أحكام صيام الست من شوال
لمحة مختصرة عن أحكام صيام الست من شوال أسأل الله أن ينفع بها الجميع
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فهذه لمحة مختصرة عن أحكام صيام الست من شوال أسأل الله أن ينفع بها الجميع، فأقول وبالله التوفيق:
أولاً؛ حكمها:
صيام الستة من شوال سنة لما ثبت عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه أحمد [5/417]، ومسلم [2/822]، وأبو داود [2433]، والترمذي [1164]).
قال ابن قدامة في المغني: "صوم ستة أيام من شوال مستحب عند كثير من أهل العلم".
وجاء في الموسوعة الفقهية: "ذهب جمهور الفقهاء -المالكية، والشافعية، والحنابلة، ومتأخرو الحنفية- إلى أنه يسن صوم ستة أيام من شوال بعد صوم رمضان... ونُقِل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى كراهة صوم ستة من شوال، متفرقاً كان أو متتابعاً. وعن أبي يوسف: كراهته متتابعاً، لا متفرقاً. لكن عامة المتأخرين من الحنفية لم يروا به بأساً. قال ابن عابدين، نقلاً عن صاحب الهداية في كتابه التجنيس: والمختار أنه لا بأس به، لأن الكراهة إنما كانت لأنه لا يؤمن من أن يعد ذلك من رمضان، فيكون تشبهاً بالنصارى، والآن زال ذلك المعنى، واعتبر الكاساني محل الكراهة: أن يصوم يوم الفطر، ويصوم بعده خمسة أيام، فأما إذا أفطر يوم العيد ثم صام بعده ستة أيام فليس بمكروه، بل هو مستحب وسنة. وكره المالكية صومها لمقتدىٍ به، ولمن خِيف عليه اعتقاد وجوبها، إن صامها متصلة برمضان متتابعة وأظهرها، أو كان يعتقد سنية اتصالها، فإن انتفت هذه القيود استحب صيامها. قال الحطاب: قال في المقدمات: كره مالك رحمه الله تعالى ذلك مخافة أن يلحق برمضان ما ليس منه من أهل الجهالة والجفاء، وأما الرجل في خاصة نفسه فلا يكره له صيامها".
ثانياً؛ فضلها:
لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من صام الست من شوال كان كصيام الدهر كما في الحديث السابق، وقد فسّر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: « : {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام من الآية:160]» وفي رواية: « » (النسائي، وابن ماجة، وهو في صحيح الترغيب والترهيب [1/421])، ورواه ابن خزيمة بلفظ: « ».
يقول الإمام النووي رحمه الله: "قال العلماء: وإنما كان كصيام الدهر، لأن « »، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين...".
ثالثاً؛ ثمراتها:
إليك هذه الفوائد أسوقها إليك من كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله:
1- إن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله.
2- إن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة وبعدها، فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خللٍ ونقص، فإن الفرائض تكمل بالنوافل يوم القيامة. وأكثر الناس في صيامه للفرض نقصٌ وخلل، فيحتاج إلى ما يجبره من الأعمال.
3- إن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان، فإن الله تعالى إذا تقبّل عمل عبد؛ وفّقه لعملٍ صالحٍ بعده، كما قال بعضهم: "ثواب الحسنة الحسنة بعدها"، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها، كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها.
4- إن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدّم من الذنوب، كما سبق ذكره.
5- أن الصائمين لرمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر، وهو يوم الجوائز فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكراً لهذه النعمة، فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتورّم قدماه، فيقال له: "أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟!"، فيقول: « ». وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره، وغير ذلك من أنواع شكره، فقال: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة من الآية:185]؛ فمن جملة شكر العبد لربه على توفيقه لصيام رمضان، وإعانته عليه، ومغفرة ذنوبه أن يصوم له شكراً عقيب ذلك.
كان بعض السلف إذا وُفِّق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهارها صائماً، ويجعل صيامه شكراً للتوفيق للقيام.
وكان وهيب بن الورد يسأل عن ثواب شيء من الأعمال كالطواف ونحوه، فيقول: "لا تسألوا عن ثوابه، ولكن سلوا ما الذي على من وفّق لهذا العمل من الشكر، للتوفيق والإعانة عليه".
كل نعمة على العبد من الله في دينٍ أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها، ثم التوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكرٍ ثانٍ، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبداً فلا يقدر العباد على القيام بشكر النعم. وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر.
رابعاً؛ مسائل متفرقة:
1- يستحب البدء بها بعد العيد مباشرة ؛ لأن ذلك من باب المسارعة إلى الخير. قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
وقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
2- يجوز تفريقها في شهر شوال كاملاً ولا يلزم التتابع فيها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق صيامها ولم يذكر تتابعاً ولا تفريقاً، حيث قال صلى الله عليه وسلم: « ».
3- من صامها في عام لا يلزمه أن يصومها في عام آخر لكنه يستحب له ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها).
4- يلزم في الست من شوال ونحوها من النفل المقيد من تبييت النية من الليل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه النسائي وصححه الألباني).
5- لا يلزم إتمام الست من شوال، فمن استطاع الإتمام فقد أحسن ومن لا فلا حرج عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « » (قال النووي في المجموع [6/395]: "إسناده جيد").
6- الأولى لمن عليه قضاء من رمضان أن يبدأ به لأنه أبرأ لذمته؛ ولأن الفرض مقدم على النافلة، واختلف أهل العلم فيمن قدّم الست من شوال على صيام الفرض على قولين:
القول الأول: أن فضيلة صيام الست من شوال لا تحصل إلا لمن قضى ما عليه من أيام رمضان التي أفطرها لعذر. واستدلوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري: « ». وإنما يتحقق وصف صيام رمضان لمن أكمل العدة.
قال الهيتمي في (تحفة المحتاج؛ [3/457]): "لأنها مع صيام رمضان أي: جميعه، وإلا لم يحصل الفضل الآتي وإن أفطر لعذر".
وقال ابن مفلح في كتابه (الفروع؛ [3/108]): "يتوجه تحصيل فضيلتها لمن صامها وقضى رمضان وقد أفطره لعذر، ولعله مراد الأصحاب، وما ظاهره خلافه خرج على الغالب المعتاد، والله أعلم".
وبهذا قال جماعة من العلماء المعاصرين كشيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد العثيمين رحمهما الله.
القول الثاني: أن فضيلة صيام الست من شوال تحصل لمن صامها قبل قضاء ما عليه من أيام رمضان التي أفطرها لعذر؛ لأن من أفطر أياماً من رمضان لعذر يصدق عليه أنه صام رمضان فإذا صام الست من شوال قبل القضاء حصل ما رتبه النبي صلى الله عليه وسلم من الأجر على إتباع صيام رمضان ستاً من شوال. وقد نقل البجيرمي في حاشيته على الخطيب بعد ذكر القول بأن الثواب لا يحصل لمن قدّم الست على القضاء محتجاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتبعه ستاً من شوال [2/352]، عن بعض أهل العلم الجواب التالي: "قد يقال التبعية تشمل التقديرية لأنه إذا صام رمضان بعدها وقع عما قبلها تقدير، أو التبعية تشمل المتأخرة كما في نفل الفرائض التابع لها ا هـ. فيسن صومها وإن أفطر رمضان".
وقال في (المبدع؛ [3/52]): "لكن ذكر في الفروع أن فضيلتها تحصل لمن صامها وقضى رمضان وقد أفطر لعذر ولعله مراد الأصحاب، وفيه شيء".
والذي يظهر أن ما قاله أصحاب القول الثاني أقرب إلى الصواب؛ لا سيما وأن المعنى الذي تدرك به الفضيلة ليس موقوفاً على الفراغ من القضاء قبل الست فإن مقابلة صيام شهر رمضان لصيام عشرة أشهر حاصل بإكمال الفرض أداء وقضاء وقد وسّع الله في القضاء فقال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة من الآية:185]، أما صيام الست من شوال فهي فضيلة تختص هذا الشهر تفوت بفواته. ومع هذا فإن البداءة بإبراء الذمة بصيام الفرض أولى من الاشتغال بالتطوع. لكن من صام الست ثم صام القضاء بعد ذلك فإنه تحصل له الفضيلة إذ لا دليل على انتفائها، والله أعلم.
7- استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على استحباب صيام الدهر، وقالوا: "لو كان صوم الدهر مكروهاً لما وقع التشبيه به، بل هذا يدل على أنه أفضل الصيام".
وأجاب عن ذلك ابن القيم فقال: "هذا الاستدلال فاسد جداً من وجوه:
أحدها: أن في الحديث نفسه أن وجه التشبيه هو أن « »، فستة وثلاثون يوماً بسنة كاملة ومعلوم قطعاً أن صوم السنة الكاملة حرام بلا ريب والتشبيه لا يتم إلا بدخول العيدين وأيام التشريق في السنة وصومها حرام فعلم أن التشبيه المذكور لا يدل على جواز وقوع المشبه به فضلاً عن استحبابه فضلاً عن أن يكون أفضل من غيره. نظير هذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن عمل يعدل الجهاد؟ فقال: « ». « ؟» قال: لا. قال: « ». ومعلوم أن هذا المشبّه به غير مقدور ولا مشروع.
فإن قيل: يحمل قوله: « » على ما عدا الأيام المنهي عن صومها.
قيل: تعليله صلى الله عليه وسلم حكمة هذه المقابلة، وذكره « »، وتوزيع الستة والثلاثين يوماً على أيام السنة: يُبطِل هذا الحِمل.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن صام الدهر، فقال: « »، وفي لفظ: « » فإذا كان هذا حال صيام الدهر فكيف يكون أفضل الصيام؟
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: « »، وفي لفظ: « »؛ فهذا النص الصحيح الصريح الرافع لكل إشكال، يبين أن صوم يوم وفطر يوم أفضل من سرد الصوم. مع أنه أكثر عملاً. وهذا يدل على أنه مكروه لأنه إذا كان الفطر أفضل منه لم يمكن أن يقال بإباحته واستواء طرفيه. فإن العبارة لا تكون له بالإبطال، فتعين أن يكون مرجوحاً، وهذا بيّن لكل منصف. ولله الحمد.
8- هل يمكن أن تُصام هذه الست في غير شوال وتحصل نفس المزية؟
أجاب عن ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في تعليقه على سنن أبي داود فقال: "اختصاص شوال ففيه طريقان:
أحدهما: أن المراد به الرفق بالمكلف، لأنه حديث عهد بالصوم، فيكون أسهل عليه ففي ذكر شوال تنبيه على أن صومها في غيره أفضل، هذا الذي حكاه القرافي من المالكية، وهو غريب عجيب.
الطريق الثاني: أن المقصود به المبادرة بالعمل، وانتهاز الفرصة، خشية الفوات. قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}، وقال: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} وهذا تعليل طائفة من الشافعية وغيرهم.
قالوا: ولا يلزم أن يعطي هذا الفضل لمن صامها في غيره، لفوات مصلحة المبادرة والمسارعة المحبوبة لله.
قالوا: وظاهر الحديث مع هذا القول، ومن ساعده الظاهر فقوله أولى، ولا ريب أنه لا يمكن إلغاء خصوصية شوال، وإلا لم يكن لذكره فائدة.
وقال آخرون: لما كان صوم رمضان لا بد أن يقع فيه نوع تقصير وتفريط، وهضم من حقه وواجبه ندب إلى صوم ستة أيام من شوال، جابرة له، ومسددة لخلل ما عساه أن يقع فيه. فجرت هذه الأيام مجرى سنن الصلوات التي يتنفل بها بعدها جابرة ومكملة، وعلى هذا؛ تظهر فائدة اختصاصها بشوال، والله أعلم.
9- هناك فرق بين أن يقول: "فكأنما قد صام الدهر" وبين قوله: « »؛ هو أن المقصود تشبيه الصيام بالصيام. ولو قال: فكأنه قد صام الدهر، لكان بعيداً عن المقصود، فإنه حينئذٍ يكون تشبيهاً للصائم بالصائم. فمحل التشبيه هو الصوم، لا الصائم، ويجيء الفاعل لزوماً، ولو شبه الصائم لكان هو محل التشبيه، ويكون مجيء الصوم لزوماً، وإنما كان قصد تشبيه الصوم أبلغ وأحسن لتضمنه تنبيه السامع على قدر الفعل وعظمه وكثرة ثوابه، فتتوفر رغبته فيه" (قاله ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود).
وفي الختام أسأل الله تعالى أن ينفع بهذه المبحث المختصر وأن يجعله في موازين الحسنات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
- التصنيف:
- المصدر: