الهجرة وتصحيح المفاهيم

منذ 2013-11-05

سأشير إشارات متصلة لأمور تتعلق بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونقتبس منها ما يصحح المفاهيم.


الخطبة الأولى:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فتقواه سبحانه وتعالى هي الأمر الرباني في كل آن وحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].

المفاهيم ذات أهمية كبرى لأن إدراكها ومعرفتها على الوجه الصحيح من منطلق هذا الدين العظيم، وفي نور الكتاب المبين وعلى خطى المصطفى صلى الله عليه وسلم تجعل المسلم يسير على بينة من أمره، ولا تختلط عنده المفاهيم بما يقع في دنيا الناس من تحصيل المصالح وتغليب المنافع وتقديم الأهواء واضطراد الآراء، وهذا في غاية الأهمية لأننا اليوم نعاني من غياب المفاهيم وتشويشها والمعاناة الأكبر من تحويلها وانقلابها حتى أصبحنا في بعض الأحيان نرى الأمور منكوسة معكوسة وكأن المرء يقول لليل بظلامه الدامس: ما أبهى أنوارك وإشراقك، وينظر إلى الصبح بنوره الباهت وهو يقول: ما أشد الظلمة وما أعظم القتمة، وهذا أمر قد يراه البعض فيه مبالغة ولكنني سأشير إشارات متصلة لأمور تتعلق بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونقتبس منها ما يصحح المفاهيم.

ولا أحسب أن أحداً منا لا يعرف قصة هجرة صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه، يوم خرج متخفياً من مكة قاصداً المدينة في إثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من المهاجرين، فلحقه كفار قريش واستطاعوا أن يصلوا إليه: "جئتنا صعلوكاً حقيراً لا مال لك وتخرج من بيننا وقد كثر مالك والله لا يكون ذلك"، وكان صهيب رامياً وكانت كنانته مليئة بالأسهم فقال: "والله لن تصلوا إلي حتى لا يكون سهم من كنانتي إلا في واحد منكم، فهل لكم في شيء خير"؟ قالوا: "وما هو"، قال: "أرأيتم إن تركت لكم مالي أكنتم تاركي؟" قالوا: "نعم"، فدلهم على موضع ماله كله الذي ادخره في حياته وأخفاه عله يصل إليه من بعد، فأطلقوا سراحه ومن جهة أخرى أخذوا ماله، أي خسارة أكبر من هذه أن تصبح في لحظة واحدة معدماً فقيراً صفر اليدين من كل أسباب الحياة المادية ورزقها ومالها، وكيف يكون الأمر أشد فداحة وخسارة عندما يحل ذلك بمن كان ثرياً غنياً ثم ينقلب في لحظة واحدة إلى فقير معدم.

 

ما بين غمضة عين وانتباهتها *** يبدل الله من حالٍ إلا حالِ



كم كان حزن صهيب على ماله؟ وكم دمعة ذرفتها عينه؟ وهل تردد في ذلك وهو ينازع نفسه؟ وكيف طابت نفسه من بعد أن يسير في طريق هجرته ليصل إلى مستقبل مجهول لكن الأهم كيف كان استقباله عندما وصل؟ في بعض ما ورد من روايات المفسرين في كتب التفسير: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم عليه صهيب قال: «ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى»، وعند ابن هشام في سيرته أن الفاروق رضي الله عنه ومعه بعض الصحابة لبوا صهيب عندما وصل إلى المدينة فقص قصته، فقالوا له: "ربح البيع"، وفي بعض الروايات في السيرة أنهم بادروه قالوا: "ربح بيعك"، قال: "وأنتم كذلك فما ذلك؟" قالوا: "أنزل الله عز وجل فيك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]".

أورد ذلك في أسباب النزول في تفسيره ابن كثير رحمه الله وغيره من أهل التفسير، كيف انقلبت الخسارة الفادحة إلى ربح عظيم يهنئ به بدلاً من أن يعزى ويواسى، انظروا كيف تكون المفاهيم مختلفة عندما تكون القاعدة التي هي منها منطلقة متباينة، لو نظرنا إلى متاع الدنيا وزينتها وبهرجها لكان الأمر خسارة ويحتاج إلى عزاء ولما نظروا إلى الحياة الأخرى وما يدخر فيها وما يرصد لها وما يؤمل من بعد الحياة الدنيا في عظيم الأجر والثواب وجدوا ذلك تجارة رابحة وصفقة عظيمة وانقلبت التعزية إلى تهنئة.

وأسأل اليوم: لو أن أحداً أنفق لا أقول ماله كله وإنما شطراً عظيماً أو كبيراً من ماله فهل ستجدون أكثر الناس يهنئونه أم يعزونه؟ الجواب نتركه لنا لنفكر ونتدبر فيه.

وفي هذا السياق حتى نتم الأمر؛ لما نزل قول الحق جل وعلا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران من الآية:92]، انظروا كيف كانت الآيات والمفاهيم تتحول من العقول والأفهام إلى القلوب والمشاعر ثم تترجم إلى السلوك والأعمال، جاء أبو الدحداح رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية يريد أن ينال البر، والثمن؛ لن تنالوه حتى تنفقوا مما تحبون، والكلمة تعبر عن مشاعر القلب أي ما تعلق به قلبك حباً عظيماً وشغفاً كبيراً، {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20]، هكذا جاء في القرآن فجاء أبو الدحداح رضي الله عنه إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول له: "إن بيرحاء -وهو بستان كبير فيه نخل كثير- أحب أموالي إلي وإني أريد أن أخرج منه لله عز وجل فما تأمرني فيه يا رسول الله"، قال: «اجعله في قرابتك»، ثم قال له عليه الصلاة والسلام: «بخ بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح».

تجارة أخرى مختلفة ليست كالأسهم التي تصعد وتنزل، ليست كالبضاعة التي قد تأتي بأرباح مضاعفة لأن تلك ميزانها عند الله سبحانه وتعالى ومضاعفتها؛ {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261]، هذه فيها مضاعفة صح فيها حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إن الله يأخذ صدقة أحدكم بيمينه فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه حتى تكون عند الله مثل جبل أحد»، وجبل أحد تعرفونه من يدور حوله بالسيارة يقطع اثني عشر كيلو متراً في مساحته مع ضخامته ووزنه.

إذاً أيها الإخوة.. لا بدّ لنا أن نصحح المفاهيم، وألا تكون مفاهيمنا أرضية بل سماوية، وألا تكون دنيوية بل أخروية، وليس في ذلك تحريم لشيء أحله الله، وليس في ذلك أمر يخالف طبيعة النفوس إذا خالطها الإيمان واستقر فيها اليقين.

ووجه آخر متصل بالهجرة أيضاً وهو مجال عظيم من مجالات التأثير التي تبين لنا كيف تكون المفاهيم؟ إنه الشاب المنعم المدلل المترف المعطر الذي كان لباسه مضرب المثل في النعومة وفي الفخامة، وعطره كان يفوح بعد أن يمر في طرقات مكة حتى يعرف الناس أنه مر من هنا، إنه مصعب بن عمير رضي الله عنه كما تعرفون لما أسلم توقف عنه كل ذلك، منع منه المال، انتهى زمن النعيم، توقفت أسباب الرخاء أي المادية حتى كان في أشد الأحوال وفي أرثى حالات ما يلبس من الثياب، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقبل عليه في جمع من أصحابه فحزن النبي صلى الله عليه وسلم وتأثر تأثراً فطرياً لهذا التحول فقال: «ولقد رأيت مصعب بن عمير وما في مكة أعطر منه ولا أحسن لمة منه شعره، ومثله مضرب مثل» أخره من ذلك حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، آثر الآخرة على الدنيا، تعلق قلبه بالمعاني دون المباني، عاش مع اليقين والإيمان وليس مع الأمور المادية المحسوسة، هذا الشاب الذي صقل بالإيمان وترفع عن ضغوط الحياة الدنيا بيقينه هو الذي انتخبه النبي صلى الله عليه وسلم واختاره ليكون أول سفير للإسلام، وبعثه بعد بيعة العقبة ليكون المبشر بهذا الدين فظل يدعو زمناً طويلاً قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عام، فما بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإسلام وأخذ من أهله ببركة فضل الله عز وجل ثم بما كان من جهد هذا الصحابي، اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان في حصار اجتماعي، وفي تضييق اقتصادي، ولم يكن عنده زوجة ولا ولد فأراد أن يطلق عنانه وأن يعطيه خير ما يحب وهو أن يبذل لدين الله سبحانه وتعالى.

وخذوا في الهجرة أيضاً في هذا المعنى القصة المعبرة المؤثرة لأم سلمة رضي الله عنها، مضى زوجها أبو سلمة مهاجراً وظلت في أهلها في مكة، وكان كفار قريش يتنافسون في الحجر على أبنائهم وأتباعهم ومنعهم من الهجرة والمعاقبة على من يهاجر، فجاء آل أبي سلمة إلى أم سلمة وأخذوا ابنها منها وقالوا: "ابننا لنا"، فمضى زوجها من جهة، وأخذ ابنها من جهة، وظلت كل يوم تترقب وتتحسر وتبكي على حالها لا لتلتحق بالزوج أو لتضم الابن، ولكن لتلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تيسرت لها الأسباب فهاجرت، ومن بعد ذلك مات زوجها فأكرمت بخير زوج سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، الخسارة والربح مختلفات باختلاف ما يكون في اليقين والقلب والنفس.

وانتقل بكم إلى مفهوم آخر وإلى دلالات أخرى كثيرة مذكورة فيما يتصل بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، عند البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، مفهوم الهجرة المادي أن تترك بلداً إلى بلد، وكم يصنع الناس ذلك لأسباب كثيرة، لكن الهجرة هنا هجرة حقيقة مفضلة دون أن تترك مكانك ودون أن تهاجر أو تغادر بلدك، لأنها هجرة في أعماق القلب والنفس، هجرة تترك المنكر تحريماً له لتحريم الله عز وجل، وبغضاً له بما جعله الله عز وجل فيه من النكارة والقبح وبعداً عنه خوفاً من الله سبحانه وتعالى، وتحذيراً منه حباً للناس وخوفاً عليهم من أن يقعوا فيه، فأنت حينئذ مهاجر أكبر وإن لم تتحرك ولا خطوة واحدة.

روى أبو داودعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب»، وعند أبي داود أيضاً من حديث عبد الله الخثعمي رضي الله عنه: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال؟ فقال: «طول القيام»، ثم سُئل عن أفضل الصدقة؟ فقال: «جهد المقل»، ثم سُئل عن أفضل الهجرة؟ فقال: «من هاجر ما حرم الله عليه».

إذاً أيها الإخوة.. لا بدّ أن ننظر إلى الأمور بمنظار صحيح، أن تتحول المفاهيم لدينا إلى مفاهيم منطلقة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، هل هناك أعظم خسارة من الناحية المادية الحسية من ذهاب النفس وإزهاق الروح؟ هل هناك شيء أفدح من أن تنتهي الحياة بالكلية؟ ومع ذلك هي صفقة عظيمة حتى ترجمت عند بعض الصحابة، فاندق الرمح في صدره فخرج من ظهره وإذا بابتسامة تشرق في ثغره، وإذا بكلمات تجري على لسانه: "الله أكبر فزت ورب الكعبة".

أي فوز هذا؟ إنه فوز بالمصطلح الإيماني بالمفهوم الإسلامي، ليس مطلوباً أن نزهق الأرواح بلا منهج ولا شرع، ولا قيمة ولا ثمن، ولكن عندما يكون في سبيل الله وعلى منهج الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك ما رحب به الصحب الكرام رضوان الله عليهم، كما نعرف ونعلم في سيرهم.

ولو أردنا أن نمضي في هذا الشأن لرأينا وقصصنا شيئاً كثيراً وهنا نريد أن نبين أن الهجرة في أحداثها وفي النصوص الكثيرة المتعلقة بها تدلنا أو تهدينا إلى تصحيح المفاهيم، إلى أن نعود إلى المفاهيم التي اختلفت وتغيرت وتبدلت مع الركون إلى الدنيا، مع الاستسلام لكثير مما يطرح من المفاهيم والآراء والأفكار التي تبثها وسائل الإعلام حتى انتكست وارتكست كثير من المعاني، وهنا لا بدّ لنا أن نتأكد أننا متوازنون ومتوسطون فلا إفراط ولا تفريط، لأن دين الله سبحانه وتعالى هو الكمال الذي ليس فيه نقص، وهو الصواب الذي لا يخالطه خطر في حال من الأحوال وينبغي أن يكون يقيننا بذلك عظيماً وكاملا وإلا فإن الأمور تختلط وتنتكس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]، تجاذب تحكيه هذه الآية وتحكيه آيات أخرى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].

مقارنة أخرى، مقارنة واسعة شاملة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فليست الأهواء وليست المصالح وإنما الشرع القويم الذي من أيقن به أصبح هو حبه، وهو نهجه، وهو ميله وهو فطرته، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به»، {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب.

الخطبة الثانية:
أوصيكم أيها الإخوة الكرام بتقوى الله فإنها أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقواه سبحانه وتعالى أن نرتبط بما جاء في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من المفاهيم وهي كثيرة، فنحن لسنا بصدد استقصائها فإن في حياة اجتماعية مفاهيم انتكست وارتكست فقدمنا من حقه أن يؤخر، وأخرنا من حقه أن يقدم في كثير من الصور التي ليس هذا مجال ذكرها.

ولكني هنا أتمم بأمر مهم في مقامنا هذا وفي أيامنا هذه، عندما قدم رسولنا صلى الله عليه وسلم المدينة، عندما هاجر إليها ووجد اليهود فيها يصومون يوم عاشوراء، ما هذا، قالوا: "يوم نجّى الله فيه موسى ومن معه"، قال عليه الصلاة والسلام: «نحن أحق بموسى منهم، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده»، نحن أحق بموسى عليه السلام منهم، وهذا أيضاً من المفاهيم المهمة التي يعتبر التخليط فيها أمراً خطيراً في الاعتقاد والإيمان، لأننا اليوم نسمع أن الأديان كلها واحدة، وأنها جميعها بحالها صحيحة، وأن كل معتقد لأي دين سالم ناجي في الآخرة، ونحن نقرأ في كتاب الله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، وليس في هذا ما يسمى بالتحزب أو ما يقولونه ادعاءً بالعصبية والتفرقة ونحو ذلك، بل هذا هو دين الله عز وجل، لكن انظروا إلى المعنى العظيم: «نحن أحق بموسى منهم»، نعم نحن أحق به، لأننا صدقناه وبنو إسرائيل في زمانه كذبوه، لأننا نحبه وبعض منهم في زمانه كرهوه، لأننا نسير معه وعلى خطاه وهم في زمانه خذلوه، وهكذا أيها الإخوة نحن لسنا في شك من ديننا: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، لا بدّ أن نكون على يقين بأن كل كلمة وكل حرف وكل حكم ثابت في دين الله حق لا يخالطه ولا يمازجه ولا أدنى شيء من باطل لا في هذا الزمن ولا في زمن غيره ولا في هذا المكان ولا في مكان غيره، لأن الله عز وجل قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]، وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة رضي الله عن: أن النبي صلى الله عليه وسلم: سُئل عن صيام يوم عاشوراء؟ قال: «يكفر السنة الماضية»، يوم يكفر عاماً، وفي صحيح مسلم أيضاً أنه قال: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع» أي والعاشر، وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "صوموا التاسع والعاشر؛ لأن مخالفة اليهود كانت قصداً قصده النبي صلى الله عليه وسلم"، لماذا؟ قصد لأمرين: لأمر التمييز والتوضيح بأننا لا نحتاج لا من أمة ولا من ديانة شيئاً، فقد جاءنا الكتاب المحفوظ إلى قيام الساعة، وقد بعثت إلينا الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة حتى: "ما من طائر يطير في السماء إلا ترك لنا منه خبراً" كما ورد في آثار بعض الصحابة رضوان الله عليهم.

وأما السبب الثاني فهو التميز، نحن نزيد على غيرنا لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة»، نحن أمة محمد جئنا في الزمن متأخرين في التاريخ بعدهم، لكننا بفضل الله عز وجل وبهذا الدين والتوحيد وببعثة محمد صلى الله عليه وسلم نحن السابقون يوم القيامة، ولست بمفيض في هذا، لكن المفهوم المهم هو مفهوم التمييز والتميز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من أمر نرى صوره كثيرة في واقعنا؛ «لتتبعن سَنن -أي خطى وطريق ونهج- من كان قبلكم حذو القذة بالقذة..»، والقذة: العود الرفيع، يعني في أدق الأمور ستتبعون، «حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه..»، فتعجب الصحابة وسألوا وكان سؤالاً ذكياً لأنهم يعرفون مواطن الالتباس، قالوا: "يا رسول الله اليهود والنصارى"، فأجاب بكلمة قال: «فمن»، يعني: فمن غيرهم ستتبعونهم ستكونون مثلهم، ستشاكلونهم في أفعالهم وأحوالهم، ستوافقونهم في مواقفهم ومبادئهم، كيف ستكونون حينئذ أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستخفق قلوبكم بحبهم وتعظيمهم والولاء لهم، ستبذلون جهدكم لنصرتهم والوقوف معهم، فكيف ستكونون حينئذ محققين لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما سأختم به من الآيات المعروفة المحفوظة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا} [الممتحنة من الآية:13]، وما ذكر في سبب النزول من قصة الصحابي الجليل الذي كانت له عهود ومواثيق مع حلفائهم في المدينة من قبل من اليهود والنصارى فبتها وقطعها لما كانت تعارض ولاءه لدين الله واتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

معاشر المؤمنين.. الهجرة في دلالاتها تصحيح للمفاهيم نحتاج أن نرجع فيه إلى مفاهيم كثيرة جاءت بها الآيات والأحاديث..

أسال الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بديننا، وأن يفقهنا فيه، وأن يجعلنا بكتابه تالين وبه مستمسكين وبأحكامه عاملين وله داعين ولتعليمه وتحفيظه باذلين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا لسنة النبي والمصطفى صلى الله عليه وسلم متبعين ولآثار السلف الصالح مقتفين.
 

علي بن عمر بادحدح

أستاذ بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية

  • 1
  • 0
  • 10,439

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً