درس في العدالة الجائرة
بالطبع يستحيل الجمع بين العدالة والظلم في سياق منسجم، لكنه التهكُّم من أحدث مخازي "المجتمع الدولي".
بالطبع يستحيل الجمع بين العدالة والظلم في سياق منسجم، لكنه التهكُّم من أحدث مخازي "المجتمع الدولي".
وعليه فإن الصفاقة هي أكثر كلمة مهذبة يمكننا أن نصف بها تقرير الأمم المتحدة عن جريمة العدو اليهودي ضد أسطول الحرية الذي انطلق العام الماضي من تركيا ويضم ناشطين من جنسيات شتى، يحملون معهم مواد غذائية وطبية لمساعدة أهل قطاع غزة الشجعان، الذين يحاصرهم الغزاة منذ سنوات، ويمنعون عنهم حتى حليب الأطفال!
فالحصار -وِفق هذا التقنين للظلم العلني- مشروع حتى لأرض يحتلها الصهاينة مع أن مبادئ القانون الدولي لم تترك معاملة الغاصب للأراضي المحتلة وأهلها كلأ مباحاً أو نهباً لـ"اجتهاداته" الظالمة ومصالحه المتعسفة ومزاجه الدموي. فهنالك واجبات تترتب على المحتل فضلاً عن الإصرار على أن الاحتلال ذاته يظل باطلاً ومن البديهي عند العقلاء كافة "أن ما يُبْنى على الباطل فهو باطل". وقتل المدنيين مباح وهم في المياه الدولية ما دام المعتدي يحمل نجمة داود المزعومة!
المذهل في موقف المنظمة الدولية أنها انتقلت من مهمة الشيطان الأخرس الذي يسكت عن الشهادة بالحق، إلى مرتبة الشيطان الصلف الذي يؤيد الجور ويناصر الظالم ويدين الضحية، بل يجوز لنا القول: إن الأمم المتحدة بسلوكها الشين هذا، تحوَّلت إلى تقنين الانحراف وتأصيله وإضفاء مشروعية زائفة عليه!
والأشد بؤساً وقبحاً؛ أن هذا التصرُّف غير الأخلاقي وغير الإنساني، جرى ضد دولة لها أنياب وأظفار هي تركيا، بقدراتها البشرية والاقتصادية والعسكرية، وبموقعها الحيوي ودورها الإستراتيجي في منطقة بالغة الأهمية وشديدة الحساسية، مع احتياج الغرب البالغ لتجاوب أنقرا مع توجهاته ومفاصل مصالحه الكبرى. فلنتخيل أن تكون المواجهة الراهنة بين قطعان الصهاينة ودولة صغيرة فقيرة وضعيفة!
والدليل أن الأتراك دافعوا عن موقفهم السليم بقوة منذ اللحظة الأولى لوقوع جريمة القرصنة الصهيونية على الأسطول؛ وها هم اليوم يتخذون خطوات إضافية لتأديب تل أبيب وإفهام حُمَاتها في عواصم الجور الصليبي، أن بلادهم ليست لقمة سائغة للذئاب المفترسة، وأن كرامتهم غالية، وأن ثمن المساس بها باهظ. فتخفيض التمثيل الدبلوماسي مع الكيان الصهيوني من درجة سفير إلى سكرتير ثانٍ، هي صفعة أولى في حساب مفتوح، لن يُغْلَق إلا باعتذار المعتدي السفيه عما اقترفت يداه الآثمتان، وتقديم تعويضات لكل من أوذي في تلك الجريمة الموصوفة.
وإذا كانت العقوبة الدبلوماسية معنوية مع عدو لا يقيم للقيم أي وزن؛ فإن حكومة العدالة والتنمية التركية سددت طعنة موجعة له، بمنع جميع أشكال التعاون العسكري والأمني والاقتصادي بين الجانبين.
ولا يغرنَّ أحداً مكابرة القادة الصهاينة وتظاهرهم باللا مبالاة إزاء ردود الفعل التركية، ولا تهوينهم من شأن تركيا نفسها، وادّعاء أن حاجتها إليهم أكبر وأهم من حاجتهم إليها!
فهم منذ قيام كيانهم الظالم يُهروِلون وراء دويلات صغرى ونائية لكي يخففوا من آثار نبذ المحيط العربي والمسلم لهم. فكيف بدولةٍ مثل تركيا تصفها معطيات الجغرافيا السياسية بأنها من أبرز بلدان الإقليم؟
وكيف إذا تزامن الغضب التركي مع مرحلة الربيع العربي؛ الذي يعد بتحولاتٍ حاسمة في إعادة تركيب المنطقة واستعادة توازن القوى، الذي بدَّده طغاة استأسدوا على شعوبهم وانبطحوا أمام الغرب وربيبته المعتدية على الأمة؟
إن الصراخ على قَدْر الألم! وليس إطلاق ساسة يهود صفة الدولة التي ترعى الإرهاب على تركيا، إلا تعبيراً عن مقدار الوجع الذي يستشعره الصهاينة من الحزم التركي، وهم الذين طالما تعودوا على استكانة الدول الكبرى في العالم، أمام غطرستهم غير المحدودة.
وفي المناسبة فإن هذه المواجهة السياسية والإعلامية الساخنة، تضطر المراقب المنصف لا شعورياً إلى مقارنة الجدية التركية في التصدي للصلف اليهودي، والدجل الإعلامي لدولة المجوسية الجديدة في إيران، التي تمطر العدو بكلام كبير مثل الدعوة لإزالة الكيان اليهودي من الوجود، في حين لا تفعل شيئاً على الأرض، بل إنها تلتقي مع الصهاينة في حماية نظام الخيانة في كل من دمشق وبغداد!
علماً بأن صناعة القرار التركي في مواجهة الاستفزازات الصهيونية عسيرة وشائكة؛ فتركيا عضو مؤسس في حلف شمال الأطلسي راعي كيان الظلم والتوسُّع، والتعاون بين أنقرا وتل أبيب يعود إلى أكثر من نصف قرن، عندما كان غلاة التغريبيين المستبدين بالأتراك، لا يصادقون في المنطقة كلها أحداً غير الكيان الصهيوني!
- التصنيف:
- المصدر: