عام الحزن.. عام الفرج
رغم كل المؤامرات المتوالية التي يحبكها أعداء الإسلام ضد الدعوة والدعاة في كثير من البلدان والإساءة إليهم بالاتهامات الباطلة من دعوى الإرهاب والتطرف بمناسبة وبغير مناسبة، محاولة منهم لإجهاض الدعوة والإساءة للدعاة، وهيهات أن ينجحوا مادام الدعاة مستمسكين بالوحيين وسائرين على سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم وليثقوا كل الثقة بنصر الله الذي لا يتأخر عن عباده الصالحين والخسارة والخزي لأعداء الدين.
مدخل :
بعد حادث تفجير الباص في تل أبيب قال كلينتون: "أدعو زعماء الشرق الأوسط والعالم إلى إدانة هذا العمل، والتأكد من أن الفاعلين لن يحصلوا على الملجأ أو الدعم" (الخميس 15/5/1415هـ)، وقال أيضًا: "سنحمي السلام ونحارب أعداءه" (الأربعاء 21/5/1415هـ) وقال وزير خارجيته: "علينا أن نعمل معًا على إقفال كل قنوات التمويل الخارجية العامة والخاصة للإرهاب والانتهاء بذلك من المنظمات الخارجية المرتبطة بالإرهابيين" (الثلاثاء 20/5/1415هـ).
- تداعى إلى فكري وأنا أقرأ الأخبار ثلاثة أحداث مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أقل من أربعة أشهر، كادت تعصف بهم وبالدعوة الإسلامية، وكانت في نظر المرجفين ومحدودي الرؤية، أحداث مؤذنة بنهاية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وانتصار معسكر قريش، على معسكر الإيمان.
- مات أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم ماتت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا كان أثر وفاتهما؟ قال ابن اسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب، بهلاك خديجة، وكانت له معينًا في دعوته إلى الإسلام. وبهُلك عمه أبي طالب، وكان له عضدًا وحرزًا في أمره، ومَنَعَة وناصرًا على قومه، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى مالم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابًا (1).
وقال ابن كثير: وعندي أن غالب ما روي من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلي...، وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقًا شديد حتى حال دونه أبو بكر الصديق، وكذلك عزم أبي جهل لعنه الله على أن يطأ على عنقه وهو يصلي فحيل بينه وبين ذلك، مما أشبه ذلك، كان بعد وفاة أبي طالب (2).
نعم لقد فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عضده وحاميه من قريش، فاجترأت عليه، وزادت في إيذائه؛ حتى روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب» (ضعفه الألباني) (3).
- وفقد صلى الله عليه وسلم أول من آمن به أعني من النساء، وسلوته وملاذه، وأم أولاده (خديجة رضي الله عنها). روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها وحرمني ولد غيرها» (4). وقال ابن اسحاق: وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئًا مما يكرهه، من ردٍ عليه، وتكذيبٍ له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها؟ إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى (5).
فعلًا: إنها أحداث تهز الكيان البشري، وتزلزل الأرض من تحت أقدام الضعفاء، أما من قوي إيمانه بالله ويقينه بوعده ونصره، فلا تزيده هذه الأحداث إلا تصميمًا وعزمًا على مواصلة الطريق.
- خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بعد أن أحس أنها لم تعد بيئة صالحة للدعوة خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام وإلى أن يكونوا أنصاره وحماته؛ وكان ذلك بعد وفاة خديجة بقليل فماذا كان جوابهم؟ لقد قابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم أسوأ مقابلة، وردوا عليه أقبح ردٍ، وعاملوه بما لم تعامله به قريش. لقد رفضوا الداعي صلى الله عليه وسلم والدعوة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه، وفراق دينه، حتى إنه لم يدخل مكة إلا بجوار المطعم بن عدي.
إذًا ما العمل؟ ذهب السند الداخلي؛ الذي كان يمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالراحة والطمأنينة، والمشاركة والمواساة، وهلك المدافع أمام قومه، الذي كان يوفر له مساحة يتحرك فيها لدعوة الناس وإبلاغ رسالة الله. وسُدَ أقرب منفذ للدعوة يمكن أن تنتقل إليه، وتنطلق منه... هل تنتهي الدعوة؟ هل يقف الداعية؟ هل كانت هذه الأحداث إيذانًا بانتصار الكفر؟ لا وكلا.
بل كانت علامة قرب انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، وفتح أبواب أكبر، وآفاق أوسع {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6] قد ضاقت مكة بالدعوة، ورفضت الطائف استقبالها، وأخذت بعض القبائل التي تأتي في الموسم تساوم عليها. لقد ضاقت الأرض، ففتحت السماء، لم تتأخر البشارة بهذا النصر كثيرًا ففي ذي القعدة من السنة العاشرة، يسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، فيؤم هناك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يعرج به إلى السماوات السبع.
يقول المباركفوري في بيان هذه البشارة: الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب، وأن الله سينقل هذا المنصب فعلًا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما. ولكن كيف تنتقل هذه القيادة، والرسول يطوف في جبال مكة مطرودًا بين الناس؟ هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى، وهي أن طورًا من هذه الدعوة الإسلامية قد أوشك إلى النهاية والتمام وسيبدأ طور آخر يختلف عن الأول في مجراه، ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديد إلى المشركين {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
وإضافة إلى هذه الآيات آيات أخرى تبين للمسلمين قواعد الحضارة وبنودها ومبادئها التي ينبني عليها مجتمعهم الإسلامي، كأنهم آووا إلى الأرض وتملكوا فيها أمورهم من جميع النواحي، وكونوا وحدة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع، ففيها إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجد ملجأ ومأمنًا يستقر فيه أمره، ويصير مركزًا لبث دعوته إلى أرجاء الدنيا (6).
ثم لم يتأخر النصر الموعود، فبعد ثلاث سنوات فقط، من تلك الأحداث المحزنة؛ التي بلغت قمتها بالمؤامرة الدنيئة لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ولد الفجر وظهرت تباشير النصر، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة ليؤسس هناك دولة الإسلام، ويعلن انتصار الإيمان، وهزيمة الكفر {وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]. إن أحداث عام الحزن بما فيها من ألم ومرارة، تغرس في قلوب الأتباع روح التفاؤل والإيمان، والتطلع إلى غدٍ مشرق، وقطع العلائق بالخلائق، والالتجاء إلى رب الأرض والسماء، والاعتماد عليه وحده. {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]. ولا شك أن في السيرة النبوية سلوى لكل الدعاة حيال ما قد يتعرضون له من مشاق واضطهاد ومضايقات فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
وأخيرًا: ورغم كل المؤامرات المتوالية التي يحبكها أعداء الإسلام ضد الدعوة والدعاة في كثير من البلدان والإساءة إليهم بالاتهامات الباطلة من دعوى الإرهاب والتطرف بمناسبة وبغير مناسبة، محاولة منهم لإجهاض الدعوة والإساءة للدعاة، وهيهات أن ينجحوا مادام الدعاة مستمسكين بالوحيين وسائرين على سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم وليثقوا كل الثقة بنصر الله الذي لا يتأخر عن عباده الصالحين والخسارة والخزي لأعداء الدين، فإلى الأمام بعزم لا يلين {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200]. اللهم أرزقنا حب نبيك صلى الله عليه وسلم وحسن الاقتداء به والفهم عنه.
(1) سيرة ابن هشام: 2/442- ط دار الشكر.
(2) البداية والنهاية: 3/165- ط دار إحياء التراث العربي.
(3) ابن هشام: 2/442 مرسلًا عن عروة بن الزبير.
(4) مسند أحمد: 6/118 والاستيعاب لابن عبد البر : 4/278 279 بهامش الإصابات.
(5) ابن هشام: 1/258.
(6) الرحيق المختوم: 167.
محمد بن عبد الله الأحمد
- التصنيف: