لا تخيفوا أنفسكم بعد أمْنها

منذ 2006-08-07

عبد الله بن سليمان الحبيشي

إن الحمد لله نحمده، و نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

 

ثبت في مسند الإمام أحمد رحمه الله من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه؛ «أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تُخيفوا أنفسكم بعد أمنها)، قالوا : وما ذاك يارسول الله ؟ قال: (الدَّين)».

 

ولنا مع هذه الموعظة النبوية وقفات :

الوقفة الأولى : الاقتراض في أصله جائز باتفاق أهل العلم ، فقد اقترض النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين.

 

الوقفة الثانية : الإقراض مستحب وفيه أجر عظيم كما ثبت في صحيح مسلم «عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : (من نفّس عن أخيه كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)». قال الإمام الشوكاني رحمه الله : وفي فضيلة القرض أحاديث ، وعمومات الأدلة القرآنية والحديثية القاضية بفضل المعاونة وقضاء حاجة المسلم وتفريج كربته وسد فاقته شاملة له ولا خلاف بين المسلمين في مشروعيته.

 

الوقفة الثالثة : ينبغي للمسلم أن يحذر من الدين ، إلا إذا احتاج إليه، وما التوسع في أمر الدين هذه الأيام إلا إخافة للنفس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله كان يدعو في الصلاة: (…اللهم أني أعوذ بك من المغرم والمأثم)، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف)».

 

فينبغي للمسلم أن يحذر من الدين، كيف لا يحذر وقد «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تُكفر خطاياي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف قلت ؟) قال:أرأيت إن قتلت في سبيل الله تُكفر خطاياي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، إلا الدَّيْن، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك)» أخرجه مسلم.

 

وفي جامع الترمذي بسند صحيح «عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من فارق الروحُ الجسدَ وهو برئ من ثلاث دخل الجنة من الكبر، والغلول، والدَّيْن)».

 

روى النسائي في سننه بسند حسن، «عن محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً حيث توضع الجنائز فرفع رأسه قِبَلَ السماء، ثم خفض بصره، فوضع يده على جبهته. فقال: (سبحان الله ! سبحان الله ما أنزل من التشديد) قال : ففرقنا وسكتنا؛ حتى إذا كان الغد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما التشديد الذي أنزل؟قال : (في الدَّيْن، والذي نفسي بيده لو قتل رجل في سبيل الله ثم عاش، ثم قتل ثم عاش، ثم قتل وعليه دين ما أدخل الجنة حتى يُقضى دينه)».

 

الوقفة الرابعة : التساهل في أمر الدين وعدم اهتمام المقترض بأداء ما عليه من الدين أمر محرم، بل كبيرة من كبائر الذنوب، وقد ثبت الوعيد على ذلك في أحاديث منها :

1 ـ الدعاء على من ماطل في قضاء الدين بأن يتلفه الله ، «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)» رواه البخاري في صحيحه .

 

وقد اختلف أهل العلم في معنى هذا الحديث فقال بعضهم هو دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم هو خبر. قال الحافظ محمد ابن مفلح: وأيّما كان، حصل المقصود لأن هذا الخبر صدق وحق.

 

قال الصنعاني رحمه الله:قوله (أتلفه الله) الظاهر إتلاف الشخص نفسه في الدنيا بإهلاكه، وهو يشمل ذلك، ويشمل إتلاف طيّب عيشه، وتضييق أموره، وتعسّر مطالبه، ومحق بركته، ويحتمل إتلافه في الآخرة بتعذيبه.

 

2ـ المماطل في قضاء الدين يلقى الله يوم القيامة سارقاً، «عن صهيب الخير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيّما رجل تداين ديناً وهو مجمع أن لا يوفيه إياه، لقي الله سارقاً)» رواه ابن ماجه في سننه وحسنه البوصيري والألباني .

 

وروى الطبراني بسند صححه الشيخ الألباني «عن ميمون الكردي عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وأيّما رجل استدان ديناً لا يريد أن يُؤدى إلى صاحبه حقَّه خدعة حتى أخذ ماله، فمات ولم يؤدَّ إليه دينه، لقي الله وهو سارق) ».

 

3- الدين يحبس صاحبه عن دخول الجنة، روى أحمد والترمذي وابن ماجه بسند صحيح «عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (نفس المؤمن معلقة بدَيْنه حتى يقضى عنه)». قال الإمام السندي رحمه الله : قوله ( معلقة ) أي : محبوسة عن الدخول في الجنة .

 

وروى أبو داود في سننه بسند حسن « عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (هاهنا أحد من بني فلان)، فلم يجبه أحد، ثم قال : (هاهنا أحد من بني فلان)، فلم يجبه أحد، ثم قال: (هاهنا أحد من بني فلان)، فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: (ما منعك أن تجيبني في المرتين الأوليين، أما إني لم أنوه بكم إلا خيراً، إن صاحبكم مأسور بدينه)».

وفي رواية الحاكم «إن صاحبكم حُبس على باب الجنة بدين كان عليه» .

 

 

الوقفة الخامسة : يجب على المدين الاهتمام بقضاء الدين وردَّه إلى صاحبه من غير مماطلة، ولا تأخير حينما يقدر على الوفاء لقوله تعإلى: {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلاَّ الأِحْسَان} [الرحمن:60]، وأن ينوي قضاء الدين متى ما تيسر له ذلك، «عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد كانت له نية في أداء دينه؛ إلا كان له من الله عون)».

 

وكذلك يجب عليه أن يجتهد في فعل الأسباب المعينة على إبراء ذمته من الدين وردّ الحقوق إلى أصحابها .روى أحمد في مسنده بسند صحيح «عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حمل من أمتي ديناً ؛ ثم جهد في قضائه ؛ ثم مات قبل أن يقضيه ؛ فأنا وليه)». وفي الصحيح: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه »، «وعن ميمونة مرفوعاً: (ما من أحد يدان ديناً يعلم الله أنه يريد قضاءه إلا أداه الله عنه في الدنيا)». رواه النسائي وابن ماجه.

 

الوقفة السادسة : اعلم - أخي يا رعاك الله - أن عون الله عز وجل للمدين مقيد فيما إذا كان الدين من أجل مؤذن به شرعاً مما أباحه الله عز وجل لحديث ابن ماجه «عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الله مع الدائن حتى يقضي دينه ، ما لم يكن فيما يكرهه الله)».

 

الوقفة السابعة : للدين أحكاماً يجب على المسلم أن يتعلمها منها:

1. يشترط لصحة القرض أن يكون المقرض ممن يصح تبرعه، فلا يجوز لولي اليتيم مثلاً أن يقرض من مال اليتيم.

2. يشترط معرفة المال المدفوع في القرض، ومعرفة صفته، ليتمكن من ردّه إلى صاحبه بعد ذلك.

3. يحرم على المقرض أن يشترط على المقترض زيادة في القرض، وقد أجمع العلماء على أنه إذا شرط عليه زيادة فأخذها فهو ربا. وما تفعله البنوك اليوم من الإقراض بالفائدة رباً صريح، سواء كان قرضاً استهلاكياً أو إنمائياً كما يسمّونه، فلا يجوز للمقرض سواء كان بنكاً، فرداً، أو شركة، أن يأخذ زيادة في القرض مشترطة بأي اسم سمَّي هذه الزيادة.

4. إذا كان الدين مؤجلاً، فهذا لا يطالب المدين بالدين حتى يحل الأجل، ولا يلزم المدين أداؤه قبل حلوله.

5. ومن أحكام الدين وجوب إنظار المعسر ، لقوله تعإلى: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]،أي إمهاله حتى يوسر، ولا يجوز مطالبته بالدين مادام معسراً.

6. ومن أحكام الدَّيْن استحباب كتابة الدين المؤجل والإشهاد عليه، لقوله تعإلى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282].

 

والله تعإلى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .

المصدر: صيد الفوائد
  • 1
  • 0
  • 15,463

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً