«إنَّ الرجل ليُحرم الرِّزقَ بالذنب يُصيبه»
أنَّ ممَّا يضيق على العبد رزقَه: ذنوبَه؛ وذلك أنَّ الذنوب مانعة للتوفيق على الخير، ومجلبة للشر، فالحرمان عن رِزق التوفيق أعظمُ حرمان، وكل ذنب فإنه يدْعو إلى ذنب آخَر، ويتضاعف فيُحرم العبد به عن رزقه النافِع من مجالسة العلماء المنكِرين للذنوب، ومن مجالسة الصالحين، بل يمقُتُه الله تعالى ليمقتَه الصالحون.
عن ثوبانَ رضي الله عنه مولَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «
تخريج الحديث:
1- رواه ابن ماجة: [4022]، والنَّسائي في الكبرى، كما في التُّحفة للحافظ المزي: [2/133]، رقم: [2093]، وأحمد: [5/277]، [280-282]، وأبو يعلَى: [277]، وهنَّاد بن السري في الزهد: [1009]، ووكيع بن الجرَّاح في الزهد: [400]، والرُّوياني في مسنده: [1/408]، رقم: [626]، والطَّحاوي في المُشكِل: [4/169]، والطَّبراني في المعجم الكبير: [1442]، والحاكم: [3/458/6038]، والقضاعي: [2/115/1001]، وأبو بكر الدِّينوري المالكي في "المجالسة وجواهر العلم: [5/84/1892]، والبيهقي في الشعب: [7/258]، رقم: [10233]، وغيرهم كلهم مِن طُرق، عن سفيانَ عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن أبي الجعْد عن ثوبان مرفوعًا.
درجة الحديث:
حسَن دون الجملة الثالثة: « ».
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: "ابن أبي الجعد لم يُسمِّه، وسمَّاه بعضهم سالم بن أبي الجعد، وبعضهم: عبد الله بن أبي الجعد، فإن كان الأول فهو منقطع؛ لأن سالمًا لم يسمع من ثوبان، وإنْ كان الآخر، فهو مجهول كما قال ابنُ القطان، وإن وثَّقه ابن حبان، وقد أشار إلى ذلك الذهبي في الميزان فقال: وعبد الله هذا، وإنْ كان قد وثِّق، ففيه جهالة".
ثم أخرجه (الروياني: [162/1]) من طريق عمر بن شبيب: "حدَّثَنا عبد الله بن عيسى، عن حفص وعبيد الله بن أخي سالم، عن سالم، عن ثوبان به، وزاد: « ».
قلت: فهذا قد يرجِّح أنَّ الحديث مِن رواية سالم بن أبي الجعْد، لكن عمر بن شبيب ضعيف - كما قال الحافظ في "التقريب".
وأمَّا حفص وعبيد الله بن أخي سالم فلمْ أعرفهما.
فإنْ ثبت هذا الترجيح فهو منقطِع، وإلا فمتَّصل، لكن فيه جهالة كما سبق، فقول الحاكم عقبه: "صحيح الإسناد"، مردود وإنْ وافقه الذهبي؛ لجهالة المذكور، وقد صرَّح بها الذهبي كما تقدَّم!
وللحديث طريقٌ أخرى عن ثوبانَ، يرويه أبو علي الدارسي: حدَّثَنا طلحة بن زيد، عن ثور، عن راشد بن سعْد عن ثوبان.
(أخرجه ابنُ عدي: ق [34/1]) وقال: "أبو علي الدارسي بِشر بن عُبيد، مُنكَر الحديث، بيِّن الضعف جدًّا".
قلت: وكذَّبه الأزدي، وساق له في "الميزان" أحاديث، وقال: "وهذه أحاديثُ غير صحيحة، فالله المستعان"، ثم ساق له آخر، وقال فيه: "وهذا موضوع".
والخلاصة:
أنَّ الحديث حسن دون الزِّيادة فيه، فإني لم أجِدْ لها شاهدًا، بل رُوي ما يعارضها بلفظ: "إنَّ الرزق لا تُنقصه المعصية، ولا تَزيده الحسنة..".
قلت: ولكنه موضوع كما حققتُه في (الأحاديث الضعيفة؛ رقم: [179])، فلا يصلح لمعارضة الزِّيادة المشار إليها" ا. هـ.
قال الباحث: وتصحيح الحاكم لهذا الإسناد غريب؛ لأنَّ في إسناده عليَّ بن قَرين، وهو كذَّاب!
قال ابن الجوزي: "قال يحيى بن معين: لا يُكتَب عنه؛ فإنه كذَّاب خبيث، وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث، ليس بشيء، وقال البغوي وموسى بن هارون: كان يكذِب، وقال العقيلي وابن قانِع: كان يضَع الحديث، وقال الدارقطني: ضعيف" (الضعفاء والمتروكين؛ لابن الجوزي: [2/198]).
قلتُ (ابن الجوزي): "وهو الذي يَروي في بعضِ حديثه عنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «مَن كذَب عليَّ متعمدًا فليتبوأْ مقعدَه من النار» ثم يكذب!".
الخلاصة: الجملة الثالثة مِن الحديث ضعيفة جدّاً مِن عدَّة أوجه:
الأول: الاضطراب في سَنده حيث إنَّ بعضهم قال: عبد الله بن أبي الجعد، وبعضهم: سالم بن أبي الجعد، وبعضهم: عُبيد بن أبي الجعد.
الثاني: جهالة عبد الله بن أبي الجعد، حيث جهَّله ثلاثةٌ من الأئمَّة: يحيى القطَّان، والذهبي، وابن حجر، وذَكَره البخاري في "التاريخ"، ولم يعرف عن أمره شيئًا.
الثالث: الاضطراب في متْنه.
الرابع: استشهاد كثيرٍ من أئمة السلف الصالح بالجُملة الثالثة مِن الحديث في باب الرقائق دون العزوِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى إنَّ منهم مَن عدَّه ضمن الأحاديث المشتهرة على ألسِنة الناس مُشعرين بضعْفِها.
ومِن هؤلاء الأئمة: الغزي في (الجد الحثيث فيما ليس بحديث: [1/212])، و(السخاوي في المقاصد الحسنة: [1/192])، و(العجلوني في كشف الخفاء: [700])، و(ابن تيمية في الفتاوى: [14/154])، والله تعالى أعلمُ وأحْكَم.
شرح الحديث:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: « »، المراد بازديادِ العمر برَكتُه بأعمال الخير، والبار مَن يصِل الرحم[1]، والبِرّ يطيب عيشه، فكأنَّه زِيد فِي عمره (شرح السُّنة للبغوي: [7/13]).
2- قوله صلى الله عليه وسلم: « »؛ أنَّ دوام المرء عَلَى الدعاء يطيب لَهُ ورود القضاء، فكأنَّه رده (شرح السُّنة للبغوي: [7/13]).
3- قوله صلى الله عليه وسلم: « »؛ أي: الذنب يُكدِّر عَلَيْهِ صفاء رِزقه إذا فكَّر فِي عاقبة أمْره، فكأنَّه حرّمه (شرح السُّنة للبغوي: [7/13]).
بعض الحِكم التي ذكرها الأئمة عن هذا الحديث:
"إنَّ لله تعالى لطائفَ يُحدِثها بعبده المؤمِن؛ ليصرِفَ بها وجهه إليه، ويُقبِل بقلْبه عليه إذا شغل عنه باتباع شهْوة، واشتغال بنهمة؛ لأنَّ الله تعالى يحبُّ عبده المؤمن، والمحبُّ يحِب إقبالَ محبوبه عليه، ومواجهتَه له، وانصرافه إليه، ويَكره شغله عنه بغيرِه، وإعراضه عنه، فالمؤمِن إذا شغل بنهمته ورجَع إلى شهوته، وأقبل على غيرِ مولاه حرَمه مولاه رِزقَه الذي إليه ضرورته، وبه حاجتُه ممَّا به قوامه في معايشه، وعوز على أمْر معادِه، فيكون ذلك زجرًا منه له، وجذبًا إليه مما أقبل عليه، وصرفًا له عما شغل به إلى مَن شغل عنه، وتأديبًا ألاَّ يعود إلى مِثله كالطفل الذي تدْعوه أمُّه فيُعرِض عنها، ويعْدُو إلى لهو، فيعثر، فيقع، فيقوم، فيعْدو إلى أمِّه باكيًا، ويتلحَّى إليها شاكيًا، وكذلك المؤمن يُصيب الذنبَ بشهوة تغلبه، ونهمة لا يُقاومها، فيَحرِمه ربُّه رفقه، ويمنعه رزقه، فينتبه فيُعرِض عن شهوته، فيرفض نهمتَه، ويقبل على مولاه.
والذي يُبغِضه الله ممَّن كفَر به، وأشرك معه غيره، وأعْرض بقلبه عنه، فإنَّه يزيده مما يشغله به، ويصرِفه عنه بُغضًا له ومقتًا؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران من الآية:178].
وقال الله تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33]؛ ليشغلَهم بها عنه، ويُباعدهم عنه، فمَن أقبل إليه كفاه حوائجَه، وسهَّل له مرافقه، ورَزَقه من حيث لا يحتسب، ومَن يتق الله في الاشتغال بما دونه عنه يَكْفِه مؤنه، ويُخرِجه مما يَصرِفه عنه، ويقوم بكفايته؛ لئلاَّ يشغلَه عنه شاغل، بل يكون شغلُه به، ووجهه إليه، ومَن شُغِل بشيء دونه أَدَّبَهُ فحَرَمه رزقه، ومنعه رفقَه فيقبل عليه، ويرجِع عما شُغل به إليه، والرزق الذي يحرمه: الرِّفق مما يملكه، أو زوال ملكه عنه، وأن يلتويَ عليه أسباب رزقه، فيقدر عليه، ويعسر عليه مطلبه.
وقد يجوز أن يكونَ معنى الرِّزق الشُّكر؛ قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]، قيل في التفسير: "شكركم أنَّكم تكذبون، فيكون حرمان الرزق حرمانَ الشكر على النِّعمة، فيحرم الزيادة بحرمان الشُّكر، ومَن لم يكن في الزيادة فهو في النقصان".
وقوله: « »: يجوز أن يكونَ القدر سبق بالدعاء، كما سبق بالقدر فيصرِف المكروه المقدور بالدعاء المقدور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وسئل: أرأيت رُقًى نسترقها، ودواءً نتداوى؛ هل يردُّ مِن قدر الله تعالى؟
فقال: « »، هذا إذا كان القدر سبق بأن يردَّ المكروه مِن القدر بالدُّعاء، وإنْ كان المكروه مقدورًا أن يُصيبه، ويقَع به، فإنَّ الدعاء يزيل تسخُّط ذلك المكروه المقدور، ويكون الرِّضا به مقدورًا، كما كان المكروه مقدورًا، والمقدور إنما يكون مكروهًا؛ لأنَّه مؤلم مسخوط، شديد التحمُّل، فإذا زال التسخُّط صار المكروه محبوبًا، فكأن المكروه المقدور المؤلِم قد صُرِفَ عنه، وجرَى عليه مقدورٌ محبوب مُلِذ، كالإنسان يُسقَى دواء فيكرهه لمرارته وبشاعته، فيذوقه فلا يجِد له مرارةً ولا بشاعة، فيتلذَّذه، وإنما يصير المكروه محبوبًا بالدعاء؛ لأنَّ الدعاء تقرُّبٌ إلى الله تعالى، وإنما يتقرّب إلى الله تعالى من قَرَّبَه الله إليه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "مَن أُذن له بالدُّعاء لم يُحرم الإجابة"، فالداعي مقرَّب، فالمقرَّب مشاهَد، إمَّا أن يشهد عاقبة المكروه بالثواب الموعود في الآجِل، والمصروف عنه به مِن المكروه ما هو أشد منه في العاجِل، أو بشهود المقدَّر له.
وقوله صلى الله عليه وسلم: « »، يجوز أن يكون البِرّ مقدورًا للعبد أن يأتيَه، وتكون زيادة العمر مقدورًا بالبِرّ المقدور، ولو لم يكن البِرّ مقدورًا لم تكن زيادة العمر مقدورة.
ويجوز أن تكون زيادة العمر حسنَ الحال في مدَّة الحياة، والأجل المؤقَّت الذي لا يتأخَّر ولا يتقدَّم، وطيب الحياة في مدَّة الأجَل، كما قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وطيب الحياة بالارتفاق في معاشِه، واكتساب الطاعَة لمعاده، والبِرّ هو الطاعة لله تعالى فيما أمَر، والانتهاء عمَّا زَجَر، والرِّضا بما حكَم وقدَّر؛ قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
فالقصير من العُمر، واليسير مِن المدَّة؛ إذا حصَل مع الطاعة لله تعالى في أمْر الدِّين، والرِّفق في المعاش مِن الكفاية في المؤنة، وصون الوجْه، وكان العبد محمولاً في المكاره ميسرًا له اليُسرى، مصروفًا عنه العُسرى، صار القصير مِن العمر طويلاً.
ويجوز أن يكونَ المراد بالبِرّ برَّ الولد بوالديه، وبرّ الرجل ولده وقرابته وجيرانه، ومَن يعاشرهم، فمَن حسُنتْ عِشرته خَلْقَ الله طابتْ حياته، وفائدة العُمر طيب الحياة، والله أعلم" (بحر الفوائد؛ المسمَّى بمعاني الأخيار للكلاباذي: [1/230]).
فوائد استنبطها الأئمَّة مِن هذا الحديث:
1- فيه أنَّ ممَّا يضيق على العبد رزقَه: ذنوبَه؛ وذلك أنَّ الذنوب مانعة للتوفيق على الخير، ومجلبة للشر، فالحرمان عن رِزق التوفيق أعظمُ حرمان، وكل ذنب فإنه يدْعو إلى ذنب آخَر، ويتضاعف فيُحرم العبد به عن رزقه النافِع من مجالسة العلماء المنكِرين للذنوب، ومن مجالسة الصالحين، بل يمقُتُه الله تعالى ليمقتَه الصالحون.
2- وقال ابن حبَّان: "لم يُرِد به عُمُومه؛ لأنَّ الذَّنب لاَ يُحرم الرزق الَّذي رزق العَبْد، بل يُكدِّر عَلَيْهِ صفاءَه" (البدر المنير؛ لابن الملقن: [9/174]).
3- فيه أنَّ الإنسان "لَيُحْرَمُ" بالبِناء للمفعول؛ أي: يمنع "الرزق"؛ أي: بعض النِّعم الدُّنيوية والأُخروية، وحذف الفاعل لاستهجان ذِكره في مقام المرزوق "بالذنب يُصيبه"؛ أي: بشؤم كسبه للذنب، ولو بنسيان العِلم أو سقوط منزلتِه مِن القلوب أو قهْر أعدائه له.
« »؛ بمعنى: أنَّه يهوِّنه حتى يصيرَ القضاء النازل كأنَّه ما نزَل.
« ّ» بالكسر؛ لأنَّ البرَّ يطيب عيشه فكأنما زِيد في عمره (التيسير بشرح جامع الصغير؛ للمناوي: [1/570]).
4- ولهذا الحديث سرٌّ آخَر؛ "وهو أنَّ الحرمان قد يكون بالنسبةِ إلى الرِّزق المعنوي والرُّوحاني، وقد يكون مِن الرِّزْق الظاهِر المحسوس.
5- ولا يَقْدح فيه ما يُرى مِن أنَّ الكفرة والفسقة أعظمُ مالاً وصحةً مِن العلماء؛ لأنَّ الكلام في مسلم يُريد الله رفْعَ درجته في الآخرة، فيعقبه مِن ذنوبه في الدنيا.
6- فاللام في "الرجل" للعهدِ، والمعهود بعض الجنس مِن المسلمين" (فيض القدير؛ للمناوي: [2/421).
7- « »؛ "يعني: يُهوِّنه ويُيسِّر الأمر فيه، ويُرزق بسببه الداعي الرِّضا بالقضاء حتى يعدَّه نِعمةً، ذكره القاضي" (فيض القدير؛ للمناوي: [3/723]).
8- فيه بيان أنَّ تقوى الله مجلبةٌ للرِّزْق، "فترك التقوى مجلبة للفقْر، فما استجلب رِزق الله بمِثل ترْك المعاصي، ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلْبه بينه وبيْن الله، لا يوازنها ولايقارنها لذةٌ أصلاً ولو اجتمعتْ له لذَّات الدنيا بأسْرها لم تفِ بتلك الوحشة، وهذا أمرٌ لا يحسُّ به إلاَّ مَن في قلبه حياة" (الجواب الكافي لابن القيم: ص: [35]، دار الكتب العلمية - بيروت، دون سنة الطبع).
9- فيه: "أنَّ من عقوبات المعاصي أنها تَمْحَق بركة العمر وبرَكة الرِّزق، وبرَكة العِلم وبركة العمل، وبركة الطاعة، وبالجملة أنها تمحق برَكةَ الدِّين والدنيا، فلا تجد أقلَّ بركةً في عمره ودِينه ودنياه ممَّن عصَى الله، وما مُحقِت البركة من الأرض إلا بمعاصى الخَلْق" (الجواب الكافي لابن القيم: ص: [56]).
10- قال ابن تيمية: "وقولُ القائل: قد نَرى مَن يتَّقي وهو محروم، ومَن هو بخلاف ذلك وهو مرزوق.
فجوابه: أنَّ الآية اقتضتْ أنَّ المتَّقي يُرزق من حيث لا يحتسب، ولم تدلَّ على أنَّ غير المتقي لا يُرزق؛ بل لا بدَّ لكلِّ مخلوق مِن الرزق؛ قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود من الآية:6]، حتى إنَّ ما يتناوله العبدُ مِن الحرام هو داخلٌ في هذا الرزق.
فالكفَّار قد يُرزقون بأسباب محرَّمة وُيرزقون رزقًا حسنًا، وقد لا يُرزقون إلا بتكلُّف.
وأهل التقوى يرزقهم الله مِن حيث لا يحتسبون، ولا يكون رِزقهم بأسباب محرَّمة ولا يكون خبيثًا، والتقي لا يُحرَم ما يحتاج إليه مِن الرِّزق، وإنَّما يُحمَى من فضول الدنيا؛ رحمةً به، وإحسانًا إليه؛ فإنَّ توسيع الرزق قد يكون مضرةً على صاحبه، وتقديره يكون رحمةً لصاحبه.
قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15-16]؛ أي: ليس الأمر كذلك، فليس كلُّ مَن وُسِّع عليه رِزقه يكون مكرَّمًا، ولا كل مَن قُدِر عليه رِزقه يكون مُهانًا؛ بل قد يوسَّع عليه رزقه إملاءً واستدراجًا، وقد يُقدَّر عليه رزقه حمايةً وصيانةً له، وِضيق الرزق على عبد مِن أهل الدِّين قد يكون لما له مِن ذنوب وخطايا.
كما قال بعض السلف: "إنَّ العبد ليُحرَم الرِّزق بالذنب يُصيبه"، وفي الحديث عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « »، وقدْ أخبر الله تعالى أنَّ الحسنات يُذهِبْن السيئات، والاستغفار سببٌ للرِّزق والنعمة، وأنَّ المعاصي سببٌ للمصائب والشدَّة... "(مجموع الفتاوى: [16/53]) ا. هـ.
هذا، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحْبه أجمعين
والحمد لله ربِّ العالَمين
____________
[1] (سنن ابن ماجة: [2/1334] مع تعليقات محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر - بيروت).
عبد الملك بن ظافر الماجوني الكوسوفي
- التصنيف: