أول طريق النجاح

منذ 2013-11-02

إن آفة العمل الإسلامي اليوم هو عدم رجوع بعض قادة وزعماء بعض الأحزاب والجماعات فيه عن خطئهم -وقد ظهر ذلك جلياً في أكثر من بلدٍ عربي وإسلامي- رغم وضوح الحق وجلائه كعين الشمس كما يقال، ورغم اجتماع معظم علماء وفقهاء العالم على هذا الرأي، بل رغم وضوح هذا الحق لعامة المسلمين وبسطائها، فضلاً عن علمائها ومفكريها وفقائها، فماذا يُسمّى ذلك غير تعصّب مرذول؟! ومخالفة للإجماع الإسلامي مذموم؟!

 

«كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» حقيقة قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم في مستدركه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وامتدحها القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:134-135].

ليس بدعا في الإسلام أن يخطىء الإنسان أو يذنب، فهو مجبول بطبعه على ذلك، ولا يمكن أن يسلم إنسان من ارتكاب الخطأ أو الوقوع فيه -إلا الأنبياء والمرسلون الذين عصمهم الله تعالى عن ذلك- فقد جاء في الحديث الصحيح عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» (صحيح مسلم برقم: [7141]).

ولكن المشكلة والمعضلة تكمن في الإصرار على الذنب والخطأ، وعدم الاعتراف به أو التراجع عنه، فما هلك من هلك ممن كان قبلنا إلا بإصرارهم على الذنب والخطأ، واستكبارهم عن التراجع عنه أو التوبة منه، وما فاز من فاز من الأفراد والمجتمعات والأمم إلا باعترافهم بالخطأ إذا وقع منهم، والتراجع عنه إذا صدر عنهم.

وإذا كان الاختلاف في الرأي في الإسلام محمود ومشروع، فإنه كذلك من أجل الوصول إلى الغاية والهدف من هذا الاختلاف، ألا وهو معرفة الحق والتزامه، فهو غاية الجميع أولا وآخرا، فإذا ما ظهر هذا الحق واتضح، وكثرت براهينه وأدلته الدامغة، رأيت الجميع يلتفون حوله ويتمسكون به، معترفين بخطئهم الذي قد وقع، مطبقين بذلك تعاليم دينهم، والقاعدة والمثل المستنبط من هذا الدين: الاعتراف بالذنب والخطأ فضيلة.

وليس هذا الأمر خاصاً، بل أصبح اليوم قاعدة النجاح والفلاح للأفراد والمجتمعات في العالم، فمن أخذ به فاز وسعِد، ومن تركه خاب وخسر، وقد امتلأت كتب التنمية البشرية اليوم بمثل هذه القواعد والمبادئ ذات الجذور الإسلامية، حتى شاعت القاعدة التي تقول: إذا كان الأشخاص والمصالح يدورون حول المبادئ، فذلك قمة الرقي والتقدُّم، وإذا كانت المبادئ والمصالح تدور حول الأشخاص، فذلك قمة الخنوع والاستبداد، وإذا كانت المبادئ والأشخاص تدور حول المصالح والأهواء، فذلك قمة الانحطاط والانحدار.

وإذا كان المسلمون في العالم مأمورون بالتزام هذا المبدأ الإسلامي وتطبيقه، فإن قادة المسلمين أولى بالتطبيق والالتزام، فهم القدوة لأتباعهم وأنصارهم، وهم طليعة وواجهة المجتمع الإسلامي، ولا يمكن لأمتنا أن تتقدم وتتطور إلا إذا اعترف من أخطأ بخطئه وحاول تصحيحه، بدءاً من المسلم البسيط العادي، وانتهاء بالقادة والعلماء والمربين.

وإذا كان إصرار الإنسان المسلم على الخطأ معيقاً للتقدُّم والتطور، فإن الأخطر منه إصرار بعض القادة والطليعة على خطئهم، حيث يُظهر البعض تعنته واستكباره عن الرجوع عن الخطأ الذي وقع فيه، رغم ظهور عواره ووضوح فساده وبطلانه، ويزداد الأمر سوءاً إذا اكتشف محبو هذا القائد إصراره على خطئه الذي وقع فيه، دون الاعتراف به تمهيداً للتوبة منه والرجوع عنه، مما يشكل صدمة للمحبين والأتباع وشرخاً عميقاً في الثقة بين القيادة والقاعدة، بسبب الانفصال بين القول والعمل، بين ما كان يقوله هذا القائد للناس عن وجوب الاعتراف بالخطأ إذا وقع الإنسان، وما يرونه اليوم من امتناعه هو عن تنفيذ ذلك وتطبيقه.

لقد كان السلف الصالح نموذجا يحتذى به في التمسك بالحق مع الاعتراف بالخطأ إذا تبين له والرجوع عنه، فها هو الصحابي الجليل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يتراجع عن رأيه الذي ظهر له فيه خطأ، بعد أن نبهته امرأة لذلك، حين عزم على تحديد مهور النساء وعدم المغالاة فيه.

فقد ورد في سنن البيهقي وغيره عن الشعبي قال: "خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سيق إليه، إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين أكتاب الله تعالى أحق أن يتبع أو قولك؟! قال بل كتاب الله تعالى فما ذاك، قالت: نهيت الناس آنفاً أن يغالوا في صِداق النساء والله تعالى يقول في كتابه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء من الآية:20]، فقال عمر رضي الله عنه: "كل أحد أفقه من عمر مرتين أو ثلاثاً، ثم رجع إلى المنبر"، فقال للناس: "إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صِداق النساء، ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له" (سنن البيهقي: [7/233]، برقم: [14114]، وقال الهيثمي عن الحديث: "رواه أبو يعلى في الكبير وفيه مجالد بن سعيد وفيه ضعف وقد وثق").

وليس ذلك يعني الندب إلى المغالاة في المهور، بل الثابت أن تخفيف المهور هو المرغوب فيه والمراد، لكن إن أراد الزوج مختاراً أن يعطي زوجته ما يشاء فليفعل خصوصاً إن كان ميسّر الحال.

بل كان الشافعي رحمه الله تعالى إذا اختلف مع غيره أو ناظره، تمنى أن يجعل الله الحق على لسان مجادله ومخالفه ليتبعه وينقاد إليه فيقول: "ما جادلت أحداً إلا تمنيتُ أن يظهر الله الحق على لسانه دوني"، وكان يعود عن خطئه إن بدا له ذلك الخطأ وظهر، فقد ورد أنه قال أيضاً رحمه الله: "ما كابرني أحد على الحق ودافع إلا سقط من عيني، وما قَبِله أحدٌ إلا هِبتَه واعتقدت مودته".


وقد ناظر الشافعي رحمه الله رجلاً من أهل العلم، فانتهت المناظرة بأن رجع كل منهما إلى قول صاحبه، الشافعي ترك قوله واقتنع برأي الآخر، والآخر ترك قوله واقتنع برأي الشافعي.

وهذا الشيخ الألباني رحمه الله يذكر تراجعه في الموضع نفسه الذي أخطأ فيه في كتبه، رغم أنه كان يستطيع أن يحذف القول الخطأ ويبقي القول الصواب قبل دفعه الكتاب إلى المطبعة، ومثال ذلك ما جاء في" (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ هامش رقم: 1، ص: [41]).

حيث قال الشيخ الألباني عن حديث: «اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم» (صحيح؛ أخرجه الترمذي، وأحمد، وابن أبي شيبة، وعزاه الشيخ محمد بن سعيد الحلبي في مسلسلاته: [1/2] إلى البخاري فوهم).


"ثم تبين لي أن الحديث ضعيف، وكنت اتبعت المناوي في تصحيحه لإسناد ابن أبي شيبة فيه، ثم تيسّر لي الوقوف عليه ؛ فإذا هو بيِّن الضعف، وهو نفس إسناد الترمذي وغيره" (راجع كتابي سلسلة الأحاديث الضعيفة المجلد الأول).

لقد كان الحق مرادهم وغايتهم، والوصول إلى الصواب سعيهم وطلبهم، فإذا ما ظهر هذا الحق، اتبعوه وانقادوا إليه، بكل يُسرٍ وسهولة، وتركوا ما كانوا عليه من الاجتهاد الذي بدا لهم عدم صوابه، فلم يتعصبوا لرأي، ولم يتحجروا لمذهب أو اجتهاد، ما دام القرآن والسنة الحكم والفيصل بينهم.

إن آفة العمل الإسلامي اليوم هو عدم رجوع بعض قادة وزعماء بعض الأحزاب والجماعات فيه عن خطئهم -وقد ظهر ذلك جلياً في أكثر من بلدٍ عربي وإسلامي- رغم وضوح الحق وجلائه كعين الشمس كما يقال، ورغم اجتماع معظم علماء وفقهاء العالم على هذا الرأي، بل رغم وضوح هذا الحق لعامة المسلمين وبسطائها، فضلاً عن علمائها ومفكريها وفقائها، فماذا يُسمّى ذلك غير تعصّب مرذول؟! ومخالفة للإجماع الإسلامي مذموم؟!

فإذا كان قادة العمل الإسلامي وواجهته من الدعاة والعلماء لا يتراجعون عن الخطأ إذا وقعوا فيه أو خالطوه، فكيف يمكن أن نطلب من عامة المسلمين التراجع عن أخطائهم؟!


وكيف يمكن أن نبني مجتمعاً إسلامياً في بلادنا العربية والحال كذلك؟!
 

 

د. عامر الهوشان
 

  • 2
  • 0
  • 3,241

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً