الإسلام أولاً وأخيراً

منذ 2013-11-16

كان العرب في الجاهلية يدينون بالعصبية القَبَلية، فهي عندهم أساس الولاء والانتماء، وعليها تُحدَّد الحقوق والواجبات، وبها ولها تُعلن الحرب وينعقد السِّلم، وكانت الكيانات السياسية في ذلك العصر تقوم على أُسس عرقية؛ قومية أو دينية، أو كلاهما معًا.


كان العرب في الجاهلية يدينون بالعصبية القَبَلية، فهي عندهم أساس الولاء والانتماء، وعليها تُحدَّد الحقوق والواجبات، وبها ولها تُعلن الحرب وينعقد السِّلم، وكانت الكيانات السياسية في ذلك العصر تقوم على أُسس عرقية؛ قومية أو دينية، أو كلاهما معًا.

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام، فنهض بالعرب والعجم على أساس العقيدة الإسلامية، وألغى العصبية، وأبدل بها النظرة الإنسانية، وأحدث انقلابًا في النظرة إلى الحياة وفي نظام الحياة، واستبدل بمفاهيم الجاهلية الولاء لله ورسوله، وجعل الانتماء للأمة وجماعة المؤمنين، وقرَّر الحقوق والواجبات لجميع الناس بالتابعية لسلطان الإسلام، وحدَّد مفهوم الحرب والسلم وَفْقًا لأحكام الجهاد في سبيل دعوة الناس للإسلام.

وحين برز الضعف الفكري والسياسي لدى المسلمين، في منتصف القرن الثالث عشر الهجري -التاسع عشر الميلادي- وظهرت آثار النهضة الأوروبية، بدأ الاستعمار الغربي باختراق كيان المسلمين فكريًّا وسياسيًّا، واستخدم نصارى الشام؛ كأمثال ناصيف اليازجي وبطرس البستاني، للترويج للرابطة الوطنية، ولفكرة الدولة القومية الحديثة، بديلاً عن الرابطة الدينية والدولة الدينية؛ أي: بديلاً عن رابطة العقيدة الإسلامية والانتماء للإسلام، والولاء للخلافة العثمانية؛ بوصفها دولةً إسلامية لجميع المسلمين في العالم.

وبعد هدمِ الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، شرعت دول الانتداب، بريطانيا وفرنسا، بعملية صهر لشعوب المسلمين، لا سيما في البلاد العربية؛ لتركيز الروابط على أساس الوطنية والقومية، لتركيز هذه الروابط بين المسلمين، هادفة إلى محوِ شخصية المسلمين وإعادة صياغة تفكيرهم وميولهم على أساس الثقافة الغربية، مستخدِمةً مناهجَ التعليم والمعاهد ورجال الدين؛ وذلك لكي تضمن دول الانتداب استقرار التقسيم السياسي الاستعماري الذي فرضتْه من خلال اتفاقية (سايكس - بيكو)، فكان لدول الاستعمار ما أرادت، فبعد حوالي جيلين، ومع مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، أصبحت أجيال المسلمين بمجموعها تُؤمِن بهذه الروابط، وكما أصبحت حركات التحرر من الاستعمار الغربي تقوم عليها وتكافح في سبيلها؛ ما أدى إلى ترسيخ الروابط الوطنية والقومية، مقابل إضعاف الرابطة الإسلامية بين شعوب المسلمين، وهو أمر واضح في حركات التحرُّر التي نشأت في الجزائر وسوريا وفلسطين مثلاً.

وبعد قيام حكومات ما بعد الاستعمار العسكري المباشر للبلاد العربية والإسلامية، في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، عملت هذه الحكومات والنظم السياسية الجمهورية والملكية والثورية، على ترسيخ مفاهيم الوطنية والقومية في نفوس الشعوب وعقولها، عن طريق نظم التعليم والإعلام والثقافة العامة؛ ما أدى إلى تجذُّر هذه المفاهيم، لدرجة أن صبغت الحركات والجماعات الإسلامية التي برزت بقوة في عقدي والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وبدأنا نسمعُ رجال الدين وعلماءه يدافعون عن الروابط الوطنية والقومية، حتى جعلوها من مقتضيات الإيمان بالإسلام، مرددين مقولة: (حبُّ الأوطان من الإيمان)! بل منهم مَن يزعُمُ على المنابر أنه حديثٌ شريف (وهو حديث موضوع كما قال الصغاني والألباني).

وبذلك نجح الغرب نجاحًا منقطع النظير؛ حيث جعل مفاهيمَه عن الحياة وأفكاره السياسية تتحكَّم في حياة المسلمين؛ في علاقاتهم بعضهم ببعض، وفي فهمِهم لنصوص القرآن والسنة، وفي نظرتهم لأحكام الشرع، بل حتى في كفاحِهم له؛ أي للمستعمر، وتنظيم عَلاقتهم به، فأصبح المستعمر الكافر "صديقًا" و"شريكًا" و"حليفًا"، بينما أضحى المسلم "أجنبيًّا" و"دخيلاً" في ديار المسلمين، بل و"عدوًّا" في بعض الأحيان.

وها نحن اليوم نقف أمام عملية إحياء للرابطة الوطنية تحت شعار جديد: "وطني أولاً" أو "بلدي أولاً"، مقابل الفكر السياسي الإسلامي المتنامي لدى جماهير الأمة، والذي يجعل الإسلامَ بعقيدته وشريعته موضع الولاء والانتماء، ومركز الفكر والعمل من أجل نهضة الأمة وتوحُّدها وتحرُّرها، وهو ما يُحتِّم جعل الأولوية لحشدِ الطاقات وبذلِ التضحيات في سبيل التصدي لقضايا الأمة المصيرية.

وسنعرضُ في السطورِ التَّالية نشأةَ هذه الفكرة وتطوُّرها، وسُبُل مواجهتِها؛ للحيلولةِ دون نجاح الغرب ووكلائِه وأدواته في إحداثِ انتكاسةٍ جديدة تُعرقِلُ الوصول بالأمة نحوَ الغاية العظمى، وهي استئنافُ الحياة الإسلامية بإقامة نظام الإسلام لتوحيد المسلمين في كيان واحد، فيستأنفون حمل دعوة الإسلام إلى البشرية لإنقاذِها وإسعادها، فيعودون كما أراد الله لهم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران من الآية:110].

نشأة فكرة "وطني أولاً":

أ- تركيا أولاً:

برزت الفكرة عقب مفاوضات الصلح بين تركيا والحلفاء، لتبرير فصل تركيا عن العرب والهنود، وتوقيع الصلح المنفرد مع الحلفاء الغربيين، وإلغاء الخلافة بحجة تحرير تركيا واستقلالها.

وفي مَعرِض تبريرِه لفصل تركيا عن المسلمين من العرب والهنود، الواقعين حينها تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي، ولتبرير جريمته في إلغاء الخلافة؛ خاطب مصطفى كمال البرلمان التركي سنة 1923م قائلاً: "أليس من أجل الخلافة والإسلام ورجال الدين قاتل القرويون الأتراك، وماتوا طيلة خمسة قرون؟ لقد آن الأوان أن تنظر تركيا إلى مصالحها، وتتجاهل الهنود والعرب، وتنقذ نفسها من تزعُّم الدول الإسلامية".

وهو بذلك يقول: إن تحرَّر تركيا واستقلالها وتقدُّمها يقتضي فصل الأتراك عن المسلمين، وإلغاء الخلافة وتبعاتها؛ حفاظًا على مصالح الأتراك ودمائهم!

ب- مصر أولاً:

طُرِح شعارًا لتبرير اتفاقية كامب ديفيد، وفصل مصر عن الصراع مع الكيان اليهودي الغاصب.

وفي مطلع القرن الماضي بدأ محمد عبده بالترويج للرابطة الوطنية في مصر، وأعلن مقولته المشهورة: "مصر للمصريين"، وقد كان محمد عبده على علاقة وثيقة بالمندوب السامي البريطاني في مصر آنذاك اللورد كرومر، الذي دعَّم حركة محمد عبده في حياته وبعد مماته وشجَّعها؛ بُغْيَةَ فصل مصر سياسيًّا عن دول المنطقة، مع جعلها جسرًا ثقافيًّا وسياسيًّا للحضارة الغربية في العالم الإسلامي، مستغلاًّ بذلك مكانةَ الأزهر العلمية والثقافية والدينية لدى الشعوب الإسلامية.

وفي نهاية السبعينيات من القرن الماضي طرح السادات شعار "مصر أولاً"؛ لتبرير الاتفاقية الخيانية الأولى مع كيان يهود، وتخلِّي مصر عن زعامة الدول العربية في قيادة الصراع معهم، والسير بالصلح المنفرد، دونما اعتبار لاستمرارِ احتلال يهود لأراض عربية، وفي مقدمتها فلسطين.

ج- فلسطين أولاً:

طُرِح شعارًا للتنازل عن معظم فلسطين لليهود؛ لتبرير اتفاقية (أوسلو) الخيانية، والانفصال عن مسار السلام المشترك بين العرب ويهود؛ ففي عام 1993م وقَّعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية (غزة - أريحا أولاً) مع الكيان اليهودي، والتي أصبحت تُعرَف باتفاقية (أوسلو)، مبررة ذلك بـ "استقلال القرار الفلسطيني"، وعدم السماح للدول العربية بتسخير القضية الفلسطينية للمقايضة على مصالحها الخاصة، واستخدامها كورقة ضغط في المفاوضات، وأحدثت الاتفاقية انفصالاً بين قضيةِ فلسطين ومفاوضات السلام بين الأطراف العربية ويهود حول أراضيها المحتلَّة؛ أي: بين سوريا والأردن ولبنان من جهة، واليهود من جهة.

كما جزَّأت الاتفاقية قضية فلسطين إلى تمازيق، فاعترفت من خلالها المنظمة بحق "إسرائيل" في الوجود على أرض فلسطين المحتلة عام 1948م، فلم تعد هذه محل تفاوض - وإقامة حكم ذاتي فلسطيني في غزة وأريحا، وتقسيم أراضي الضفة الغربية إلى مناطق أمنية، سُمِّيت بـ (منطقة أ)، (ومنطقة ب)، و(منطقة ج)، يتبع ذلك مفاوضات على المستوطنات والقدس واللاجئين والحدود.

د- الأردن أولاً:

طُرِح عقب اتفاقية وادي عربة؛ لتبرير معاهدة الخيانة والتخاذل عن نصرة أهل فلسطين.

وفي مطلع التسعينيات من القرن الماضي رفع ملك الأُرْدُنِّ حسين شعار "الأردن أولاً"؛ لتبرير اتفاقية السلام المنفرد مع كيان يهود، وتخلِّيه عن قضية فلسطين، وتخاذله عن نصرة أهلها ولو شكلاً، ولتبرير السير بالصلح المنفرد مع الكيان اليهودي، والانفلات من مفاوضات السلام المتعددة الأطراف، فوقَّع الأردنُّ اتفاقيةَ (وادي عربة) عام 1994م، وصوَّر الملك حسين أن اتفاقية السلام مع اليهود ستُحقِّق الرخاء والنمو الاقتصادي للمواطنين، وستجلب الاستثمارات الأجنبية، وتعالج الفقر والبطالة، فمصلحة الوطن والمواطن هي "مصلحة عليا"، وبعدها تأتي حقوق الإخوة الأشقاء من العرب والفلسطينيين، من تضامن ودعم وتأييد لحقوقهم ضمن إطار السياسة الخارجية، وَفْقَ مفهوم تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة القومية، أما المصلحة الدينية، فهي عاطفة روحية تأتي في آخر سلم الأولويات، هذا إن وجدت.

هـ- باكستان أولاً:

طُرِح عقب احتلال أفغانستان؛ لتبرير دعم الاحتلال، وخيانة المسلمين الأفغان، والتخلي عن نصرة مسلمي كشمير.

وفي مطلع القرن الحالي رفع حاكم باكستان "برويز مشرف" شعار "باكستان أولاً"؛ لتغطية خيانته للمسلمين في أفغانستان وكشمير، ورفع الغطاء السياسي والدعم العسكري عن الحركات الكشميرية، بل وتجريم نشاطاتِها المالية والعسكرية، وبرَّر "مشرف" سياسته هذه بأهمية المساعدات الأمريكية العسكرية والاقتصادية لتحقيق التنمية للمواطنين، ولضمان الدعم الأمريكي لباكستان في صراعها مع الهند، وخشية تحوُّل أمريكا إلى دعم الهندوس في حال رفضت باكستان السير مع أمريكا في "الحرب على الإرهاب".

و- العراق أولاً:

طُرِح عقب الحرب على العراق؛ لتسويغِ التعاون مع المحتل الأمريكي، ومنع تدخل دول الجوار وشعوبه في شؤون الاحتلال وأعوانه.

وفيفي العراق رفَع أزلامُ الاحتلال شعار "العراق أولاً"؛ ردًّا على مقاومة الاحتلال ورفض منتجاتِه من انتخابات ودستور واتفاقيات خيانية، ولتسويغِ التعاون مع المحتل في تغطية ممارساته الوحشية، مبرِّرين ذلك بتواطؤ الدول العربية ودعمها للنظام البَعْثِي السابق في ظلمه وبطشه، وقمعه للأقليات العرقية والطائفية.

ز- إيران أولاً:

برز عقب احتلال العراق؛ لتبرير تطبيع العَلاقات مع أمريكا والتخلِّي عن حركات "المقاومة" في المنطقة.


وفيفي إيران رفَع عددٌ من القادة الإيرانيين شعار "إيران أولاً"؛ للتغطية على التعاون المتسارع والعلني الذي تتبنَّاه الحكومة الإيرانية مع الاحتلال الأمريكي في المجالين السياسي والأمني، ولتهيئة الرأي العام الإيراني -في هذه المرحلة بالذات- لقبول التخلِّي عن حركات "المقاومة" في لبنان وفلسطين، وذلك تزامنًا مع تصريحات الرئيس "محمود أحمدي نجاد" عن دعمه لحل الدولتين في فلسطين، ما يعني الاعتراف ضمنًا بشرعية الكيان اليهودي في فلسطين.

ومع قيام النظام الإيراني بخطوات متسارعة للتطبيع مع أمريكا، وتركيز احتلالها في العراق وأفغانستان، يجادل أصحاب شعار "إيران أولاً" بضرورة العمل على إزالة العقوبات الدولية، وإخراج إيران من العزلة الاقتصادية، والتي عانى منها المواطن، وزادت من مشاكل البطالة والفقر بسبب شعارات وسياسات أضرَّت بمصالح إيران والشعب الإيراني، على اعتبار أن سياسات دعم المسلمين في فلسطين ولبنان تتناقض مع المصالح القومية.


وبذلك شرع النظام الإيراني في إعادة صياغة مفاهيم المجتمع، ثقافيًّا وسياسيًّا، وَفق مقتضيات المرحلة والدور الإيراني الجديد، الموكل إليه أمريكيًّا، في منطقة الخليج والشرق الأوسط وجنوب آسيا.

وفي ظل احتدام الجدل، بين زعامات النظام السياسية والدينية، حول مفهوم "إيران أولاً" وانعكاساته على شعارات الثورة الإسلامية، التي طالما نجح النظام في استغلالها للتغطية على التعصب القومي الفارسي والعصبية الطائفية، صرَّح قائد القوات المسلحة الإيرانية، حسن فيروز آبادي، وهو المعروف بقربه من المرشد علي خامنئي، صرح في 12/9/2009م، في معرِض ردِّه على أصحاب فكرة "إيران أولاً" بالقول: إن دعم بلاده للقضية الفلسطينية هو "شكل من أشكال الاستثمار؛ للحصول على امتيازات إقليمية ودولية، وإن دعم القضية الفلسطينية، بالرغم من التكلفة السياسية والدعائية والمالية، لا يشكل أمرًا عبثيًّا ومكلفًا لنا ولم يُفرَض علينا، بل إنه يعدُّ ضربًا من الاستثمار لتحقيق مصالح إقليمية ودولية لنا"، وأضاف: "إن دعمنا لحركات التحرُّر يدخل في صلب حماية الأمن القومي الإيراني، ويزيد من قوتنا الإقليمية، وهو في سياق ما نُنفِقه للحفاظ على أمنِنا القومي، واتساع رقعة قوتنا في المنطقة"، وهذا يعني أن سياسة "إيران أولاً" كانت مطبَّقة منذ قيام الثورة، والخلاف القائم الآن هو على وسائل تحقيقها، والأسلوب الأمثل لتنفيذها في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية.

موقف الإسلام من فكرة "وطني أولاً":

إن فكرة "وطني أولاً" هي فكرة خبيثةٌ، تتناقض مع أفكار الإسلام وأحكامه، وهي مفهوم سياسي خطيرٌ؛ لكونه يفصلُ المسلمين في كل بلد عن أمتهم وقضاياها، ويجعل منهم طائفة ضمن طوائف متعدِّدة، بل أقلية تستجدي حقوقَها، كما هو واقع المسلمين في لبنان وسوريا والسودان ونيجيريا وغيرها، بدل أن يكونوا أهل البلد وأصحاب السلطان فيه، أما مناقضتها لأفكار الإسلام وأحكامه، فيعود للأسباب التالية:

1- لقد أمر الله سبحانه بجعل الإسلام أساسًا لحياة المسلمين، والقرآن والسنة مصدرًا وحيدًا لتشريعهم ونظام دولتِهم، وجعل العقيدة الإسلامية والجهاد في سبيلها قضيَّتَهم المصيرية، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فالإيمان بالإسلام يقضي بأن تُوضَع العقيدة الإسلامية، وحَمْل دعوتها، والجهاد في سبيل نشرِها على رأس الأولويات للمسلمين، كما يحتِّم إخضاع ما أقرَّه الشرع من ميول فطرية وشؤون الحياة الدنيوية، من مثل عَلاقات الرحم والنسب الإنسانية، وتجارة ومصالح مادية وحاجات شخصية، وَفْق سُلَّم محدَّد للأولويات، تضبطه نصوص الشرع وأحكامه، والإيمان بالإسلام يحتِّم كذلك إلغاء ما يتعارَض مع العقيدة الإسلامية من روابط الدم والأرض، قال عليه السلام: «مَن دعا إلى عصبية، فليس منا» (رواه أبو داود)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ومَن قاتل تحت راية عُمِّيَّة، يدعو لعصبية، أو ينصر عصبية، فمات، فميتةٌ جاهلية» (رواه أبو داود).


2- حدَّد الإسلام العَلاقة بين شعوب الأمة الإسلامية بشكل واضح، وأجمَلَها في أبلغ عبارة وأدقِّ وصف، وجعلها قائمةً على أساس الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتعاطفِهم وتراحمِهم مَثَلُ الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (رواه مسلم)، وقال عليه السلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان؛ يشدُّ بعضه بعضًا» (رواه مسلم).

3- بنى الإسلام مفهومَ الأمة على أساس العقيدة الإسلامية، مبيِّنًا ما يترتَّب على ذلك من حقوق وواجبات سياسية وجنائية، كما بيَّن عَلاقة المسلمين بغيرِهم، في الحرب والسلم، داخليًّا وخارجيًّا، فقد جاء في صحيفةِ المدينة: "هذا كتابٌ من محمد النبي، بين المؤمنين من قريش ويثرب، ومَن تبِعهم فلحِق بهم وجاهَد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس... وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس... وهم يدٌ على مَن سواهم... وإن سلمَ المؤمنين واحدة، لا يسالمُ مؤمنٌ دون مؤمنٍ في قتالٍ في سبيل الله"؛ (سيرة ابن هشام، وصحيح البخاري)، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة من الآية:143].

4- ألزم الله سبحانه المؤمنين بموالاةِ بعضهم البعض؛ أي مناصرة إخوانهم والتحالف معهم ضد عدوهم، فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة من الآية:71]، كما حذَّر تعالى المسلمين من عواقب موالاة الكافرين، والتحالف مع الكفار ضد إخوانهم، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]، وحصر عز وجل الانتماء للإسلام وحدَه، والولاء لله ورسوله وجماعة المؤمنين، فقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة من الآية:55].

5- لقد أوجب الشرع على المسلمين نصرةَ إخوانهم بالقتال والمال والرجال، في حال تعرُّضهم لاعتداء من قِبَل الكفار، فقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72]، وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يُسْلِمُهُ ولا يظلِمُهُ ولا يخذُلُه» (رواه مسلم).


6- حرَّم الإسلام وجود كيانات متعدِّدة للمسلمين، قال عليه السلام: «إذا بُويعَ لخليفتينِ، فاقتلوا الآخِر منهما» (رواه مسلم)، كما أوجب وحدةَ كيان المسلمين السياسي، وشدَّد في الحفاظ على وحدة سلطان الإسلام، حتى وإن أدَّى ذلك إلى القتل، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَن جاءكم وأمرُكم جميع على رجلٍ واحد، يريد أن يشقَّ عصاكم، أو يُفرِّق جماعتكم، فاضرِبوا عنقَه كائنًا مَن كان» (رواه مسلم).

7- حرَّم الشرع تنصيبَ الكافر حاكمًا على المسلمين، قال سبحانه وتعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء من الآية:141]، كما أوجب عليهم أن يُقِيموا حاكمًا منهم يحكُمُهم بالإسلام؛ حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُ} [النساء من الآية:59].

8- لقد أوجب الشرع تحكيمَ الإسلام كاملاً في حياة المسلمين، أفرادًا وجماعات، مجتمعًا ودولة، قال تعال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة من الآية:48]، كما حرَّم عليهم الحكم بغير الإسلام، قال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].

9- حدَّد الشرعُ العَلاقة بين المسلمين وغيرِهم من الأفراد والشعوب بأمرين اثنين:

الأول: هو دعوتهم للإسلام، فقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر أمراء السرايا فيقول لأحدهم: «ادعُهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقْبَل منهم وكُفَّ عنهم».

والثاني: هو حكمهم بالإسلام وَفْق أحكام أهل الذمَّة، بما تضمَّنته من حقوق وواجبات، وعلى رأسها الخضوعُ لحكم الإسلام، والالتزام بعدمِ حمل السلاح على المسلمين، أو مظاهرة الأعداء، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].

10- شرع الله الجهاد، وجعله ذروة سَنام الإسلام، وهو يقتضي نشر دعوة الإسلام، وإزالة الحواجز المادية التي تَحُول بين الناس والإسلام؛ حتى يعمَّ حكمُ الإسلام الأرضَ، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، فالانتماء لكيان سياسي يقوم على الحدود السياسية الثابتة، هو أمر يتناقضُ مع مفهوم الجهاد وأحكامه، والتي توجب على المسلمين نشر الإسلام بالدعوة والقتال، وتفرض توسُّع حدود دار الإسلام وسلطان الدولة الإسلامية، قال صلى الله عليه وسلم: «ليبلُغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخَله الله هذا الدِّين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذلاًّ يُذِلُّ به الكفر» (رواه أحمد، وابن حبان، والحاكم في صحيحه).

هذا هو واقع فكرة "وطني أولاً" في البلاد الإسلامية، وخطورتها على المسلمين، ومناقضتها لأفكار الإسلام وأحكامه، فالواجب يحتِّم على كل مسلم، أن يكون حارسًا أمينًا للإسلام، قوَّامًا على حدود الله في مجتمعه، آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، ناصحًا لأمته، فيقوم بمحاربة هذه الفكرة واقتلاعها من جذورها.


فادي عبد اللطيف


 

  • 6
  • 1
  • 8,832

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً