أزمة اليمن... غياب للشورى وفساد للمستشارين
إن العمل بالشورى وفق صورتها الحقيقية تقود للفوز والفلاح، وتقود إلى العمل الحقيقي الذي يبحث عنه كل عاقل. وإن البحث عن السلام والأمن الاجتماعي -كما يقال- بعيدًا عن منهج الشورى التي تقدم أفضل الحلول وتأخذ بأرجحها وفق ميزان الشرع والعقل الصحيح، إنما هو من فساد القلب وضعف العقل.. نعوذ بالله من الخذلان!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
عندما تتزايد الخطوب، وتتكالب الأحداث، وتزدحم المواقف؛ تشتد الحاجة إلى العمل بالشورى كوسيلة من وسائل الرشد في القرار والنضوج في الرؤيا، وهي منهج رباني كريم، وخصلة نبوية أصيلة، ربّى الله عليها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال الله عز وجل موجهًا للعمل بها في سياق امتداح المؤمنين: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38] .
ولم يلبث الأمر أن تحول في موضع آخر إلى منهج ثابت يوجه إليه الباري عز وجل فيقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
وأما تطبيقات الشورى في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة متعددة المجالات والمناسبات، وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: "ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم".
إن العمل بالشورى وفق صورتها الحقيقية تقود للفوز والفلاح، وتقود إلى العمل الحقيقي الذي يبحث عنه كل عاقل. وإن البحث عن السلام والأمن الاجتماعي -كما يقال- بعيدًا عن منهج الشورى التي تقدم أفضل الحلول وتأخذ بأرجحها وفق ميزان الشرع والعقل الصحيح، إنما هو من فساد القلب وضعف العقل.. نعوذ بالله من الخذلان!
وإن أعظم أسباب نجاح الشورى وفاعليتها في مواجهة القضايا والمستجدات وتحقيقها للهدف المرجو منها: حسن اختيار المستشار في الأمر المعين. ولذلك حذر الله عز وجل في كتابه العزيز من بطانة السوء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].
ففي هذه الآية تحذير من أخذ الشورى ممن لا يستحق من المنافقين أو المفسدين، وقد قال أهل التفسير: إن معنى {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} أي: لا يدخرون جهدًا وطاقة في إفسادكم وإفشالكم وإضعافكم؛ لأنهم ليسوا صادقين مخلصين في نصيحتهم ومشورتهم، ولذلك كان التعريف الأكمل للنصيحة بأنها: بذل الجهد في تقديم الخير للمنصوح له.
ومن هنا فقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- حريصين كل الحرص على أخذ الشورى من أهل العلم المعتبرين، ومن أصحاب التجربة المشهود لهم، ومن المتصفين بالأخلاق الكريمة الفاضلة التي تحجزهم عن الشورى بغير ما يعتقدونه من الرشاد والصواب.
وها هو الخليفة الرابع المسدد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه يكتب إلى واليه على مصر مالك بن الأشتر النخعي، فيقول: "لا تدخلنّ مشورتك بخيلًا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانًا يضعفك عن الأمور، ولا حريصًا يزيّن لك الشرة بالجور؛ فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظن بالله"، ويضيف: "وأكثِر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس من قبلك." وصدق أبو السبطين رضي الله عنه، فما أوتي الناس -حكامًا ومحكومين- في هذا الباب، إلا من سوء اختيار المستشارين والقائمين على تدبير الأمور فيهم.
إن بلادنا اليمن -بلاد الإيمان والحكمة- تبحث اليوم عن الأمن والأمان، وتبحث عن المخرج من فساد الأمور وتدهورها، وتبحث عن الحرية والكرامة للإنسان اليمني، وإن النتاج الحقيقي والأقل كلفة -فيما نعتقده- وما دعا إليه العقلاء المنصفون والمجربون ليتحقق ذلك؛ هو منهج الشورى.
لكن ليس المستشارون المقصودون هنا هم أرباب الفساد الذين جثموا على صدور العباد دهرًا من الزمن، وليس المستشارون هنا أولئك المتشبعين بما لا يستحقون من المناصب والألقاب والأسماء، وليس المستشارون هنا أولئك المتاجرين بهوية الأمة وأخلاقها ودينها.. إن جميع هؤلاء وأمثالهم ومن سار في ركبهم لا ينبغي أن يكونوا قادة للرأي، ولا أداة توجيه وإرشاد للشعوب، إننا سنجد الإجابة عمن نبحث عنهم في كتاب ربنا عز وجل في مواضع متعددة، منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] وغيرها من الآيات.
لقد كان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة رجلًا خرّتيًا من بني الديل، وكان كافرًا كما في بعض الروايات، لكنه كان صادقًا وأمينًا في أداء مهمته، ولم تؤثر فيه عروض قريش المادية والمعنوية لمن يدل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه .
إن خلاصة الكلام في هذا المقام: أن القائمين على الحكم في بلادنا اليمن وزعماء الناس من القبائل وأهل النفوذ أحوج ما يكونوا إلى المستشارين الناصحين المخلصين، الذين ثبت حبهم لهذه البلاد وحبهم للخير لها، بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الفكرية، ومهما تنوعت تصنيفاتهم الاجتماعية أو تخصصاتهم المهنية. وإن الوصول إلى طريق مسدود في الحوار بين السلطة والمعارضة من جهة، وبين السلطة والشباب الثائر من جهة أخرى، وكذا وساطة العلماء بين تلك الأطراف؛ فيه دلالة أكيدة على فقدان الثقة بين هذه الأطراف، ولعل السبب والتفسير الوحيد الكامن خلف ذلك: هو بطانة السوء والمستشارون غير الناصحين، الذين لا يهدفون في آرائهم ومشورتهم سوى الحفاظ على مصالحهم الشخصية ومكاسبهم المادية.
إننا ندعو العقلاء الصادقين من العلماء والدعاة وزعماء القبائل ورؤساء الأحزاب وقادة الهيئات والمنظمات في هذه البلاد إلى الثبات وعدم الاستسلام لمخططات هؤلاء الماكرين وكيدهم. وينبغي الاستمرار في البحث عن مخرج وحل مهما كانت الظروف والأحوال والتضحيات، مع الحرص على تجنب الوقوع في المفاسد قدر المستطاع. وهذا ولا شك خُلق المسلم الحكيم والإيجابي، المشفق على إخوانه، الحريص على إصلاح حاضرهم ومستقبلهم. ولا ينتج عن هذا الخلق إلا وحدة الصف والكلمة، ووحدة القلوب، وإزالة الضغائن والأحقاد، وإصلاح ذات البين، وهذا من أعظم الطاعات والعبادات، ففيه عدة منافع:
أولاها: إدخال الفرح والسرور في قلوب أبناء هذه البلاد من الضعفاء والمساكين والصابرين والمحتسبين.
ثانيها: إصلاح ذات البين، الممدوح بقوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
ونحن بحاجة اليوم إلى استحضار واجب النصرة الحقيقية للظالم والمظلوم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. قالوا: يا رسول الله، ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: ترده عن ظلمه» (صحيح البخاري).
ومن أهم وسائل رد الظلم بحسب متابعتنا لأحوال بلادنا:
أولًا: إنكار الظلم والفساد وعدم التستر عليه خاصة في الأمور العامة.
ثانيًا: المطالبة بمحاسبة الفاسدين وإحالتهم للقضاء الشرعي.
ثالثًا: إسكات الأصوات المثيرة للأحقاد والضغائن، الداعية للحفاظ على المصالح الشخصية على حساب مصالح الشعب والأمة.
رابعًا: محاربة الدعوات العصبية الجاهلية، عنصرية كانت أو مناطقية أو مذهبية أو حزبية أو غيرها.
خامسًا: بث روح التفاؤل والبشارة بنصرة الحق على الباطل، كما كان هدي رسولنا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
سادسًا: الدعوة للاستفادة من مشورة العقلاء الناصحين، وعدم تجاوز رأيهم ومشورتهم من قبل الجميع، وفي جميع المراحل القادمة.
سابعًا: التواصي بالحق والصبر عليه، والتذكير بأن عاقبة الصبر حميدة، وعاقبة الاستعجال وخيمة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
نسأل المولى عز وجل أن يلهمنا وأبناء اليمن الرشد والسداد في الأمر كله، ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك. اللهم! اجمع كلمة أبناء اليمن على الحق والخير، واجعلهم هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، واكتبنا وإياهم من السعداء في الدارين يا رب العالمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل وسلم على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخضر بن عبد الملك الشيباني
- التصنيف:
- المصدر: