عافية الدِّين وعِلَل التدين

منذ 2013-11-16

الدين نبراس الإنسان حياته، وهو هداية ونور، به يكون الناس على بينة من أمرهم، وعلى هدى وبصيرة في شتى مناشط حياتهم، إنه من عند الله تعالى العليم الخبير وهو محفوظ بحفظه.


الدين نبراس الإنسان حياته، وهو هداية ونور، به يكون الناس على بينة من أمرهم، وعلى هدى وبصيرة في شتى مناشط حياتهم، إنه من عند الله تعالى العليم الخبير وهو محفوظ بحفظه.

والتدين حالة إنسانية تطرأ على المرء وقد تلازمه حياته كله وقد ترافقه فترة من الزمن ثم تغيب أو تخفت، ويمكن أن تتوهج حسب توفق هذا المسلم في درجات صقل تدينه وتشذيبه مما يمكن أن يشوبه من شوائب وأخطاء تعلق به بسبب التأثير والتأثر في مجتمع اليوم، حيث التدافع أساس الحياة المدنية الراهنة.

والتدين بهذا يكون حالة بشرية لها ما لها وعليها ما عليها، فكان لزاماً التفريق بين الدين كنور وهداية صادقين أبداً، وبين التدين كنمط سلوكي قد تعتريه نواقص وقد تتخلله آفات تكبر وتصغر وفق شخصية الشخص المتدين، فهناك التدين المغشوش، والتدين المتشدد، والتدين المعكوس، والتدين السياسي، وكلها أصناف وعلل للتدين لا ينبغي بأي حال من الأحوال إسقاط تبعاتها السيئة على الدين كرسالة صافية نقية لا أخطاء ولا علل فيها.

في هذا السياق التمييزي والتعريفي، يقول الدكتور عبد المجيد النجار في دراسة له نشرها في أحد أعداد سلسلة (كتاب الأمة): "إن حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين؛ إذ الدين هو ذات التعاليم التي هي شرع إلهي، والتدين هو التشرع بتلك التعاليم، فهو كسب إنساني. وهذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضي إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكل منهما".

أخطاء متدينين:

أتذكر يوم كتبت مقالاً حول أخطاء بعض المتدينين وعِلَلَهم التي تلتصق بهم التصاق الجِلْد باللحم، فنبهني أحد الأصدقاء إلى أنني سأثير بذلك حفيظة فئة المتدينين، وما كتبت في ذلك المقال أشياء من خيالي أو اتهمت أحداً بما ليس فيه، ولكنني أبرزت صورة بعض المتدينين وأخطاءهم بغية الإصلاح لا غير، وأذكر أنني كتبت مستشهداً بحالة قد تكون واقعية حين يوجه أحد لصديقه "المتدين" عبارة من قبيل "اتق الله يا أخي... ما هكذا يجب أن تتصرّف"، فيحدث أن تنتفخ أوداج الشاب المتدين وتثور ثائرته ليس لشيء سوى لأنه لم يقبل نصيحة الطرف الثاني، وقد يصيح في وجهه: "كيف تقول لي اتق الله، وهل أذنبتُ أو ارتكبتُ جرماً حتى تخاطبني هكذا؟".

وأكدت في المقال ذاته أن عدم قبول النصيحة الصادقة من الغير ليس الخطأ الوحيد الذي يقع فيه الكثير من الإخوة الملتزمين والمتدينين، الحريصين على تطبيق شرع الله تعالى، والسير على سنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في حياتهم اليومية.

ولعل الكِبْر أحد أهم هذه العيوب والأخطاء، فبعض المتدينين لديهم تقدير زائف للذات، يشوبه أحياناً الشعور بازدراء الناس والترفع عليهم. وهو سلوك خطير يحاول من خلاله المتدين أن يظهر بصورة أعلى وأسمى أمام الآخرين، فيسعى جاهدا -قصد ذلك أم لم يقصده- إلى التعالي بالقول والفعل كي يترسخ الإحساس عند الغير بأن فلاناً شخص هام وليس عادياً، أو أن تدينه يجعله متسامياً على الناس، مترفعاً على سفاسف البشر.


وهو شعور ناتج عن نقص نفسي وخلل تربوي عند هؤلاء الملتزمين، وجهل فظيع بمآلات الكِبْر وعقوباته التي ذكرها القرآن الكريم في غير ما آية: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف من الآية:146]، و{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل من الآية:23]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه حبة خردل من كِبْر» (رواه مسلم).

التعصب للرأي وعِلَل أخرى:

وقد يقود هذا الكِبْر إلى عيب آخر لا يقل خطورة على التزام بعض المتدينين، ألا وهو: التعصب للرأي، فتجد متديناً يقوم بكل الفرائض والطاعات والنوافل الممكنة ويسبح الله صباح مساء، لكنه لا يحب أن يناقشه أحد في رأي له في مسألة معينة، وإن حدث وناقشتَه أو فندتَ رأيه بالحجة والدليل أقام عليك حد الجهل والتخلف ومعاداة الإسلام، كأن رأيه يُمثِّل الإسلام، أو كأنه الناطق الرسمي باسم الدين؛ وهو خطأ جسيم يقع فيه كثير من شبابنا الملتزم، واعين بذلك أو غير واعين. والتعصب للرأي يفسد العلاقات الاجتماعية بين الناس، ويظهر المتعصب لرأيه بمظهر المتطرف، قاصر الرؤية وضَيق الأفق.

ويعاني بعض الملتزمين أيضاً من نواقص أخرى، مثل: الجهل بفن التعامل مع الآخرين؛ أصدقاء وخصوم وجيران وجماعات ومؤسسات، حيث يعامل الملتزم غيره من الناس بنوع من الفظاظة والجفاء ويقابلهم بشيء من القسوة والبرودة، لإعطاء الانطباع بأنه متدين جداً، لا يعرف المزاح طريقاً إليه، ولا تعرف الابتسامة سبيلاً إلى شفتيه.


وينسى مثل هذا الملتزم بأن أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم كان يمزح ويروح عن نفسه، وكذلك صحابته الكرام، فقد روى البخاري: "بأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال".

أنه في المقابل قد تجد متديناً يتجاوز الحد في مزاحه وضحكه وقهقهاته، مما يفضي إلى قلة الهيبة أو تجرؤ الناس عليه والاستخفاف به، قال عمر رضي الله عنه: "من مزح استخف به"، أو تجده يتقرب أكثر من النساء ويضاحكهن دليلاً على تفتحه وتحرّره، وكي لا يقول الناس عنه: "متدين رجعي أو معقد". وهناك قائمة طويلة بأخطاء وعيوب بعض الملتزمين، منها: التقوقع على الذات والانكفاء على المحيط الخاص بمجتمع المتدينين دون الانفتاح على بقية شرائح المجتمع، وكذلك سوء الظن بالآخرين، وأحياناً الانفصام بين ما يؤمنون به من مبادئ وبين ما يمارسونه من سلوكيات في الواقع.

التدين المغشوش:

وإذا كانت هذه آفات فعلية يسقط فيها بعض المتدينين عن قصد أو عن غير وعي منهم، فإن عالم المقاصد المغربي الدكتور/ أحمد الريسوني في كثير من نظراته المتميزة واللطيفة حول ما أسماه التدين "المنحط" قد سمّى أصناف التدين بمسميات منها: التدين "المغشوش"، والتدين "المعكوس"، والتدين "المحروس"، ويمكن أن نضيف أنماطاً أخرى من التدين الذي لا يليق بالمتدين الذي يسير على هدى وبصيرة من الدين السوي الذي جاء ليحقق السعادة لبني الإنسان في الدارين معاً؛ مثل التدين السياسي، والتدين "المتشدد"، وغيرهما من العِلَل المتفشية كثيراً في سلوكيات بعض متدينينا.

ويقصد الريسوني بالتدين المغشوش: "الاعتناء بالظاهر مع إهمال الباطن، بمعنى أن المتدين يعتني في تدينه بتحسين الأعمال والصفات الظاهرة والمرئية والملموسة، ويحرص على الالتزام بأحكام الشرع وآدابه فيها، بينما لا يبالي بعكسها مما لا يراه الناس ولا يظهر للعيان".

ويعطي الفقيه المغربي المثال في مقال له حول التدين المنحط: "بمن يحافظ على الصلاة في أوقاتها وبهيئاتها وسننها بدرجة جيدة جداً، ولكن الاهتمام بباطن الصلاة، أي بحالة القلب وتعظيم الرب ونباهة العقل وخشوع النفس، شيء منعدم أو كالمنعدم. وقد تجد المتدين مهذباً رقيقاً، عفيف اللسان حلو الخطاب، لا يسب ولا يشتم ولا يُغلظ القول...، ولكنه في مجالسه الخاصة الآمنة، يفعل كل ذلك وأكثر منه، ويسترسل في الغيبة والنميمة والتجريح، استرسال المستبيح المستريح!"؛ وهكذا، فالتدين الفاسد المغشوش كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يفسد البداهة ويمسخ الفطرة.

"المعكوس" و"المحروس":

أما التدين "المعكوس" فهو عند الريسوني: "ذلك التدين الذي يَقْلب أصحابُه مراتبَ الشرع وقيمه ومقاصده وأولوياته، فيتشددون ويبالغون فيما خففه الشرع، أو لم يطلبه أصلاً، ويهملون ويضيعون ما قدمه وعظمه. فتجد من الحرص والتزاحم على صلاة التراويح، وعلى تقبيل الحجر الأسود، ما لا تجده في فرائض الدين وأركانه. وتجد الإنفاق والإغداق في الولائم والضيافات والعمرة، مع تضييع فرائض الزكاة وحقوق الشركاء والأقارب والفقراء والمستخدمين...".

ويسرد العالم المغربي الأمثلة الجلية على هذا النوع من التدين، "بإبراز ما نجده حين نرى ما جاء به الإسلام من طهارة ونظافة ونقاوة، تتصدر أحكامُها وآدابها كافة كتب الفقه والشريعة، ثم ننظر في عالم المسلمين مغرباً ومشرقاً، فنرى حواضرنا ومدننا -بشوارعها وحدائقها وساحاتها وأسواقها- غارقة في الأوساخ والأوحال والأزبال. ويظل المسلمون يترددون على مساجدهم وصلواتهم، ويسمعون أئمتهم يقولون ويعيدون: سووا صفوفكم، استووا واعتدلوا، وإن الله لا ينظر إلى صف أعوج...، ولكن قلما تخلو صلاة من صف أعوج، وقلما ترى المسلمين عند الأبواب والشبابيك وغيرها من مواطن الازدحام، إلا في حالة فوضى وتدافع، يموج بعضهم في بعض ويدوس بعضهم نساء ورجالا".

وهذه الأمثلة التي أتى بها الريسوني واقعية موجودة في شوارعنا ومؤسساتنا وأحيائنا ومدننا وحواضرنا وبوادينا ومجتمعاتنا كلها -إلا من رحم الله-، وهو من التدين المعكوس الذي يستجيب لما هو سنة من الدين ويتحمس لما هو مستحب، ويهمل ما هو واجب وفرض، تماماً كمن يصر على صلاة التراويح كل رمضان في المسجد جماعة، ولكنه لا يصلي الصبح في وقته وقد تطلع عليه الشمس وهو نائم في سباته غارق في نعاسه.

ويكمل الفقيه المغربي نظراته الجميلة ذات الأبعاد العميقة حول تجليات التدين "المنحط" بالحديث عن تدين أسماه "محروساً"، وهو "التدين الذي لا يلتزم به أصحابه بواجباتهم، إلا بالمراقبة والمطالبة والملاحقة، ولو تُركوا لتَركوا. فهم ممن يصدق فيهم قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران من الآية:75].

ويقصد الريسوني المسلم المتدين الذي يبادر إلى أداء الصلاة وإيتاء الزكاة وإسدال اللحية أو من تحرص على الحجاب -وكل هذا شيء جميل- لكن في نفس الوقت يكون غير مؤد لحقوق الناس عليه أو يؤديها عن مضض وبعد كثير من المماطلة والتسويف. يقول الريسوني: "على سبيل المثال، فإن المقترض أو المستعير، الذي يرد العارية والقرض في أجله وبدون طلب، قد أصبح من نوادر الزمان، بين المسلمين من أهل القبلة والصيام والازدحام في التراويح... وأما (مذهب الجمهور)، فهو تناسي الدين والعارية، وعدمُ ردهما بالمرة، أو ردها، لكن بعد فوات الأجل، أو بعد ملاحقات وتوسلات وتسويفات".

التدين المتشدد و"المسيس":

وزيادة على ما سرده الدكتور/ الريسوني من أنماط وتجليات للتدين "المنحط" كما أسماه، يمكننا إضافة أصناف أخرى مما يندرج ضمن آفات التدين وعلله المستشرية في كثير من المتدينين في بلادنا الإسلامية، ولعل أبرزها وأشهرها التدين "المتشدد"، حيث يقوم المتدين بدور المحلل والمحرم والآمر والناهي، دون ضابط شرعي ولا دليل يقوم عليه موقفه وردة فعله، ويضفي على ما يقوم له بعض التعصب والنرفزة وربما شيء من الزجر والتعنيف، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يوماً عنافاً ولا مزمجراً، بل كان ألين الناس وأطيبهم معشرا؛ روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل".

وقال أنس بن مالك رضي الله عنه كما جاء في صحيح مسلم: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي: أف قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟".

لكن للأسف بعض المتدينين لا يتأسون بالرسول الكريم، فيكونون أفظ من الفظاظة نفسها، فيسيئون حيث يجب أن يحسنون ويقسون حيث ينبغي أن يرأفون، فينفض حولهم الأصدقاء والزملاء والجيران والإخوان، فلا دعوة أبلغها كما يجب، ولا تدين تمسك به كما يلزم.

وهناك أيضاً التدين السياسي أو "المسيس" الذي يتسم به البعض في جماعات وحركات إسلامية على مدى العصور وفي شتى الأمصار، فيكون الحزب سياسياً لكن بمرجعية دينية، فيصير محط اتهامات بأنه يستخدم الدين لبلوغ غايات سياسية، وأن الدين مجرد وسيلة لا غير، وهنا لا يجب التعميم طبعاً، لكن يوجد من المتدينين فعلاً من يجعلون تدينهم قنطرة عبور نحو منصب سياسي أو حزبي أو كرسي سلطوي وغير ذلك، فأين التدين من كل هذا خاصة إن خلع عنه ثياب التدين فور ما يستوي على كرسي المسؤولية؟

وينتقد الفقيه الأصولي المغربي الدكتور/ فريد الأنصاري بعض شباب الحركات الإسلامية في المغرب بشدة وهم من المتدينين، لكن زاغت بهم سبل السياسة وفجاجها، قائلاً في كتابه "الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب" الذي أثار ضجة كبيرة في المغرب: "ارتمى الشباب في مجاري العمل السياسي العفن، فانتقضت الطهارة، وتنجَّسَ العمل! وتورطت الطاقات في الخلافات القبلية وزادتها تأجيجاً واشتعالاً، وقد كانوا إلى عهد قريب هم أهل الصلاح والإصلاح، إليهم المفزع عند أي نزاع، فصاروا طرفاً في كل شيء، وبدل أن يكونوا مرجعاً لحل الإشكال صاروا جزءاً من الإشكال... ".


ويضيف في مقطع آخر مبرزاً أن التدين "المسيس" يعتبر من "الأصنام المنهجية": "كثير من أبناء العمل الإسلامي انهمكوا في الهموم الدنيوية والسياسية، ونسوا القضية الكبرى: قضية الإنسان مع خالقه، ومصيره في آخرته"، ويقول أيضاً بحدة في حق بعض متديني الحركة الإسلامية بالمغرب: "فلا بركة في حركة تثير النقع في وغى السياسات، وتشعل الخطب النارية في نوادي النقابات، وأصحابها لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى".

لكنه مع كل ذلك يعترف أنه لا يمكن التعميم بالقول: "وما يزال كثير من العاملين في صفوفها من الصالحين المتقين بل ربما وجدتَ منهم أحياناً بعض الأولياء الربانيين الحقيقيين".

فقه الدين وفقه التدين:

ويدفعنا الحديث عن آفات التدين هذه التي ابتلي بها كثير من أبناء الصحوة الإسلامية إلى الإشارة لضرورة التفقه في "التدين"، وليس الفقه في الدين فقط، والفرق بينهما واضح جلي، فالفقه في الدين قد يدركه المسلم بيسر وهو سهل لمن يسره الله عليه، ومعناه معرفة الأحكام والفرائض وشتى الأمور الشرعية، إنما الفقه في التدين فهو سبيل آخر يُقْصد به فهم وإدراك الواقع الراهن وما يثيره من إشكاليات كبرى وذلك حتى ينسجم التدين مع الدين، فالدين ثابت، والتدين متحول، لهذا على التدين أن يتحرك في اتجاه الدين مراعياً كل المتغيرات التي تطرأ في حياة الإنسان وكل الحوادث الجديدة مع تقدير الظروف الداخلية والخارجية المؤثرة ولا شك في قضايا "التدين".

ويؤكد المفكر الإسلامي والباحث الأكاديمي القطري الدكتور/ جاسم سلطان في هذا السياق أن الأمة الإسلامية تعي فقه الدين بمعنى الأحكام التاريخية لمجتمعات سلفت وبيئات مضت أكثر مما تعرف فقه التدين، وهي مقاربة الواقع المعاصر وإشكالياته وتحدياته التي لم تعرفها المجتمعات السابقة؛ ومن هنا تولدت المطبات وتوالت المصاعب عند الإخفاق وعند النجاح على وجهٍ سواء.

ويرى جاسم سلطان أن "البيان الدعوي شيء وتعميق فهم الجموع له شيء آخر ونقله للتطبيق شيء مغاير تماماً، فقد تغير الواقع المحيط بالدعوة بدرجة كبيرة. ولكن خطاب الدعوة لم يتغير بالدرجة التي تتطلبها المرحلة، وبالدرجة التي يستدعيها الوعي المتنامي للمجتمعات بالممكن وغير الممكن؛ وفي ذلك خطر شديد على مجمل مشروع الأمة للنهضة وتقدُّمه...".

ويعتبر الدكتور/ عبد المجيد النجار من جهته أن فقه التدين أشد تعقيداً، وأكثر صعوبة من فقه الدين؛ لأن هذا الأخير يكون دائراً على العلاقة بين مصدر الدين قرآناً وحديثاً، وهو منضبط في خصائصه ومواصفاته، وبين العقل المدرك، وهو منضبط في قانونه الإدراكي.


أما فقه التدين -وفق النجار- فإنه يدور على العلاقة بين عناصر ثلاثة، تضم إلى جانب العنصرين السابقين عنصر واقع الحياة الإنسانية، وهو عنصر شديد التعقيد في أسبابه وتفاعلاته وملابساته، فكان بذلك متأبياً عن الانضباط المنطقي المطرد، نزاعاً إلى الخصوصيات المستأنفة بحسب تغاير الظروف والأفعال وهذا ما يجعل فقه التدين أقل حظاً في الاطراد المنضبط من فقه الدين، وبذلك يكون أكثر صعوبة وتعقيداً.

وقد أشار -والكلام دائماً لعبد المجيد النجار- الإمام الشاطبي إلى هذا المعنى فيما سماه بالاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط.

وقال فيه: إنه اجتهاد لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة، كما قال فيه: إن "معناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله، ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعداد لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في التعيين نفسه، وليس ما به الامتياز معتبراً في الحكم بإطلاق، ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين، فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة، إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب...".

غير أن التفصيل في مقام آفات التدين عند بعض الملتزمين والمتدينين، والحديث عن فقه التدين الغائب كلياً أو جزئياً من سلوكياتهم لا يعني البتة نفي الخيرية عن هؤلاء الناس، إنما المراد إصلاح العيب وتدارك النقص.


حسن الأشرف


 

  • 9
  • 1
  • 9,448

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً