكن أجلس مع خصمي، فجلسا بين يديه فادّعى أُبيّ وأنكر عمر رضى الله عنهما فقال زيد لأُبيّ أعف أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره، فحلف عمر رضى الله عنه ثم أقسم لا يدرك زيد بن ثابت القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء" (السنن الكبرى: [10/136]).

20- قال ابن فُضيل: "عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر الباقر وابنه جعفراً عن أبي بكر وعمر، فقالا لي: يا سالم، تَوَلَّهُمَا، وَأَبرَأُ من عدوهما، فإنهما كانا إِمَامَيْ هُدى" (تاريخ دمشق: [15/355]، الطبقات الكبرى: [5/321]).

عَقَّبَ الإمام الذهبي توفي سنة (748هـ) رحمه الله: "كان سالم فيه تشيع ظاهر، ومع هذا فَيَبُثُّ هذا القولَ الحقَّ، وإنما يعرفُ الفضلَ لأهل الفضل ذو الفضل، وكذلك ناقلها ابن فضيل شيعي، ثقة، فَعَثَّرَ الله شيعة زماننا، ما أغرقهم في الجهل والكذب! فينالون من الشيخين، وَزِيْرَيِ المصطفى صلى الله عليه وسلم ويحملون هذا القول من الباقر والصادق على التَّقِيَّةِ" (سير أعلام النبلاء: [4/403]).

21- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "واللهُ قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، أمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه، أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق" (منهاج السنة النبوية: [2/342]).

22- قال محمد بن قاسم العثماني رحمه الله: "وصلت الفسطاط مرة، فجئت مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهري، وحضرت كلامه على الناس، فكان مما قال في أول مجلس جلست إليه: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلّق وظاهر وآلى، فلما خرج تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة، فجلس معنا في الدهليز، وعرفهم أمري، فإنه رأى إشارة الغربة ولم يعرِف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه، فلما انفض عنه أكثرهم قال لي: أراك غريباً، هل لك من كلام؟ قلت: نعم. قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه. فقاموا وبقيت وحدي معه.

فقلت له: حضرت المجلس اليوم متبرِّكاً بك، وسمعتك تقول: آلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصدقت، وطلّق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصدقت. وقلت: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا لم يكن، ولا يصح أن يكون؛ لأن الظِهار منكر من القول وزور؛ وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضمني إلى نفسه وقبَّل رأسي، وقال لي: أنا تائب من ذلك، جزاك الله عني من معلم خيراً ثم انقلبت عنه، وبكرت إلى مجلسه في اليوم الثاني، فألفيته قد سبقني إلى الجامع، وجلس على المنبر، فلما دخلت من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته: مرحباً بمعلمي؛ أفسحوا لمعلمي، فتطاولت الأعناق إليّ، وحدّقت الأبصار نحوي، وتعرفني: يا أبا بكر -يشير إلى عظيم حيائه، فإنه كان إذا سلم عليه أحد أو فاجأه خجل رضي الله عنه- لعظيم حيائه، واحْمَرَّ حتى كأن وجهه طُلِيَ بِجُلَّنَارٍ، قال: وتبادر الناس إلي يرفعونني على الأيدي ويتدافعوني حتى بلغت المنبر، وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض، والجامع غاص بأهله، وأَسَال الحياء بدني عرقاً، وأقبل الشيخ على الخلق، فقال لهم: أنا معلمكم، وهذا معلمي؛ لما كان بالأمس قلت لكم: آلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطلّق، وظاهر؛ فما كان أحد منكم فَقه عني ولا رد علي، فاتبعني إلى منزلي، وقال لي كذا وكذا؛ وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائب عن قولي بالأمس، وراجع عنه إلى الحق؛ فمن سمعه ممن حضر فلا يعوّل عليه. ومن غاب فليبلغه من حضر؛ فجزاه الله خيراً؛ وجعل يحفل في الدعاء، والخلق يؤمنون" (أحكام القرآن لابن العربي: [1/349]).

23- قال العلامة السعدي رحمه الله: "في تفسير قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:2-3].

دلّت الآية الكريمة على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له يجب أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات، بل يدخل في عموم هذا: الحجج والمقالات، فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد منهما يحرص على ما له من الحجج، فيجب عليه أيضاً أن يبين ما لخصمه من الحجة التي لا يعلمها، وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو، وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصُّبه واعتسافه وتواضعه من كبره وعقله من سفهه" (تيسير الكريم الرحمن، في تفسير كلام المنان [7/ 586-587]).

24- قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: "سأل رجلٌ علياً رضي الله عنه عن مسألة، فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين ولكن كذا وكذا، فقال علي رضي الله عنه: أَصَبْتَ وَأَخْطَأْتُ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف من الآية:76]" (جامع البيان في تأويل القرآن: [1/192]).

25- قال الإمام الغزالي رحمه الله: "فانظر لما سُئل أبو موسى عن رجل قاتل في سبيل الله فقُتِلَ فقال هو في الجنة، وكان أمير الكوفة فقام ابن مسعود فقال أعده على الأمير فلعله لم يفهم فأعادوا عليه فأعاد الجواب، فقال ابن مسعود وأنا أقول إن قتل فأصاب الحق فهو في الجنة فقال أبو موسى: الحق ما قال، وهكذا يكون إنصاف طلب الحق ولو ذكر مثل هذا الآن لأقل فقيه لأنكره واستبعده وقال لا يحتاج إلى أن يقال أصاب الحق فإن ذلك معلوم لكل أحد فانظر إلى مناظري زمانك اليوم كيف يَسوّد وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه وكيف يخجل به وكيف يجهد في مجاحدته بأقصى قدرته وكيف يذم من أفحمه طول عمره؛ ثم لا يستحي من تشبيه نفسه بالصحابة رضي الله عنهم في تعاونهم على النظر في الحق" (إحياء علوم الدين: [1/44]).

26- قال أبو العتاهية:


إذا اتضح الصواب فلا تدعه *** فإنك كلما ذقت الصوابا
وجدت له على اللهوات بردا *** كبرد الماء حين صفا وطابا
وليس بحاكم من لا يبالي *** أأخطأ في الحكومة أم أصابا


(جامع بيان العلم وفضله: [2/332]).

27- قال أبو محمد قاسم بن أصبغ رحمه الله: "لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس، فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد، فقرأت عليه فيه يوماً حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قدِم عليه قوم من مضر من مجتابي النمار، فقال: إنما هو مجتابي الثمار، فقلت إنما هو مجتابي النمار، هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق، فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا! أو نحو هذا. ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك الشيخ -لشيخ كان في المسجد- فإن له بمثل هذا علماً، فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال: إنما هو مجتابي النمار، كما قلت. وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة، جيوبهم أمامهم. والنمار جمع نمرة. فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه: رغم أنفي للحق، رغم أنفي للحق. وانصرف" (الجامع لأحكام القران: [1/287]).

28- قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "كنا في جنازة فيها عبيد الله بن الحسن العنبري، وهو يومئذ قاضي البصرة، وموضعه في قومه، وقدره عند الناس، فتكلم في شيء فأخطأ فقلت، وأنا يومئذ حدَث: ليس هكذا يا أبي، عليك بالأثر، فتزايد علي الناس، فقال: عبيد الله: دعوه، وكيف هو؟ فأخبرته، فقال: صدقت يا غلام، إذا أرجع إلى قولك، وأنا صاغر" (حلية الأولياء: [9/5]).



جهاد حلس
 

  • 4
  • 0
  • 18,370

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً