«ألا أخبركم بخيركم من شركم؟»

منذ 2013-11-05

«خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره»


عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على أناسٍ جلوس فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخيركم من شركم؟» قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل: بلى يا رسول الله أخبرنا بخيرنا من شرنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره»[1].

أجمل ما في الدنيا أن تألَف وتُؤلف، وتُحِبَ وتُحَب، فإذا ألمَّت بك شدة وجدت القاصي والداني والقريب والغريب حولك..... حباً لا تملقاً، ومشاركةً لا عطفاً، ومودةً لا شفقة، وهذا المنهج هو ما حرِص على ترسيخه الإسلام ليجعل من المجتمع نسيجاً فريداً رائعاً، فلما كان المعنى الجامع بين المسلمين الإسلام، فقد اكتسبوا به أخوة أصيلة ووجب عليهم بذلك حقوق لبعضهم على بعض، وكلما ازدادت المخالطة وصفاً زادت الحقوق، مثل القرابة والمجاورة والضيافة والصحبة والصداقة والأخوة الخاصة في الله عز وجل.

«خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره» أي: من يؤمّل الناس الخير من جهته ويأمنون الشر من جهته، «وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره» أي: وشركم من لا يؤمّل الناس حصول الخير لهم من جهته، ولا يأمنون من شره، وإنما يرجى خير من عرف بفعل الخير وشهرته به، ومن غلب خيره أمنت القلوب من شره، ومتى قوي الإيمان في قلب عبد رجي خيره وأمن شره، ومتى ضعف قل خيره وغلب شره.

قال الماوردي: "يشير بهذا الحديث إلى أن عدل الإنسان مع أكفائه واجب وذلك يكون بثلاثة أشياء: ترك الاستطالة، ومجانبة الإذلال، وكف الأذى، لأن ترك الاستطالة آلف، ومجانبة الإذلال أعطف، وكف الأذى أنصف. وهذه أمور إن لم تخلص في الأكفاء أسرع فيهم تقاطع الأعداء ففسدوا وأفسدوا" (فيض القدير؛ للمناوي [1/452] بتصرّف).

وقول راوي الحديث: "فقال ذلك ثلاث مرات" لمّا توهموا معنى التمييز تخوفوا من الفضيحة فسكتوا حتى قالها ثلاثاً، فأبرز البيان في معرض العموم لئلا يفتضحوا. وهذا الحديث الجليل أصل في المروءة مع الخلق، وذلك بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء، والخلق الجميل، ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره لنفسه، وليتخذ الناس مرآه لنفسه فكل ما كرهه ونفر عنه من قول أو فعل أو خلق فليجتنبه وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله وروضة السنة الغناء طالما دندنت حول هذا المعنى السامي فقال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس أحسنهم خُلقاً»
[2]
أي: مع الخلق بالبشر والتودد والشفقة والحلم عنهم والصبر عليهم وترك التكبُّر والاستطالة ومجانبة الغلظة والغضب والحقد والحسد وأصل ذلك غريزي وكماله مكتسب (فيض القدير [2/4651]).

وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس أنفعهم للناس»
[3]
بالإحسان إليهم بماله وجاهه، فإنهم عباد اللّه وعياله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، أي أشرفهم عنده أكثرهم نفعاً للناس بنعمة يسديها أو نقمة يزويها عنهم ديناً أو دنيا، ومنافع الدين أشرف قدراً وأبقى نفعاً.

قال بعضهم: "هذا يفيد أن الإمام العادل خير الناس أي بعد الأنبياء، لأن الأمور التي يعم نفعها ويعظم وقعها لا يقوم بها غيره، وبه نفع العباد والبلاد، وهو القائم بخلافة النبوة في إصلاح الخلق ودعائهم إلى الحق وإقامة دينهم وتقويم أودهم ولولاه لم يكن علم ولا عمل".

وقال صلى الله عليه وسلم: «أحب العباد إلى الله تعالى أنفعهم لعياله» (رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد عن الحسن مرسلاً (حسن) انظر حديث رقم: [172] في صحيح الجامع).

قال القاضي: "ومحبة العبد لله تعالى إرادة طاعته والاعتناء بتحصيل فرائضه، ومحبة الله تعالى للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعصية، وفي الحديث رد على من رفض الدنيا بالكلية من النساك وترك الناس وتخفى للعبادة محتجاً بآية {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وخفي عليه أن أعظم عبادة الله ما يكون نفعها عائداً لمصالح عباده.
وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يَألَف ويُؤلَف، ولا خير فيمن لا يألَف ولا يُؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس» (رواه الضياء في الأحاديث المختارة عن جابر (حسن) انظر حديث رقم: [6662] في صحيح الجامع). ‌

قال الماوردي: "بيّن به أن الإنسان لا يصلح حاله إلا الألفة الجامعة، فإنه مقصود بالأذية، محسود بالنعمة، فإذا لم يكن ألفاً مألوفاً تختطفه أيدي حاسديه، وتحكم فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تصف له مدة وإذا كان ألفاً مألوفاً انتصر بالألف على أعاديه، وامتنع بهم من حساده، فسلمت نعمته منهم، وصفت مودته بينهم، وإن كان صفو الزمان كدراً ويسره عسراً وسلمه خطر، والعرب تقول من قل ذل" (فيض القدير [2/897]).

وقال أبو حاتم: "لا يجب على العاقل أن يكافئ الشر بمثله، وأن يتخذ اللعن والشتم على عدوه سلاحاً، إذ لا يستعان على العدو بمثل إصلاح العيوب وتحصين العورات حتى لا يجد العدو إليه سبيلا" (روضة العقلاء؛ لأبي حاتم بن حبان: مكتبة السنة المحمدية ص: [100]).

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، من تركه الناس اتقاء فحشه»[4] أي: لأجل قبح فعله وقوله، أو لأجل اتقاء فحشه أي مجاوزة الحد الشرعي قولاً أو فعلاً، وهذا أصل في ندب المداراة إذا ترتب عليها دفع ضر أو جلب نفع، بخلاف المداهنة فحرام مطلقاً إذ هي بذل الدين لصلاح الدنيا، والمداراة بذل الدنيا لصلاح دين أو دنيا، بنحو: رفق بجاهل في تعليم، وبفاسق في نهي عن منكر، وتركه إغلاظ وتألف ونحوها مطلوبة محبوبة إن ترتب عليها نفع، فإن لم يترتب عليها نفع بأن لم يتق شره بها كما هو معروف في بعض الأنام فلا تشرع، فما كل حال يعذر ولا كل ذنب يغفر، وقال بعضهم: أُخذ من هذا الخبر أن ملازمة الرجل الشر والفحش حتى يخشاه الناس اتقاء لشره من الكبائر (فيض القدير [1/356]).

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه»[5] أي: دواهيه جمع بائقة الداهية، وجاء في حديث تفسيرها بالشر وهو تفسير بالأعم، زاد في رواية، قالوا: وما بوائقه، قال: «شره»، وذلك لأنه إذا كان مضراً لجاره كان كاشفاً لعورته حريصاً على إنزال البوائق به دل حاله على فساد عقيدته ونفاق طويته، أو على امتهانه ما عظم اللّه حرمته وأكد وصلته، فإصراره على هذه الكبيرة مظنة حلول الكفر به فإن المعاصي بريده، ومن ختم له بالكفر لا يدخلها، أو هو في المستحل أو المراد الجنة المعدة لمن قام بحق جاره، قال ابن أبي جمرة: حفظ الجار من كمال الإيمان وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان بقدر الطاقة كهدية وسلام وطلاقة وجه وتفقد حال ومعاونة وغير ذلك، وكف أسباب الأذى الحسية والمعنوية عنه وتتفاوت مراتب ذلك بالنسبة للجار الصالح وغيره "(فيض القدير [2/457]).

[email protected]

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

(1) (رواه الترمذي؛ كتاب الفتن رقم: [2189]، وقال: "حديث حسن صحيح"، ورواه أحمد؛ باقي مسند المكثرين من الصحابة رقم: [8456]، ورواه القضاعي في مسند الشهاب [2/228] رقم: [1246]، وابن حبان: [2/285] رقم: [527]. والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع؛ انظر حديث رقم: [2603] في صحيح الجامع، وقال المناوي في فيض القدير [2/514]؛ قال الذهبي في المهذب: "سنده جيد وفي الباب أنس وغيره". ‌وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [2/541]: "رواه أحمد بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح"، والحديث رواه أيضاً أبو يعلى في مسنده عن أنس [7/16] رقم: [3910]، وابن أبي شيبة في مصنفه: [7/91] عن سعيد المقبري رقم: [34430]).

[2] (رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما (صحيح) انظر حديث رقم: [3287] في صحيح الجامع).

[3] (رواه القضاعي في مسند الشهاب عن جابر رضي الله عنه (حسن) انظر حديث رقم: [3289]؛ في صحيح الجامع).

[4] (رواه أبو داود والترمذي عن عائشة (صحيح) انظر حديث رقم: [2095] في صحيح الجامع).

[5] (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ كتاب الإيمان رقم: [66]).

 

المصدر: صيد الفوائد

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 7
  • 0
  • 36,873
  • waalibya

      منذ
    بارك الله لك في علمك.

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً