كن مبادرًا

منذ 2013-11-24

فقد آن الأوان أن نتأهب لننطلق في رحلة المبادرة؛ إذ أن المسلم هو رجل المبادرة والإنجاز، هو رجل الفاعلية، وكان ما سبق وضعًا للنقاط على الحروف، حتى تجلس مع نفسك جلسةَ مصارحةٍ ومكاشفة، تأخذ من خلالها عهدًا جديدًا على نفسك أن تبدأ حياة ملؤها الفاعلية والمبادرة والإنجاز وتُرِيَ الله روعة أعمالك.

 

في سن الخامسة والثلاثين، كان "بيل جيتس" قد كون ثروة تزيد عن 5 بلايين دولار، أما اليوم فإنه يُعَدُ من أغنى الرجال في العالم، وتقول صحيفة "نيويورك تايمز": "كشابٍ صغير تمكّن بيل جيتس من رؤية المستقبل وأصبح مليونيرًا".

تخلَّف "بيل جيتس" عن دراسته في جامعة "هارفارد" لكي يتمكن من كتابة برنامج كمبيوتر لجهاز "ألتير 8800"، وكانت هذه هي بداية شركة "مايكروسوفت" العملاقة.

الكثيرون من الناس لا يعرفون أن "مايكروسوفت" لم تكن شركته الأولى؛ فقد قام بإنشاء شركتين قبلها عندما كان في الرابعة عشر من عمره، لم تدم هاتان الشركتان سوى القليل، ولكن اليوم ورغم أنه لا يزال بدون شهادة جامعية فإن "بيل جيتس" هو رئيس أسرع شركات البرامج نموًا في العالم، والتي يعمل بها أكثر من 8000 موظف.

إنه يعمل الآن ليس على التنافس في سوق اليوم بل في سوق الغد (اضغط الزر وانطلق، روبين سبكيولاند، ص: [97])!


لقد كان شابًا في قمة المبادرة، وهكذا ينبغي أن يكون كل شاب، حتى يملأ شبابه نجاحًا وإنجازًا، ولعل كثير من الشباب يسألون.

ما هي المبادرة؟

قبل أن أجيبك عن هذا السؤال أطلب منك أن تجيب على الأسئلة الآتية بحيادية وموضوعية:


- هل تقضي كثيرًا من الوقت في مهامٍ صغيرةٍ تافهة؟

- هل تبقى في نفس الوظيفة المملة لأنك اعتدت عليها؟

- هل ترسل بطاقات التحية في المناسبة بعد مرور وقتها بفترة كبيرة؟

- هل تترك مكتبك وغرفة نومك في حالة من الفوضى برغم عزمك على ترتيبهما منذ فترة طويلة؟

- هل تؤخِّر العمل في مشروعاتك للحظات الأخيرة؟

إذا كانت أغلب إجاباتك بـ"نعم" على هذه الأسئلة فيمكننا أن نستنتج بأنك تعاني من نقص المبادرة.

هذا ليس قدحًا في ذاتك، أو تقليلًا من قيمتك؛ لكنها وقفة صادقة لاستدراك ما مضى من عمرك دون أن ترفع للخير راية.

ولا عجب أنني أخاطبك الآن بهذا الكلام، فأنت تمتلك الكثير من القدرات العظيمة التي تؤهلك لأن تكون قائدًا عملاقًا، إلا أن هذه القدرات العظيمة قد استنفذت في المماطلة، ولن يتمكن أحد من إحيائها إلا أنت (قوة المبادرة؛ د. محمد العطار).

المبادر والانفعالي:


يُعرِّف لنا "ستيفن كوفي" روح المبادرة فيقول: "إنها تعني أننا بصفتنا من بني البشر، فإننا مسئولون عن حياتنا، إن سلوكنا هو تعبير عن قراراتنا وليس عن ظروفنا، إننا نستطيع أن نخضع المشاعر للقيم إننا نملك المبادرة والمسئولية لصنع الأحداث.

تأمَّل كلمة "مسئولية" أي القدرة على الاستجابة... القدرة على اختيار استجابتك، ويدرك الأشخاص الذين يملكون روح المبادرة العالية هذه المسئولية، إنهم لا يلقون باللوم على الملابسات أو الظروف أو التكيف لتبرير سلوكهم، إن سلوكهم هو نتاج خيارهم الواعي المرتكز على القيم أكثر من كونه ظروفهم المرتكز على المشاعر" (العادات السبع للناس الأكثر فعالية، ستيفن كوفي، ص: [100]).

وبالنسبة للشخص الانفعالي فهو على العكس تمامًا من الشخص المبادر، فتجد أن لغته دائمًا سلبية، فهو دائم الترديد ضحية الظروف والأوضاع الخارجية، إنه يرى نفسه مجبورًا على ما هو فيه، لا يملك من أمر نفسه شيئًا ولا يستطيع أن يصنع شيئًا تجاه الأحداث، إنه يرى أن التغيير يأتي من الخارج لا من الداخل، إنه يريد أن يهرب من الواقع ومن الحياة بأن يعلق شماعة فشله عليها.

لماذا أنت مبادر؟

إنها مجموعة من الأمور الدالة على قدرتك الفطرية بأن تكون مبادرًا، تلك القدرات التي زوّدك بها ربّ العالمين سبحانه وتعالى، ولكن الكثير ـمع الأسفـ يغفل عنها أو لا يدركها من الأساس، ولهذا نسوقها لك لنثبت لك أنك قادرٌ بإذن الله على أن تكون مبادرًا وإيجابيًا.

أولًا ـ القدرة على الاختيار:


لقد خلق الله تعالى الإنسان ولديه القدرة على أن يختار بين الصواب والخطأ وبين الخير والشر، لم يخلقه مجبورًا على فعلٍ معين، إنها الأمانة التي عُرِضَت على السماوات والأرض والجبال فأبين حملها وحملتها أنت كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً} [الأحزاب:72]، إنها أمانة التكليف، إنها أمانة حرية الإرادة.

يقول صاحب الظلال: "وهذا القمر، وهذه النجوم والكواكب، وهذه الرياح والسحب، وهذا الهواء، وهذا الماء، وهذه الجبال، وهذه الوهاد، كلها كلها تمضي لشأنها، بإذن ربها، وتعرِف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة، لقد أشفقت من أمانة التبعة، أمانة الإرادة، أمانة المعرفة الذاتية، أمانة المحاولة الخاصة.

{وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ}، الإنسان الذي يَعرِف الله بإدراكه وشعوره، ويهتدي إلى ناموسه بتدبُّره وبصرِه، ويعمل وِفق هذا الناموس بمحاولته وجهده، ويُطيع الله بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزغاته، ومجاهدة ميوله وشهواته، وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد، مدرِك، يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق! إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، المحدود العمر، الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع".

ويتابع قائلًا: "إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى، وهو يسجد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسرا ء من الآية:70]، فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها!

ذلك كان {لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:73].

فاختصاص الإنسان بحمل الأمانة وأخذه على عاتقه أن يعرف بنفسه، ويهتدي بنفسه، ويعمل بنفسه، ويصل بنفسه، هذا كان ليحتمل عاقبة اختياره، وليكون جزاؤه من عمله، وليحق العذاب على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، وليمد الله يد العون للمؤمنين والمؤمنات، فيتوب عليهم مما يقعون فيه تحت ضغط ما ركب فيهم من نقص وضعف، وما يقف في طريقهم من حواجز وموانع، وما يشدهم من جواذب وأثقال، فذلك فضل الله وعونه، وهو أقرب إلى المغفرة والرحمة بعباده: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}" (في ظلال القرآن، سيد قطب، ص: [2285]).

جنة شيخ الإسلام:


وقبل أن نظن أن تلك المبادرة والفاعلية في شخصية فرانكل هي حالة فريدة لها السبق في ذلك، فلنقلب صفحات تاريخ لنرى فيها أنموذجًا واقعيًّا يجسد هذه الحقيقة بصورة أعظم وأشمل، إنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لقد سطّر ذلك العملاق الفذ كلماتٍ من نور، ترسَّخت في وجدانه فأضحت حريته وسعادته نابعة من داخله وصارت جنته بين ضلوعه، فبعد أن كان يلتف حول حلقته مئات الآلاف في جوامع الشام ومصر، يجد نفسه مرة واحدة في قلعة الشام سجينًا، يتعرّض لصنوف الإيذاء والامتهان.

إنه موقف قد يُصيب أي إنسان بإحباط ويأس وقنوط، ولكن أنّى للحُرّ أن تتسلّل تلك المشاعر إلى نفسه أو أن تتمكّن منه؛ فما كان منه إلا أن صاغ تلك الكلمات الخالدة التي خرجت من أعماق قناعاته: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رُحتُ فهي معي، لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة" (ذيل طبقات الحنابلة؛ لابن رجب: [1/344]).

إنها الحرية الإنسانية في أبهى صورها، وحرية الاختيار في أسمى هيئاتها، مبدأ المبادرة الأول، أنت تستطيع أن تتخذ القرار الذي تريد بحرية تامة دون أن تجبرك حتمية الوراثة أو التربية أو البيئة السلبية، ومن ثم فأنت متحكم في أفعالك وسلوكياتك ولست مجبورًا عليها.

ثانيًا: الملكات الأربع:


إنك تحوز الملكات الإنسانية الأربع، فقد وهب الله تعالى الإنسان ملكات عدة، منها تلك الملكات الإنسانية الأربع، التي تُميِّزه عن سائر المخلوقات، وهي التي تُمكِّن الإنسان من أن يكون مبادرًا ومن أن يختار استجاباته في مختلف الظروف، وأن يتصرّف وِفق قيمه ومبادئه لا وِفق ما أهوائه وانفعالاته، وهذه الملكات هي:

أ‌- إدراك الذات.

ب‌- الخيال المبدع.

ج- الضمير الحي.

د- الإرادة المستقلة.

ثالثًا: لا يظلم الله أحدًا


إن الله عز وجل ليس بظلامٍ للعبيد، فلو كان الإنسان مجبورًا على الفشل أو ليست لديه القدرة على أن يبادر ويُغيّر من نفسه نحو الأفضل لكان هناك ظلم، ولكن الله يعلم أن إرادة الإنسان فوق كل شيء، وأنه قادر على تغيير نفسه وتغيير عاداته؛ ولذا سيحاسبه يوم القيامة وِفق ما فعل.

وفي الختام:


فقد آن الأوان أن نتأهب لننطلق في رحلة المبادرة؛ إذ أن المسلم هو رجل المبادرة والإنجاز، هو رجل الفاعلية، وكان ما سبق وضعًا للنقاط على الحروف، حتى تجلس مع نفسك جلسةَ مصارحةٍ ومكاشفة، تأخذ من خلالها عهدًا جديدًا على نفسك أن تبدأ حياة ملؤها الفاعلية والمبادرة والإنجاز وتُرِيَ الله روعة أعمالك.
 

 

محمد السيد عبد الرازق
 

المصدر: مفكرة الإسلام
  • 3
  • 0
  • 6,304

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً