أهل السنة والطوائف
نحن السنة ليس في ديننا "تقية"، ما نقوله في السِرّ نقوله في العلن، وما نقوله في الرخاء نقوله في الشدة، وما نقوله وقت الثورة نقوله بعد الثورة، وليس في كتبنا وتراثنا صحائف سرية بل كلها منشورة منتشرة، وعلى رأسها كتاب الله أكثر الكتب انتشاراً في الدنيا وحفظاً في الصدور. إن كتاب الله وضع لنا قواعد في التعامل مع الناس جميعاً، لا نملك أن نحيد عتها، ولو فعلنا لاستجلبنا غضب الله علينا.
مع دنو أجل نظام الأسد في سورية، زاد الحديث عن الطائفية، وعن التخوف على مستقبل الطوائف بعد سقوط النظام، ولا شك أن هذا الكلام يُلمَز به المسلمون السنة لكونهم الشريحة الأكبر في المجتمع السوري.
نحن السنة ليس في ديننا "تقية"، ما نقوله في السِرّ نقوله في العلن، وما نقوله في الرخاء نقوله في الشدة، وما نقوله وقت الثورة نقوله بعد الثورة، وليس في كتبنا وتراثنا صحائف سرية بل كلها منشورة منتشرة، وعلى رأسها كتاب الله أكثر الكتب انتشاراً في الدنيا وحفظاً في الصدور.
إننا لاشك نختلف خلافاً جوهرياً في العقائد مع الطوائف الأخرى، بل كل منها يختلف مع الأخرى (وإلا لما كانت طوائف شتى!). لكن ماذا عن التعامل معها؟
إن كتاب الله وضع لنا قواعد في التعامل مع الناس جميعاً، لا نملك أن نحيد عتها، ولو فعلنا لاستجلبنا غضب الله علينا.
من هذه القواعد:
{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة من الآية:8]؛ أي تُحسِنوا إليهم وتعدِلوا معهم.
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة من الآية:8]؛ أي: لا يحملكم ويدفعكم بغضكم لهم على ترك العدل معهم.
ويحذرنا الله أن نحابي طائفتنا على حساب الطوائف الأخرى ظلما وعدوانا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء من الآية:135].
بل عندما امتنع بعض الصحابة من إعطاء الصدقات لأقاربهم المشركين، عاتبهم الله بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة من الآية:272]، ليس من الصعب أن ندرك أن وراء أكمة الحديث عن الطائفية ما وراءها، وكأن هذه الطوائف أنشأها حكم الأسد وحماها فيخشى أن تزول بزواله!
لقد نشأت هذه الطوائف وعاشت في أزمان الأمويين والعباسيين والسلاجقة والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، فلم يكن في هذا التاريخ الممتد غير العدل والإنصاف وحسن الجوار.
فأين تجدون في منطق الدين أو دلالة التاريخ أنّا نظلم أهل الطوائف الذين نختلف معهم، أو نبخسهم حقهم؟ إن الاختلاف مع هذه الطوائف في كليات العقائد لا يمنع من العدل والإنصاف في التعامل معهم، بل لا يُجيز ظلمهم والتعدي عليهم.
واستمع إلى شدة عداوة اليهود لنا بنص القرآن {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة من الآية:82]، ومع ذلك هل أساء المسلمون إلى اليهود الذي عاشوا بينهم؟
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعايش معهم في المدينة، ولم يقتل يهود بني قريظة إلا بعد نقضهم ثلاث معاهدات، وبعد وقوع الخيانة العظمى للدولة منهم، فهو لم يقتلهم ليهوديتهم بل لغدرهم وخيانتهم.
ولا حجة بمقالات لأفراد يخالفون هذه الأصول الساطعة، فلا يزال في كل أمة أقوال شاذة لا تُمثِّل الرأي العام. فهذا اليمين المتطرِّف في أوروبا يدعو إلى إبادة المسلمين أو طردهم، وهذا قسيس في أمريكا يدعو إلى حرق القرآن، فهل نعمم ذلك على كل الأوروبيين و القساوسة؟
إنه بعد أن يزول النظام -وهو زائل عاجلًا بإذن الله- فليس ثم إلا العدل والإنصاف أيضاً. نعم؛ سيطالب الشعب بمحاسبة من استباح دمه وعِرضه وماله، ولكن ضمن قاعدة: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فلا يؤخذ أحد بجريرة أبيه أو أخيه، فضلاً عن أحد من طائفته.
وسيُطالب الشعب بمحاربة الفساد المستشري في الدولة، وأن يُقام الرجل المناسب في المكان المناسب، ولكن ضمن قاعدة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص من الآية:26]، ثم ليكن من شاء.
هذه قِيمُنا التي نقرؤها صبحَ مساء، ونعلنها في مساجدنا، ويتعلمها صغارنا في مدارسنا، وتسطَّر في كتبنا ومجلاتنا، وتتناقلها شاشات إعلامنا الإسلامي الناشئ.
وما ظهرت بعض المخالفات الفردية في حياتنا إلا بعد أن حاصرت النُّظم العربية البائدة تلك القيم، فبدّلت المناهج، وحَرمت المنصفين من الحديث في المساجد ووسائل الإعلام، وضيّقت على الجهود التربوية الناضجة، بحجة محاربة الإرهاب الذي بهذا أنشؤوه ورعوه وغذوه.
معن عبد القادر