قطعة من سماء.. تحكي ما رأته!

منذ 2013-11-06

هذه اللوحة التي تشهد الآن آلام أمتنا، واشتداد الابتلاء بنا، وثبات الصادقين، وافتتان الكثيرين، وصمود البعض، وانهزام البعض.. تشهد حلما تائها بالرغم من أنه معروف المعالم ومستقيم الخطى.. إلا أن خطاه قد اختفت معالمها تحت سير قطيع من الوحوش السود فوق طريقه المنشود. كانت هي نفس اللوحة التي يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى السماء أثناء هجرته إلى المدينة في رحلة مقدسة تقص منهاج حياة يتلخص في مسيرة سفر!

 

في نفس هذا المكان من الكون.. تحت هذه القطعة من السماء، وتحت نفس النجوم التي نراها.. هي أنجم معدودة لمن أطلق نظره في السماء تبدو وكأنها منحوتة باللؤلؤ على خلفية لون أزرق بديع..

هذه اللوحة التي تشهد الآن آلام أمتنا، واشتداد الابتلاء بنا، وثبات الصادقين، وافتتان الكثيرين، وصمود البعض، وانهزام البعض.. تشهد حلما تائها بالرغم من أنه معروف المعالم ومستقيم الخطى.. إلا أن خطاه قد اختفت معالمها تحت سير قطيع من الوحوش السود فوق طريقه المنشود.

كانت هي نفس اللوحة التي يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى السماء أثناء هجرته إلى المدينة في رحلة مقدسة تقص منهاج حياة يتلخص في مسيرة سفر! اتهمه الجميع بالجنون والسحر والكذب، وطعنوا فيه غلاظا بسبابهم واتهاماتهم.. إلى أن جاء أمر ربه بالرحيل، ليخرج ذلك الإنسان مستقوٍ بربه، برفقته صديق وفي.. يهاجران بدينهما فقط.. ويتركان كل ما لديهما من متاع الدنيا.. وأحب البلاد إلى قلوبهما.. لا يلويان على شيء من متاع الحياة.. متجهين إلى الأرض التي سينتشر فيها الحق وسيقوى، ويبني رجاله وأفكاره ومنهاجه ليعود ويسترد أرضه وحقه، ويسود العالم.

أثناء ذلك السير.. لم يكن هناك مؤهلات ولا مقومات تُصبر صدور المؤمنين على النصر، سوى اليقين بالله سبحانه والثقة به، حيث أظلمت الدروب، وتلاشت السبل. كان السير من حالة الضعف إلى القوة والانتصار عن طريق ممر الابتلاء، الذي لا يتجاوزه إلا ذوو العزيمة والصمود، الثابتون في وجه الفتن والشدائد، والباكون في وجه الأرض سجودا ودعاء.

تلك اللوحة الشاهدة علينا الآن بمن اشتد به البلاء، وظن بأن الأرض قد ضاقت، وظن ألا ملجأ ولا منجا، واستبعد النصر، ودب الإحباط في ثنايا قلبه، هي من شهدت في تلك اللحظات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر في الغار، بلا درع ولا سيف، بلا حام ولا حارس، والمشركون على اعتاب الغار بالقوة والسيوف والعتاد.

والعنكبوت في صمت ينفذ أمر خالقه (1).. ليغلق عليهم أوهن الدروع ويبني بيته الضعيف -من النظرة البشرية-، إلا أنه بعد مرور الزمان نحكي قصة درع من أقوى الدروع في البشرية حيث أنه نُسج بأمر من الخالق وحده، (وأيده بجنود لم تروها)؛ إذ يقول له أبو بكر: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، ويرد النبي: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" (2).

هذي مواقف السابقين الصالحين نعيشها لأول مرة بمذاق مختلف، بإحساس كامل واستيعاب مكتملة أجزاؤه التي كنا نفقد الكثير من معانيها. إنها قصة الصمود والثقة والتوكل، تتوارثها أمة بعد أمة، بقلوب صالحة من الرجال وأحداث مختلفة لاختلاف الزمان.

عن النصر الذي يأتي في أشد البلاء أتحدث، ربما لا نشعر بقدومه، وبالرغم من أنه يحل علينا ضيفا كنعمة من الله، إلا أن القليل هو من يستشعره، ويستنشق عبيره المختلط بغبار الكفاح..

عن معاني القرآن التي أصبحنا نكتب لها الآن تفسيرا بدموعنا مختلطة بعرق التجربة، وآياته التي وكأنها تنزل علينا مباشرة من السماء، وكأن الفوارق الزمنية قد تلاشت، وتشابه اليوم بالبارحة.

في مثل ذلك اليوم صعدت دعوات من قلوب رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، اخترقت عنان السماء فأصابت فاستجيب لها، تلك القطعة من السماء التي مر منها دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم المستجاب، يالها من لوحة إذا تأملنا معانيها. إن كانت السماء شاهدة على هجرة ماضية، فإنها تشهد اليوم هجرات عديدة من الفهم الخاطئ، ومن الشهوات، والمتاع الزائل، هجرة من الفكر الغربي المفترش في العقول، هجرة إلى الغاية السامية التي سار نحوها الكثيرون متوكلين.. داعين
إن طريق الدعوة ليس طريق سفر بين مكة والمدينة فحسب- إذ «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» (متفق عليه)، ولا هو فقط طريق جيش في غزوة، إنما هو طريق معنوي واحد على مر الزمان، قد تختلف صوره وأشكاله المادية، إلا أن الثابت أنه محفوف بالمكاره والأذي، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

هناك عامل منسي من مقويات السير في ذلك الطريق، وكأنما تقصه علينا قطعة السماء الشاهدة.. ألا وهو الحب في الله؛ قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (3). إن هذا الحب الذي تخضبت به القلوب هو الذي أسال دموع أبي بكر فرحاً بصحبته صلى الله عليه وسلم، هو الذي أمد أبا بكر بالقوة الروحية يقاوم السم وهو يسري في جسده وبنانه عند لدغته في الغار (4).. وصديقه وحبيبه ينام على رجله بمثل ذلك الوقت!

هذا الحب هو ما تشهده السماء الآن على الفئة الصامدة، هو المحمل الذي يحملون عليه همومهم، والخيمة التي ينصبونها عكس اتجاه الريح فلا تتأثر وتظل تحوى خفايا القلوب.

إن المقارنة بين المشهدين لتفيض منها الدموع، وتقشعر منها الأبدان، فالابتلاء واحد والأزمنة تختلف.. وإن المشهدين على الجانب الآخر يقصان واقعا أليما. إن المشهد القديم يحكي قصة مثالية للشباب المسلم، قبل أن يفتح الستار على اليوم فتكون الصدمة في جيل لا يعي القضية منه إلا قليل، ولا يحمل هم الأمه فيه إلا معدودون!

تحت هذه القطعة من السماء منذ سنين كانت أمة حية، واليوم أمة يسري الموت إلى قلوب أبنائها، القليل من الأحياء الباقين على العهد الذين هم نصب أعين الظالمين إرادة للفتك بهم، فإما محو أذهانهم، وإما محوهم من الوجود!! فهل لهم أن يهاجروا إلى الله ورسوله، وهل لقصة الهجرة أن تتحقق اليوم بمعان شاهدة بكل وضوح؟!

-----------------------------------

(1) حديث قصة نسج العنكبوت، رواها أحمد في المسند وعبد الرزاق في المصنف وصححها الحافظ ابن حجر والحافظ ابن كثير، وضعفها الألباني وغيره.
(2) متفق عليه.
(3) أخرجه البخاري.
(4) قصة اللدغ ذكرها أهل السير والتراجم: وممن ذكرها الخطيب في مشكاة المصابيح في باب مناقب أبي بكر رضي الله عنه، وذكرها الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء، لكن ضعفها بعض العلماء.
 

 

هشام خالد

 

  • 1
  • 0
  • 1,637

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً