المحنة بين سلامة المنهج ومنهج السلامة
وبعد كل تلك الصعاب اتضح للعامة الحق والباطل، وأدرك كل منهم من هم أصحاب (سلامة المنهج) الذين دافعوا عنه بأرواحهم ودمائهم، ومن هم أصحاب (منهج السلامة) الذين قالوا عن الإمام أحمد أنه خرج عن إجماع علماء زمانه بتمسكه بالحق! وهؤلاء ما نقموا من الإمام أحمد إلا تمسكه بالحق وخروجه عن إتفاقهم المزعوم ذلك خوفًا من بطش المأمون، وهكذا هو حال العلماء الصالحين المُصلحين في كل زمان ومكان على طريق الثبات سائرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، هدفهم بيان الحق وإرشاد الناس له مهم كانت العوائق والصعاب.
ينظر العديد من الباحثين لأمر محنة خلق القرآن في عهد الخليفة المأمون (218هـ/ 833م) إلى جانبها العقدي العلمي فقط، وهذا طبيعي يرجع لطبيعة المسألة العقائدية التي تمحور حولها الخلاف في تلك الفترة وكونها هي الأهم من حيث إيلاء الاهتمام، ولكن لو نظرنا لجوهر تلك المحنة لوجدنا أن أصلها وجوهرها هو الصراع الدائم والقائم منذ بدء الخليقة وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، بين الحق والباطل.
فقضية خلق القرآن ودعواها كما كانت خللًا وانحرافًا عقديًا وخطيئة علمية شاذة، فكذلك كان لها وجه آخر يتعلق بسطوة القوة وفرض النفوذ بهدف الاستغلال للمنهج المعتزلي العقلي، ففي رسائله إلى واليه ببغداد من أجل الشروع في أمر المحنة، عمد (المأمون) مقدمًا نفسه بوصفه مؤمنًا ورعًا، وبأنه القيم والحارس للمعتقد الإسلامي، وبينما كان الفكر الإسلامي الصحيح يتعرض لإفساد في عقيدته الإسلامية، كان المجتمع المسلم يتعرض معها لموقف استبدادي يريد أن يفرض الانحراف العقدي بالقوة والنفوذ.
الاستبداد والرغبة في سياسة الناس به لا ينفي أراء المأمون الشاذة والمنحرفة حول صحيح المعتقد، والتي اعتنقها نتيجة لقرب (أحمد بن أبي ذؤاد) المعتزلي المتعصب منه، حتى أنه عينه وزيرًا له وقربه وصدق على كل كلامه، وجعل فكره منهجًا للخلافة في أيامه، ومن بعده جاء المعتصم والواثق ليسيرا على نفس الدرب؛ وإن كانا قد تراجعًا قليلًا خوفًا من غضب العامة عليهم بعد أن انقطعت الخيوط بين مؤسسة الخلافة والعامة؛ نتيجة لاحتدام الصراع بينهم وبين كبار العلماء في ذلك الوقت.
في وسط ذلك الصراع بين الحق والباطل؛ ينشأ (المستبد) الذي يعصف بالعامة فينصب نفسه سيدا ويجعل الناس في مكان العبودية، فهو الذي يملي عليهم فكرهم وسلوكهم وحتى عقائدهم بحسب رؤيته وبحسب ما تبين له حتى لو خالف ذلك جمهور علماء الأمة !
قام المأمون بالعصف بالعلماء وكبار الأعيان الذين خالفوه الرأي، يقول الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) أن: [بين الاستبداد والعلم حربًا دائمة وطرادًا مستمرًا: يسعى العلماء في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا].
فكانت بداية استبداد المأمون هو العصف بمشاعل النور التي تضئ الطريق للعامة، فلا يهتدوا لطريق إلا طريقه هو، فيخنعوا له وينقادوا مستسلمين. ولكن كما هو الحال دائمًا فلكل طريق رجال، وطريق الحق له رجال اتبعوا (سلامة المنهج) وصحيح العلم، في حين أن غيرهم اتبعوا (منهج السلامة)، والبعد عن الأذى، واتقاء شر الخليفة على حد قولهم بذلك الزمان، ولهذا كان العداء ناصبا بين المستبد وعالم الحق فـ[المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين].
وفي المحن يجنح الكثيرون نحو منهج السلامة والحفاظ على المصالح، لكن الأمة في المحن أحوج ما تكون إلى العلماء أصحاب سلامة المنهج، الذين يثبتون عليه ويحملونه إلى الأجيال من بعدهم. اختار إمام أهل السنة (أحمد بن حنبل) طريق الثبات، ومضادة المستبد بتهيئة الأمة نفسها، [فالأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية]، فحتى وهو في محبسه يتعرض للتعذيب والإيذاء في سبيل الدفاع عما يعتقد به وعن مبادئه العقائدية الإيمانية، أقبل الإمام أحمد بن حنبل على تعليم الناس وهدايتهم داخل محبسه وتبيين زيف معتقد المعتزلة وفساد قولهم بخلق القرآن، حتى أمر المعتصم بناء على توصية (ابن أبي ذؤاد) بنقله إلى سجن خاص؛ حيث ضاعفوا له القيود والأغلال وأقاموا عليه سجانين غلاظًا شدادًا.
[إن الأمة التي ضربت عليها الذلة والمسكنة، وتوالت على ذلك القرون والبطون، تصير تلك الأمة خائرة القوى منكسرة الطباع.. لا تسأل قط عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة.. ولا ترى لها في الحياة وظيفة غير التبعية للغالب عليها].
لم يعلن الإمام أحمد معاداة ولا مناوأة للخليفة، ولم يقل الإمام لهم أن المأمون خرج عن إجماع الأمة، بل علّم من يقابله من الأمة صحيح العلم والدين، ففطن الناس للحق، كذلك لم يقاوم الإمام أحمد المأمون ومن جاءوا بعده بالغلظة رغم وجاهته عند الناس واستماعهم له، فقد كان يستطيع أن يؤلب الناس عليه وأن يتهمه في دينه، ولكنها ستكون فتنة أشد مما هي حاصلة، فاختار أن يتحمل هو الأذى ولا تراق قطرة دماء من مسلم على يد أخيه المسلم.
فالاستبداد لا يقاوم بالشدة بل باللين والتدرج، [إن الوسيلة الوحيدة الفعالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقي الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس. ثم إن اقتناع الفكر العام وإذعانه إلى غير مألوفه، لا يتأتى إلا في زمن طويل].
وكذلك من المهم تهيئة الأمة إلى ماذا يستبدل به، وهنا كانت عناية الله رفيقة بأمة الإسلام فأبدل الله الأمة بالخليفة (المتوكل) والذي أعلن تمسكه بمنهج أهل السنة والجماعة، وقرب الإمام أحمد منه رغم رفضه، وأعاد القضاة المعزولين.
وبعد كل تلك الصعاب اتضح للعامة الحق والباطل، وأدرك كل منهم من هم أصحاب (سلامة المنهج) الذين دافعوا عنه بأرواحهم ودمائهم، ومن هم أصحاب (منهج السلامة) الذين قالوا عن الإمام أحمد أنه خرج عن إجماع علماء زمانه بتمسكه بالحق!
وهؤلاء ما نقموا من الإمام أحمد إلا تمسكه بالحق وخروجه عن إتفاقهم المزعوم ذلك خوفًا من بطش المأمون، وهكذا هو حال العلماء الصالحين المُصلحين في كل زمان ومكان على طريق الثبات سائرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، هدفهم بيان الحق وإرشاد الناس له مهم كانت العوائق والصعاب.
_________________
- ما بين القوسين [ ] مستفاد من: الكواكبي- الأعمال الكاملة.
معتز شاهين
- التصنيف:
- المصدر: