معالم في الدعوة والتربية والمنهج من حديث جابر
يعدُّ حديث جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنهما، من الأصول في كتاب الحج، فعبد الله بن حرام صحابي جليل نقيب بدري له مناقب وفضائل مشهورة، وابنه جابر بايع تحت الشجرة، وشهد العقبة، والمشاهد كلها سوى بدر وأحد، فقد كان يخلف أباه في شؤون أهله، وكانت له أخوات.
يعدُّ حديث جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنهما، من الأصول في كتاب الحج، فعبد الله بن حرام صحابي جليل نقيب بدري له مناقب وفضائل مشهورة، وابنه جابر بايع تحت الشجرة، وشهد العقبة، والمشاهد كلها سوى بدر وأحد، فقد كان يخلف أباه في شؤون أهله، وكانت له أخوات.
قال الذهبي في ترجمته: "الإِمَامُ الكَبِيْرُ، المُجْتَهِدُ، الحَافِظُ، صَاحِبُ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبُو عَبْدِ اللهِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيُّ، الخَزْرَجِيُّ، السَّلِمِيُّ[1]، المَدَنِيُّ، الفَقِيْهُ. مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرُّضْوَانِ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ شَهِدَ لَيْلَةَ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ" (سير أعلام النبلاء: [3/189]).
وقال: "وَكَانَ مُفْتِي المَدِيْنَةِ فِي زَمَانِهِ، عَاشَ بَعْدَ ابْنِ عُمَرَ أَعْوَاماً، وَتَفَرَّدَ، وَشَاخَ، وَذَهَبَ بَصَرُهُ، وَقَارَبَ التِّسْعِيْنَ" (سير أعلام النبلاء: [3/190]).
والمقصود نحن مع حديث يرويه إمام في الضبط والفهم والفقه والديانة، وهو حديث دال على ضبطه ودقته، فسياقه الحسن الطويل، وتخريجه في أصح الكتب، واحتجاج الناس به على من خالفه؛ كل ذلك يدل على إمامة راويه وتقدمه رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الحديث له مكانة عند أهل العلم اعتنوا به قديماً وحديثاً، قال الإمام النووي: "حديث جابر رضي الله عنه -وهو حديث عظيم- مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد، وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا. وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءاً كبيراً، وخرَّج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً، ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه" (شرح النووي على مسلم: [8/170]).
ولا يزال الناس يكتبون في حديث جابر ويؤلفون المؤلفات النافعة في شرحه، وفقه أحكامه. والمقام لا يتسع للحديث عما تضمنه هذا الحديث من الفقه، وقصدي ههنا الوقوف مع فوائد ومعالم تضمنها في المنهج والتربية والآداب، أعرضها باقتضاب، فمن ذلك:
أولاً:
الحديث يرويه عن جابر رضي الله عنه محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب أبو جعفر المعروف بالباقر الإمام الخامس عند الاثني عشرية، والراوي عنه ابنه جعفر الصادق الإمام السادس عند الاثني عشرية، وقد افترت عليهما الرافضة وكذبت كثيراً حتى قال بعض أهل العلم في الباقر: "ليس يروي عنه من يحتج به" (قاله ابن سعد في الطبقات: [5/323]).
"وهذا خرج مخرج الغالب، وإلا فمثل هذه الرواية المثبتة في الصحيح حجة بإجماع أهل السنة، والمقصود أن أبا جعفر الباقر، وابنه جعفر الصادق؛ كانا إمامي هدى، يتولان الصحابة ويحبانهم، استفادا من علمهم، وطلبا السنة عند أكابرهم، لكن الأفّاكون -قاتلهم الله- افتروا عليهما، فلا يجوز أن نطعن في الباقر أو الصادق رحمهما الله، بل علينا أن نتولاهما، وأن نعلم أنه كُذب عليهما. ومما ينبغي أن نعلمه أنهما كانا يجلان أبا بكر وعمر، قال محمد بن فضيل بن غزوان، عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر محمداً بن علي وجعفر بن محمد عن أبي بكر وعمر، فقالا لي: يا سالم تولهما وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى" (أخرجه أحمد في فضائل الصحابة: [1/175] [176] بإسناد حسن، ورواته شيعة! والآجري في الشريعة [5/2225] [1708]، والدارقطني في فضائل الصحابة ص: [33] [24]، وغيرهم).
وقال إسحاق بن يوسف الأزرق عن بسام الصيرفي: "سألت أبا جعفر، قلت: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فقال: والله إني لأتولاهما وأستغفر لهما، وما أدركت أحداً من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما" (أخرجه الدارقطني في فضائل الصحابة ص: [37]، بإسناد جيد).
وقال أبو نعيم عن عيسى بن دينار المؤذن: "سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر، فقال: مسلمان رحمهما الله. فقلت له: أتولاهما وأستغفر لهما؟ قال: نعم. قلت: أتأمرني بذلك؟ قال: نعم -ثلاثاً-، فما أصابك منهما فعلى عاتقي! وقال بيده على عاتقيه، وقال: كان بالكوفة عليٌّ خمس سنين، فما قال لهما إلا خيراً، ولا قال لهما أبي إلا خيراً، ولا أقول إلا خيراً" (أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق: [54/288]، وسنده جيد).
والآثار عنهم في هذا المعنى محفوظة.
ثانياً:
في قول محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: "دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم، حتى انتهى إليَّ، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي، وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحباً بك يا ابن أخي، سل عما شئت.." الحديث؛ ردٌّ على الرافضة من وجوه عدة، منها:
• استفادة الباقر رحمه الله العلم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• ومنها أن الأئمة لا يعلمون الغيب، فإذا كان عالماً للغيب ما احتاج لأن يسأل جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
• ومنها أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الذي كان يجله الباقر رحمه الله، كان يجل الصحابة ويروي الأحاديث في فضائلهم، لا سيما أبي بكر وعمر، فمن ذلك حديثه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: « »، فَقَالَ عُمَرُ بِأُمِّي وَأَبِي يَا رَسُولَ اللهِ أَعَلَيْكَ أَغَارُ، وهو في البخاري (صحيح البخاري: [3476]، وصحيح مسلم: [2394]).
ولجابر أحاديث كثيرة يرويها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، بل روى محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله، قال: مشيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة من الأنصار، فذبحت لنا شاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »، فدخل أبو بكر، فقال: « »، فدخل عمر، فقال: « »، فقال: « »، فدخل عليٌّ، الحديث في مسند أحمد[2]، وحسنه جمع من أهل العلم.
• ومنها أن جابراً نقل خيراً عن ذلك الجيل، فقد ذكر العدد العظيم الذي حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيّن حرصهم على الائتمام به، وعملهم بما عمل به صلى الله عليه وسلم، والرافضة لا تعتقد ذلك في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً:
يظهر في الحديث بجلاء حرص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والجيل الأول من التابعين على الخير وتعلم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والائتمام به رجالاً ونساء، ومن ذلك:
• مجيء أبي جعفر الباقر رحمه الله وحرصه على السؤال مع صغر سنه: "وأنا يومئذ غلام شاب"، يعني صغير، وقد كان مولده رحمه الله سنة 56ه، ووفاة جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كانت بعد السبعين على قول، وقيل قبلها، وقد أضرَّ بآخر عمره، فالظاهر أن هذا الحديث يرويه والباقر عمره نحو 15 سنة أو قريباً منها.
• ومن ذلك ضبط جابر رضي الله عنه خبر الحج، وسياقه هذا السياق الحسن بعد أكثر من ستين سنة.
• قوله فيه: "فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله"، جاءوا من الأصقاع والبلدان ليأتموا ويتعلموا ويعملوا، وهذا يدلنا على شيء من أجواء ذلك الجيل العلمية والإيمانية.
• قوله فيه: "فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس، محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال: « »، وهذا أمر عجب والله! فذو الحليفة قريب جداً من المدينة، وهذا يدل على أن أسماء رضي الله عنها كانت تشعر بالطلق وآلام المخاض، ومع ذلك بلغ من حرصها رضي الله عنها على تلك الحجة أن خرجت في تلك الحال، ثم لما نفست وذلك قبل أن تحرم، ما فكرت في الرجوع! فلا إله إلا الله أين نساء المؤمنين من تلك صويحبات تلك العزمات.
• قوله: "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكبٍ وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به"، فانظر إلى هذا الجم الغفير، كيف يرمق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعمل بعمله، "ما عمل به من شيء عملنا به"، ما كانوا يتساءلون: واجب هو؟ لا! يكفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمله ليحرصوا على العمل به.
• حرصهم على السؤال عما أشكل عليهم، ومن ذلك:
- سؤال سراقة بن جعشم في الحديث لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ». فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا، أم لأبد؟ فشبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه، واحدة في الأخرى، وقال: « ».
- سؤال علي رضي الله عنه عما صنعته فاطمة رضي الله عنها لما حلّت ولبست الصبيغ من الثياب: "فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت، مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه".
إلى غير ذلك مما يدل على حرصهم على الخير والعلم والعمل.. ففرق بين حج هؤلاء وحج أناس يبحثون عن الرخص ويتتبّعونها، وربما لووا أعناق النصوص ليركبوها! أما أولئك فالأصل عندهم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأجل ذلك خرجوا، وما عمل به عملوا، ثم وقعت لأفراد منهم عوارض وجد فيها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصة، فالواجب أن نربي الناس على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بسنته، وندعوهم لذلك، لا أن نجتهد في إعلان مخالفة السنة بالرخصة، أما من وقعت منه المخالفة جهلاً أو نسياناً أو لعذر فهذا له في الرخصة مندوحة.
رابعاً:
يحسن بالمرء أن يتعرف على الضيفان إن كان فيهم من لا يعرفهم حتى ينزلهم منازلهم وأن يرحب بهم، وفي أثر جابر قول الراوي: "دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَ عَنْ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ فَقُلْتُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الْأَعْلَى ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الْأَسْفَلَ ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ فَقَالَ مَرْحَباً بِكَ يَا ابْنَ أَخِي سَلْ عَمَّا شِئْتَ".
وترحيبه بجعفر رحمه الله جاء بوصف بنوته لأخيه، يريد والله أعلم علياً رضي الله عنه، وهذا أقرب من إرادته جده الحسين، وهو محتمل، لكن جابر رضي الله عنه يقارب علياً رضي الله عنه في السن، أما الحسين فقد ولد في السنة الرابعة من الهجرة، فالفرق في السن بينه وبين جابر رضي الله عنهما كبير. والمقصود أن سبب الإكرام محل أخي جابر رضي الله عنه من جابر، كما هو ظاهر لفظه، وأخوه عليٌّ رضي الله عنه شَرُف بدينه ومحله الرفيع فيه ثم بنسبه، وشرفه بالدين أفضل، فهذا هو الذي أبقى للأول -شرف النسب- حكمه.
وعوداً إلى المقصود من الوقفة فالتعرف على الزائرين مطلوب وله فوائد، لكن لا ينبغي أن يقال إن هذا مستحب بكل حال، ففي بعض الحالات ينبغي أن لا يطلب فيها ذلك، فإن جاء تبعاً فهو مما يحسن، ومن ذلك حالات ضيافة أو إكرام المنقطعين أو العابرين، فقد لا يناسب أن يتعرف المحسن على أشخاص من أحسن إليهم، إذ فيه تعريف له بمن منّ عليهم، وأنت تجد هذا المعنى في قول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ . إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ . فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:24-26]، وفي الآيات الأخرى: {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:69-70].
فعلى المزور أن يكون حصيفاً لبقاً يعرف متى يسأل ومتى يسكت عن السؤال.
خامساً:
من الإكرام الذي ينبغي إكرام من كان يمتّ بسبب أو نسب إلى من أحسن إليك، أو كان بينك وبينه ود، لا سيما إذا كان على هدي المحسن وطريقته، ولهذا اعتنى جابر رضي الله عنه بجعفر بن محمد، أما من لم يكن سالكاً على طريقة سلفه فليس شأنه كشأن هذا، بل كما قيل:
وكم من فتى كَزُّ اليدين مذممٌ *** وكان أبوه عصمة الناس في المحَلِ
وكز اليدين كناية عن البخل، كجعد اليدين.
وقال الآخر:
لئن فخرت بآباء ذوي حسب *** لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
"وقد أجمع العلماء على أن الرجل إن مات وليس له من القرباء إلا ابن كافر، فإرثه يكون للمسلمين بأخوة الإسلام، ولا يكون لولده لصلبه الذي هو كافر، والميراث دليل القرابة. فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النَّسَبِيَّةِ"(أضواء البيان: [3/47]).
فمن انتسب من المبتدعة إلى أصل شريف لم ينفعه ذلك مع مخالفته ما كان عليه سلفه، من انتصاره للشركيات والبدع والضلالات، وهل شرف الأصل المنتمى إليه إلا بخلال وخصال! فإن عدمت فيه لما كان له ذلك الشرف، فكذلك من انتسب، وإذا كان الأصل إنما شرف بالدين فكيف يشرف الفرع إذا ترك الدين؟ والأصل نفسه لو ترك الدين زاوله الشرف!
لعمرك ما الإنسان إلا بدينهِ *** فلا تدع التقوى اتكالاً على الحسب
فقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ *** ووضع الشركُ الشريفَ أبا لهب
ومن اللطائف أن هذا البيت ينسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه (انظر: الفقيه والمتفقه للخطيب: [2/246]).
وهكذا الناس من لدن آدم إخوة كلهم من ماء، ثم شرف بعضهم بما تميّز به من دونهم، وخمل ذكر آخرين، ثم قد ينبل في ذرية هؤلاء ما يشرف به من بعده، وينقطع الشرف عن آخرين.
سادساً:
حجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في السنة العاشرة من الهجرة لقوله في حديث جابر: "ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج"، وفي هذا إشارة إلى منهاج نبوي في ترتيب الأولويات. قد يقول قائل: لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة أو في السنة الثامنة أو في السنة السابعة مثلاً؟ أما قبل الثامنة فلأنه لا يمكن أن يحج إلا على شرط المشركين، فقد كانت مكة تحت أيدي المشركين، وقد ردوه عن العمرة إلا بشرطهم، فكيف بالحج؟!
وأما في السنة الثامنة بعد الفتح فقد كان مشتغلاً عليه الصلاة والسلام بالجهاد، فإنه لم يفرغ من ثقيف إلا في آخر ذي القعدة.
وأما في السنة التاسعة فقيل إنه لم يحج لأن هذا العام كان عام الوفود. فإن العرب كانوا ينتظرون فتح مكة، ولما فتحت مكة انتظروا أيضاً أن يدين من بقي من العرب في هوازن وثقيف ونحوهما، فلما أذعنت العرب صاروا يأتون أفواجاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فكان في المدينة ليلتقي هؤلاء الوفود يعلمهم دينهم عليه الصلاة والسلام.
وسبب آخر أنه في السنة التاسعة حج المشركون مع المسلمين، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حجه خالصاً للمسلمين، ولهذا أذن في التاسعة ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. هذا إذاً على القول بأن الحج فرض في التاسعة، وأما على القول بأنه فرض في العاشرة فلا إشكال.
سابعاً:
قوله: "فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ".
فَانظُر إلَى تَجرِيدِهِ التَّوحِيدِ مِن *** أسبَابِ كُلِّ الشِّركِ بِالرَّحمَنِ
والناس من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، يهلون به، تتنوع ألفاظهم في توحيد الله وتعظيمه، موكب مهيب وجمع عظيم اجتمع على التوحيد، ولله ما أعظمه من مشهد يبيّن سبيل الوحدة الإسلامية، ويوضح كيف كان على توحيد رب البرية، وإن اختلفت الألفاظ وتباينت العبارات، فذلك تنوع يدور حول مقصود واحد، فلا يضر ما تحقق التوحيد.
وفي مقابل هذا وبينما يهل النبي بالتوحيد ويهل أصحابه به، يهل اليوم من يزعم حبه بنحو إهلال المشركين الأوائل الذين كانوا يقولون: لبيك الله لبيك لبيك لا شريك لك لبيك.
وإلى هنا كان إهلالهم بالنسك صحيحاً، غير أنهم لا يقفون فيخلطون كلمة التوحيد بغيرها ويستثنون فيقولون: "إلا"، وقف عند هذا الاستثناء وتأمّل لتجد أن القوم كانوا يعبدون الله يحجون ويعجون ويثجون، يطوفون ويسعون ويقفون ويصلون ويزكون؛ كل ذلك لله، إلا أنهم يستثنون؛ "إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"، فهم يستثنون شريكاً يصرفون له شيئاً من العبادة -نذراً، دعاء، ذبحاً، وغيرها-، ويقرون بأنه مملوك لله؛ لا يعتقدون أن للشريك من الملك شيئاً، لكن ليقربهم حبهم له ودعاؤهم وذبحهم "وغيرها من أضرب عبادتهم له" إلى الله زلفى، كما قال الله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3].
واليوم يلبي بعض الحجيج ويهلون بالتوحيد ثم يخلطون ما خلطه الأوائل، فبعد أن يقول أحدهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلى أن يبح صوته، تسمعه في عرفات الله يقول بعدها ما حاصله: "إلا شريكاً هو لك"، فتراهم ينشدون الأناشيد التي يستغيثون فيها بعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم وبغيرهم، ويكررون لفظ النداء والاستغاثة خلالها، وفي ذلك انكسار لغير الله الواحد القهار!
وسلك طريقة هؤلاء قبورية تجد أحدهم في عرفات الله! ينادي:
فأغثنا يا من هو الغوث *** والغيث إذا أجهد الورى اللأواء!
وآخرين يرددون:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به *** سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم
وكما تنوعت ألفاظ الصحابة في الإهلال بالتوحيد، تنوعت ألفاظ هؤلاء في الاستثناء: "إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"! وهذا شأن خطير يجب أن يحذر المسلم منه ويحذر من يحب أشد التحذير، فقد قال الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وَإلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
فَلَيسَ عِندَهُمُ دينٌ وَلا نُسُكٌ *** فَلا تَغرَّكَ أَيدٍ تَحمِلُ السُبَحا
{إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء من الآية:92]، عقب بذكر التوحيد لما ذكر وحدة الأمة، ونحوه قوله سبحانه: {وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52]، فأسأل الله أن يجمعنا والمسلمين على كلمة التوحيد الخالص، وأن يؤلف بين قلوب الموحدين.
ثامناً:
مخالفة المشركين من هدي النبوة، وفي حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم لما توجه تلقاء عرفة مر بمزدلفة، قال جابر رضي الله عنه: "وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ"، ثم في خطبته بعرفة قال: « ».
وليست المخالفة مختصة بأهل الشرك، بل بالكفار، سواءً أكانوا مشركين أم يهوداً أم نصارى، وفي صحيح مسلم أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة من الآية:222]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ».
بلغ ذلك اليهود، فقالوا: "ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجد عليهما". الحديث أخرجه مسلم (صحيح مسلم: [302]).
فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود، بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه.
ومن ذيول مخالفة المشركين في حديث جابر عدم تمييز قوم عن قوم، فالحمس وغيرهم يُعَرِّفُون ويدفعون ويشتركون مع سائر أهل الأصقاع في المناسك والمشاعر، ولم يميز صلى الله عليه وسلم بين كبار الصحابة وغيرهم، بينما نجد مظاهر التمييز قد بدأت تعود، بعض الناس لهم قصور! والبعض يفترشون الطرقات وهو يوم واحد فقط، وهذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
والأمة اليوم تحتاج إلى أن يبعث فيها مبدأ التآخي فيما بينها، والمفاصلة لعدوها، وهذا لا ينافي المعاملة الحسنة مع من يستحقها مع معاداته في دينه.
تاسعاً:
قد يحصل لبس يجعل فاضلاً من الناس ينكر على فاضل أمراً يظنه منكراً بحسب مبلغه من العلم، وقد يتمادى في ذلك حتى يستبين له الحق، والواجب أن لا يحمل مثل هذا الخلاف أكبر من قدره، وليعلم أنه أمر طبعي يقع في كل جيل وكل مجتمع بل كل بيت، وفي أثر جابر رضي الله عنه قوله: "قَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَاباً صَبِيغاً وَاكْتَحَلَتْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: "إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا"، قَالَ: فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحَرِّشاً عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ مُسْتَفْتِياً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَ: « »"، وذلك أن علياً تقرر عنده أن المحرم واجب عليه أن يجتنب المحظورات، ولم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، بل يرونها من أبطل الباطل أو أفجر الفجور قبل الإسلام، فلما جاء علي ووجد فاطمة رضي الله عنهما قد وقعت فيما خاله محظورات إحرامٍ، أنكر عليها، فلما أخبرته بعذرها لم يقبله حتى استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك اتهاماً لها فيما قالت، لكن ليتحقق من دقة الفهم، وربما ليتأكد أنه ليس ثمة تورية ترضيه بها، وربما ليحصل العلم بالسند العالي.
والمقصود أن نحو هذا الخلاف ينبغي أن يأخذ حيزه، فلا يقال: كيف ينكر حقاً، ويكثر من التثريب والتأنيب على هذا، وذلك أنه قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، فمن كان مجتهداً في إنكاره مستفرغاً لوسعه عاملاً لما فهمه أو بلغه من الشريعة إنما يريد الإحسان؛ فإن رأيته قد أخطأ فأرشده بالتي هي أحسن.
عاشراً:
في هذه الحجة فوائد كثيرة تتعلق بمنهاج النبوة في الدعوة إلى الله تعالى، منها ما يتعلق بموضوعها، ومنها ما يلمح إلى طرائق وأساليب وقواعد إدارية في العمل الدعوي. أما الموضوعات فبادية في جميع خطبه التي ألقاها في هذه الحجة، ومن أبرزها خطبة حجة الوداع، وقد تناولها العلماء قديماً وحديثاً بالشرح والتبيين، ولو لم يرد فيها إلا قوله صلى الله عليه وسلم: « »؛ لكفى به نبراساً. وأما الطرائق والأساليب والقواعد فكاستثماره صلى الله عليه وسلم لذلك الجمع، فخطب يوم عرفة، ويوم النحر، وذكر بالأصول والقواعد والفروع التي يحتاج إليها الناس، وفي هذا إشارة إلى أنه على طلاب العلم أن يستثمروا موسم الحج للتذكير بالأصول وما يحتاج إليه الناس من فروع.
ومن ذلك عندما قال صلى الله عليه وسلم: « »، بادر فقال: « »، ولما قال: « »، قال مباشرة: « »، وهكذا يكون القائد! في مقدمة الركب عندما يأمرهم أو ينهاهم، يبدأ بنفسه وأهل بيته، فيكون لكلامه الأثر العملي والنفسي، ومِن ثَمَّ يتسابق الناس للاقتداء به عن قناعة ورضا، وبهذا تستقيم الأمور وتنتظم. أما إذا رأى الناسُ قائدَهم يخالف فعلُه قولَه، فعندها يتفنن الناس في الاحتيال على مخالفة الأوامر والنواهي، وتحلّ الفوضى والاضطراب، ويقع الظلم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3].
لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك ينفع إن وعظت ويُقتدى *** بالقول منك وينفع التعليم
وختاماً، طال المقال والفوائد كثيرة، ومن ذلك ما جاء في خبر سراقة، وإرداف النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة، وبعده الفضل رضي الله عنهما، ثم قصة الفضل مع الظعن، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم مع بني عبد المطلب في شأن زمزم، إلى غير ذلك من مواقف تلك الحملة النبوية المباركة التي تستحق أن نقف معها، بيد أن المقام لا يسعفنا.
ــــــــ
المراجع:
[1] (السَّلِمي هكذا يضبطها أكثر أهل الحديث، وأما أهل اللغة فيضبطونها السَّلَمي، بفتح اللام، والنسبة لبني سَلِمة بطن من الخزرج، ووافق اللغويين في هذا الضبط بعض أهل الحديث كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب).
[2] (مسند أحمد: [3/387]، وانظر تخريجه في: [15162] من طبعة الرسالة).
- التصنيف: