تسلو المصيبات وتنسى النقم

منذ 2013-11-24

صور الظلم في حياتنا كثيرة وكلنا إلا من رحم ربك، ظالم لنفسه وذلك باتباع الشهوات وإهمال الواجبات، وتلويث نفسه بآثار أنواع الذنوب والجرائم والسيئات، من معاصي لله ورسوله..


صور الظلم في حياتنا كثيرة وكلنا إلا من رحم ربك، ظالم لنفسه وذلك باتباع الشهوات وإهمال الواجبات، وتلويث نفسه بآثار أنواع الذنوب والجرائم والسيئات، من معاصي لله ورسوله، قال جل شأنه: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33]؛ فكل أحد منا قد يظلم قريب له أو عاملا عنده، والدولة قد تظلم رعاياها أو قد تظلم دولة أخرى، والجار قد يظلم جاره، والأب قد يظلم أحداً من أبناءه، والأم قد تظلم ابناً أو بنتاً من بناتها، وحتى الحيوان قد يظلم أخيه ولكن الله يقتص للبشر والأمم والحيوانات إن آجلاً أو عاجلاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (رواه البخاري ومسلم).

وكان يزيد بن حاتم يقول: "ما هبت شيئًا قط هيبتي من رجل ظلمته، وأنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله، فيقول: حسبي الله، الله بيني وبينك!"، فيا ظالمًا للضعيف! أتنام آمنًا؟ وها هي الأكف التي ظلمتها ترفع بالدعاء عليك، وأنت غافل لا تشعر! وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الظلم، وتوعد الظالمين أشد الوعيد، فقال تعالى في سورة إبراهيم: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]، وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين» (متفق عليه). يقول الحسن: الظلم ثلاثة: ظلم لا يغفر، وظلم يغفر، وظلم لا يترك، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، وأما الظلم الذي لا يترك فظلم الناس بعضهم بعضاً، وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه يومًا فقال: «أتدرون ما المفلس؟، قالوا: الْمُفْلِسُ فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعْطَي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيتْ حسناته قبل أن يقْضِي ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار» (رواه مسلم والترمذي)، وقد حث النبي على أداء الحقوق إلى أصحابها، قبل أن يأتي يوم القيامة فيحاسبهم الله على ظلمهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَتُؤَدَّن الحقوقُ إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقَاد (يُقْتَص) للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» (مسلم)؛ (الشاة الجلحاء) هي التي بلا قرون، و(الشاة القرناء) هي التي لها قرون، تأتي شاة في الدنيا لها قرون تستقوي على شاة بلا قرون فتنطحها، فتأتي الشاة بلا قرون في الآخرة فتأخذ حقها من الشاة التي نطحتها وتقتص منها، إذن فكل مخلوق سيأخذ حقه يوم القيامة، ليس الإنسان فقط ولكن كل مخلوق سيأخذ حقه كاملًا ممن ظلمه يوم القيامة، فكيف يكون حالنا نحن البشر أن كان هذا حال الحيوانات في ذلك الموقف المهيب؟
 

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً *** فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم


فكم من ظالم تجده راتعًا في أموال اليتامى مسرفًا في أكلها! وقد توعد الله تعالى هذا الصنف بالنار، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. يقول الشيخ أزهري أحمد محمود في كتابه (الظلم) إنه ذلك الاسم الذي جمع الرذائل! ودل على القبائح! والظلم اسم تبغض سماعه الآذان، وتتأفف من النطق به الألسنة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى، «قال الله تعالى: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا» (رواه مسلم).

الظلم هو وضع الشيء في غير محله باتفاق أئمة اللغة. وقد حرمه الله سبحانه وتعالى على نفسه وحرمه على الناس، فقال سبحانه وتعالى فيما رواه رسول الله في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا» (رواه مسلم).

وفي وصية سلمان الفارسي لجرير بن عبد الله رضي الله عنهما: يا جرير تدري ما ظلمة النار؟! قال: لا. قال سلمان: فإنه ظلم الناس بعضهم بعضًا في الأرض! نعم كلنا ظالم لنفسه ومؤكد ظالم لغيره والظالم دائماً يرفض أن ينادى بين الناس بالظالمين والظلم قد يكون كبيراً أو صغيراً وقد يكون لمرة واحدة أو مستمراً قد يكون ظلماً بكلمة أو كلمات قبيحات وقد يكون ظلماً في الأموال وقد يكون ظلماً من نوع آخر لذا تعوذ منه رسولنا الكريم عليه أفضل الصلوات وأزكي التسليم بقوله: «تعوذوا بالله من الفقر، والقلة، والذلة، وأن تظلم، أو تظلم»، فإذا قتلت نفساً بغير حق فهذا ظلم بين وإذا أكلت حق مسكين أو يتيم فهذا ظلم بين قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

وإذا ظلمت الناس في عمل أو شراكة أو ورثة أو بيع، والمحاباة في التوظيف الحكومي والمماطلة في قضاء الدين ونحوه ظلم بين يدعو للاستغفار وإعادة المظالم إلى أهلها، واعلم أخي الكريم وأختي الكريمة أن نار الظلم لا ترحم! وعقاب الظالم إذا حل عقاب لا يوصف! فالظلم ببساطة هلاك للأفراد، وخراب للديار والدول، قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "يوم المظلوم على الظالم، أشد من يوم الظالم على المظلوم!"، وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: "أول ما كتب في الزبور: ويل للظلمة"، قال بعض الحكماء: "إنه ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة، أو تعجيل نقمة من إقامة ظالم على ظلمه!" كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: أما بعد: فإن مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمها به، فوقع في كتابه: "أما بعد: فحصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم، فإنه مرمتها والسلام!"

ولما بعث رسولنا الكريم معاذ بن جبل إلى اليمن زوده بوصايا غالية في الدين والدنيا بقوله عليه الصلاة والسلام: «واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»! وقال رسولنا الكريم: «اتقوا الظلم ما استطعتم؛ فإن العبد يجيء بالحسنات يوم القيامة، يرى أنها ستنجيه، فما زال عبد يقوم يقول: يا رب ظلمني عبدك مظلمة، فيقول: امحوا من حسناته، وما يزال كذلك، حتى ما يبقى له حسنة من الذنوب»، ولعل الشاعر العربي اكتوى بظلم أقرب الأقربين إليه فعبر عن ذلك شعرا بقوله:


وظلم ذوي القربي أشدّ مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهندِ


وقال أبو العتاهية في الظلم:

ستعلم يا ظلوم إذا التقينا *** غداً عند الإله من الظلوم
أما والله إنَّ الظُّلم شؤمٌ *** وما زال المسيء هو الظَّلوم
إلى دياَّن يوم الدّين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا *** غداًعند الإله من الملوم


وقال آخر:

يا أيها الظالم في فعله *** فالظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى *** تسلوا المصيبات وتنسى النقم

يقول المتنبي:

والظلم من شيم النفوس فإن *** تجد ذا عفة فلعله لا يظلم


هل ذهب الوفاء دون عودة؟
أتى شابّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهما يقودان رجلاً من البادية، فأوقفاه أمامه.. ‏قال عمر: ما هذا؟ ‏قالا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا فسأله عمر: أقتلت أباهم؟ ‏قال: نعم قتلته! كيف؟ قال: دخل بجمله في أرضي، فزجرته، فلم ينزجر، فأرسلت عليه ‏حجراً، وقع على رأسه فمات... فتم الحكم على الرجل بالإعدام، وقبل التنفيذ ‏قال الرجل: يا أمير المؤمنين: أسألك بالذي قامت به السماوات والأرض ‏أن تتركني ليلة، لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم ‏بأنك ‏سوف تقتلني، ثم أعود إليك، والله ليس لهم عائل إلا الله ثم أنا.
قال عمر: من يكفلك؟ حتى تذهب إلى البادية، ثم تعود إليَّ؟
‏فسكت الناس جميعاً؛ لأنهم لا يعرفوا عنه شيئاً.. فتحير عمر هل يُقدم فيقتل الرجل، وأطفاله يموتون جوعاً هناك أو يتركه فيذهب بلا كفالة، والتفت إلى الشابين: أتعفوان عنه؟
قالا: لا، من قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين.. ‏قال عمر: من يكفل هذا أيها الناس؟! ‏فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته وزهده، وصدقه، وقال: ‏يا أمير المؤمنين، أنا أكفله، قال عمر: هو قَتْل، قال: ولو كان قاتلاً! ‏قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: كيف تكفله؟ ‏قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين، فعلمت أنه لا يكذب، وسيأتي إن شاء‏ الله. قال عمر: يا أبا ذرّ أتظن أنه لو تأخر بعد ثلاث أني تاركك! ‏قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين.. ‏فذهب الرجل، وأعطاه عمر ثلاث ليالٍ، يُهيئ فيها نفسه، ويُودع ‏أطفاله وأهله، وينظر في أمرهم بعده، ثم يأتي، ليقتص منه لأنه قتل.

وبعد انتهاء المهلة، نودي في المدينة: الصلاة جامعة، فجاء الشابان، واجتمع الناس، وأتى أبو ‏ذر ‏وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟
قال: ما أدري يا أمير المؤمنين! ‏وقبل الغروب بلحظات، وإذا بالرجل يأتي، فكبّر عمر، وكبّر المسلمون ‏معه، ‏فقال عمر: أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك، ما شعرنا بك ‏وما عرفنا مكانك! ‏قال: يا أمير المؤمنين، والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى! ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ‏ الطير لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل.. وخشيت أن يقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس، فسأل عمر بن الخطاب أبو ذر لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يقال لقد ذهب الخير من الناس، ‏فوقف عمر وقال للشابين: ماذا تريان؟ ‏قالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه.. وحتى لا يقال لقد ذهب العفو من الناس! ‏قال عمر: الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته..... ‏جزاكما الله خيراً أيها الشابان على عفوكما، وجزاك الله خيراً يا أبا ‏ذرّ، ‏يوم فرّجت عن هذا الرجل كربته، وجزاك الله خيراً أيها الرجل ‏لصدقك ووفائك.


سليم عثمان أحمد
 

  • 9
  • 0
  • 24,087

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً