انقياد النفوس للقرآن
لقدْ أنزَل الله سبحانه وتعالى كِتابه القُرآن الكَريم، وضمَّنه أسْرارَه، وشرَح فيه تَعاليم دِينه، وجَعَل أمثالَه عِبَرًا لمَن تدبَّرها، وأوامِرَه هُدًى لمَن استعْبَرها، وشرَح فيه واجباتِ الأحْكام، وفرَّق فيه بين الحَلال والحَرام، وكرَّر فيه المَواعِظ والقَصَص للأفْهام، وقصَّ فيه غَيبَ الأخْبار..
- التصنيفات: أعمال القلوب -
قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].
يا إخوة الإسلام: لقدْ أنزَل الله سبحانه وتعالى كِتابه القُرآن الكَريم، وضمَّنه أسْرارَه، وشرَح فيه تَعاليم دِينه، وجَعَل أمثالَه عِبَرًا لمَن تدبَّرها، وأوامِرَه هُدًى لمَن استعْبَرها، وشرَح فيه واجباتِ الأحْكام، وفرَّق فيه بين الحَلال والحَرام، وكرَّر فيه المَواعِظ والقَصَص للأفْهام، وقصَّ فيه غَيبَ الأخْبار؛ قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. وجعَل للعُلماء مِن بعْد الرَّسول استِنباطَ ما فيه على ما بيَّنه وأشارَ إلى أصوله؛ ليتوصَّلوا بالاجتهادِ فيه إلى عِلْم المُراد؛ قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. فصار الكتاب أصلاً، والسُّنَّة بيانًا، واستِنباط العُلَماء إيضاحًا وتِبيانًا، وتَحدَّى الجنَّ والإنسَ أن يأتوا بمِثلِه؛ فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وأرشَدَنا الرَّسولُ عامَّةً إلى التمسُّك به والاستِفادة منه؛ قال عليه الصلاة والسلام: «تَركتُ فيكم ما إنْ تمسَّكتُم به لن تَضلُّوا بعْدي أبدًا: كتابَ الله وسُنَّتي». وشاءَتْ حِكمةُ الله أن يُطلِع بعضَ نُفوسِ خَلْقه على إعجاز كِتابِه، فانشَرحتْ صُدورُهم له، واستقامَتْ جَوارِحُهم معه، وتَفتَّحتْ عُقولهم على هَديِه، فأدْركُوا قدْرَه، وكانتْ عِندهم الشَّجاعةُ؛ فأعْلَنوا الانضِمامَ إلى الإسلام والإيمان بِرسالة خَير الأنام. ونَستطيع أن نَضعَ على رأس هؤلاء سيِّدَنا عُمَرَ بن الخطَّاب؛ فقد رُوي عَنه أنَّه خرَج مُتوشِّحًا سَيفه يُريد رسولَ الله ورهطًا مِن أصْحابه قد اجتَمعوا في بيتٍ عِند الصَّفا، وهُم قريبٌ مِن أربعين بين رجال ونِساء مع رسولِنا مُحمَّد مِنهم عمُّه حَمزةُ، وأبو بكْر وعليُّ بنُ أبي طالبٍ، فلَقِيه نُعَيمُ بن عبْد الله فقال: أين تُريد يا عُمر؟ فقال: أُريد مُحمَّدًا، هذا الصَّابئ الذي فرَّق أمْرَ قُريش، وسفَّه أحْلامَها، وعابَ دِينها، وسبَّ آلِهتَها فأقْتُله.
فقال نُعيم: واللهِ لقدْ غرَّتْك نَفسُك يا عُمر؛ أَتَرى بَني عبْد مَنافٍ تارِكيكَ تَمشي على الأرْض وقدْ قَتلتَ مُحمَّدًا؟ أفَلا تَرجِع إلى أهْل بَيتِك فتُقيم أمْرَهم؟ فقالَ: وأيُّ أهْل بَيتي؟ قال: لقَدِ الْتحقتْ أُختُك فاطِمةُ وزوجُها سَعيد بن زيد بِمُحمَّد، وأسلَما وتابَعَا مُحمَّدًا على دِينه، فعليكَ بِهما.
فرجَع عُمَرُ إلى أختِه وزوجِها، وعِندهما خبَّاب في مَخدَعٍ لَهم، ولمَّا شارَف الدَّار سَمِع صَوت تِلاوة فأيقَن بِصدقِ ما سمِع، فثارَ وانْدفع إلى الدَّار غاضِبًا، فلمَّا أحسُّوا به اختفى خباب وأخْفتْ أختُه الصحيفةَ تحت فخذِها، ولمَّا دخَل قال: ما هذه الهينمةُ التي سمعتُ؟ قالا: ما سمعتَ شيئًا! قال: بلى واللهِ لقد أُخبِرتُ أنَّكما تابعتُما مُحمدًا على دِينِه وبطَش بسعيدٍ فقامتْ إليه أختُه فاطمةُ؛ لِتمنعَه عن زوْجِها فضَربَها فشجَّها، فلما فعَل ذلك قالتْ له أختُه: نعم، قد أسْلمْنا وآمنَّا باللهِ ورسولِه، فاصْنع ما بدَا لكَ يا عمرُ، فلمَّا رأى عمرُ ما بأختِه من الدَّم ندِم على ما صنَع، وقال لها: أعطيني الصحيفةَ التي سمعتُكما تَقرآنِ آنفًا؛ أنظرُ ما هذا الذي جاء به محمدٌ وقرأ فيها قولَ الحقِّ: {طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى . تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى . الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى . لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى . وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى . اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 1- 8].
ولمَّا قرأ هذه الآياتِ قال: ما أحسنَ هذا الكلامَ وأكرمَه! فلمَّا سمِع خبَّابٌ ذلك خرَج، فقال: يا عمرُ، واللهِ إنِّي لأرجو أنْ يكونَ اللهُ قد خصَّكَ بدعوة نبيِّه فإنِّي سمعتُه أمْس يقولُ: "اللَّهم أيَّد الإسلام بأيِّ العُمَرين: الحَكم بن هشام، أو بعُمر بن الخطَّاب، فاللهَ اللهَ يا عمرُ، فقال عمر: دُلَّني على محمدٍ فدلَّه، فوصَل إلى الدَّارِ التي بها الرسولُ، فضرَب البابَ، فنظر رجلٌ من أصْحابِ الرسولِ من خلال الباب فرأى عمر مُتوشِّحًا بالسَّيف، فرجَع إلى الرسول وهو فزِعٌ وأخْبر الرَّسولَ، فقال حمزةُ: نأذنُ له يا رسولَ اللهِ، فإنْ كان يُريدُ خيرًا بذَلْناه له، وإنْ كان يُريدُ شرًّا قَتلْناه بسيفِه، فقال الرَّسولُ: ائذنْ له، ثُمَّ قام الرسولُ حتَّى لَقيهُ بالحُجرةِ فأخَذ بِمَجْمعِ رِدائِه ثم جبَذه جبذةً شديدةً، وقال: ما جاء بكَ يا ابن الخطَّاب؟ فو اللهِ ما أَرى أنْ تنتهي حتَّى يُنزلَ اللهُ بكَ قارعةً، فقال عمرُ: يا رسولَ اللهِ جئتُ لأشهدَ أنْ لا إله إلا اللهُ وأنَّكَ عبدُ اللهِ ورسولُه، فكبَّر أهلُ البيتِ تكبيرةً ارتجَّتْ لها أجواءُ مكَّةَ كلُّها.
ونَهَج هذا النهج كثيرٌ من الفُصحاءِ والبُلَغاءِ الذين عَرَفَوا فصاحةَ القرآنِ وبلاغتَه، وعَرَفَوا أنَّه مُنزَّلُ من عندِ اللهِ، فأعْلنُوا إيمانَهم بشجاعةٍ ودخَلوا الإسلامَ؛ روى الإمامُ أحمدُ أنَّ صَعْصةَ بنَ معاويةَ عمَّ الفرزدقِ الشاعِرِ المعروفِ أتى النبيَّ وسمِع منه آيتيْن: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7- 8]، فقال: حَسْبي لا أُبالِي أنْ لا أسمع غيرَها [1]. وكذلك لبيدٌ الشاعِرُ المعروفُ الذي عاش مع الشِّعرِ أربعين سنَةً، سمِع القرآنَ وشَهِد القرآنَ وشهِد بفصاحتِه وبلاغتِه، وأنَّه ليس من كلامِ البشرِ، فآمَن باللهِ وشهِد وصدَّق برسولِ اللهِ، وامْتنع عن قولِ الشِّعرِ، وكان كلَّما طُلِب منه أنْ يقولَ شِعْرًا قرأ سورةً مِن القرآنِ، ثُمَّ يقولُ: أَأقولُ شعرًا بعدَ ذلك؟! ولم يُروَ عنه أنَّه قال شِعرًا بعد إسلامه غير بيتٍ واحدٍ.
الحَمْدُ للهِ إِذْ لمَ ْيَأْتِنِي أَجَلِي *** حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِربَالاَ
وصِنفٌ آخرُ مِن النَّاسِ سمِعوا القرآنَ وأُعجِبوا بفصاحته وبِلاغَته، ولكنَّهم لم يَملِكوا الشجاعةَ ليُعبِّروا عن إسْلامِهم، ومِن هؤلاء عُتبةُ بنُ رَبيعةَ؛ فقد رُوي أنَّه كان جالسًا يومًا في نَادي قريشٍ، ورسولُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ وحدَه، فقال: يا معشرَ قريشٍ، ألا أقومُ إلى محمدٍ فأُكلِّمه وأعْرِض عليه أمورًا لعلَّه يَقبَلُ بعضَها، فنُعطيه أيّها شاء، ويكُفّ عنَّا؟ فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقُمْ إليه فكلِّمه، فقام إليه حتَّى جلَس إلى رسولِ اللهِ فقال: يا ابنَ أخي، إنَّكَ منَّا حيثُ قد علِمتَ مِن السِّطَة في العشيرةِ والمكان في النَّسبِ، وإنَّكَ قد أتيتَ قومَكَ بأمرٍ عظيمٍ؛ فرَّقتَ به جماعتَهم، وسفَّهتَ أحلامَهم، وعِبتَ آلهتَهم ودِينَهم، وكفَّرتَ به مَن مَضى مِن آبائهم، فاسْمع منِّي أعْرض عليكَ أُمورًا لعلَّكَ تَقبلُ منَّا بعضَها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا أبا الوليد أَسمعْ، فقال: إنْ كنتَ تُريدُ مالاً جمَعْنا لكَ مِن أموالِنا حتَّى تَصيرَ أكثرَنا مالاً، وإنْ كنتَ تُريدُ مُلكًا ملَّكناكَ علينا، وإنْ كنتَ تُريدُ رئاسةً جعلناكَ رئيسًا علينا؛ فلا نقْطعُ أمرًا دونَكَ، وإنْ كان هذا الذي يأتِيكَ رِئيًا مِن الجنِّ جمعْنا لكَ الأطباءَ حتَّى تُشفَى منه، فلما فرَغ عُتبةُ قال له الرسولُ صلى الله عليه وسلم: أفرغتَ؟ قال: نعم، قال: فاسْمعْ منِّي، قال: أفْعلُ، فقرأ الرسولُ عليه الصلاة والسلام: بَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {حم . تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 1- 5]، ثُمَّ مَضى رسولُ اللهِ حتَّى وصَل إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13]، فأَمْسكَ عُتبةُ على فَمِ الرسولِ، وقال: أَمْسِكْ، وناشَده بالرَّحِم أنْ يَكُفَّ؛ لِعلمِه أنَّ محمَّدًا إذا قال شيئًا لم يَكذبْ فخاف أنْ يَنزلَ بِهم العذابُ.
ثم انْطلَق إلى أصحابِه، فلمَّا رأوه مِن بَعيدٍ أقْسم بعضُهم لبعضٍ قائلين: لقدْ جاءكم عُتبةُ بغيرِ الوجهِ الذي ذهَب به، فلمَّا جلَس إليهم قالوا: ما وَراءَكَ يا أبا الوليد؟ قال: ورائِي أنِّي سمِعتُ قولاً واللهِ ما سمِعتُ مِثلَه قطُّ، وواللهِ ما هو بالسِّحر ولا بالشِّعر ولا بالكهانة، يا معشرَ قريش، أطيعوني واجعلوها لي خلُّوا بين الرَّجل وبين ما هو فيه، اقتنع عتبةُ ببلاغة القرآن وفصاحته، ولكنَّه لم يَملكِ الشجاعةَ فأخذتْه العزَّة بالإثم، وكبُر عليه الأمر، فقال: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24] فكان عقابه ما ذِكْر الحق: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ . لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ . لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 26- 30].
وتَروي لنا كتُب الأدب أنَّ ثلاثةً من قريش، هم: أبو سفيان وأبو جهل والأخنس بن شريق، هؤلاء الثلاثة لم يَتَّبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وكانوا مِن أقسى أعدائه، ولكنهم كان يتسلَّلون فُرادَى إلى جدار بيتِ الأرقم؛ ليستمعوا مِن الكُوَى والنوافذ إلى سيِّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وهو يتْلو القرآنَ، وكان كلٌّ منهم يتَّخذ مجلسَه في مكانٍ مظلم بحيث لا تراه العيونُ، وحدَث مرةً بعدَ أن انتهى محمَّد صلى الله عليه وسلم مِن تلاوته للقرآن أنِ الْتقَى الثلاثةُ بالقرب مِن دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهم يتَّخذون طريقَهم عائدين إلى بيوتِهم، وسأل كلٌّ منهم صاحبَيهِ: مِن أين جِئتما؟ وفي غمرة الدهشة لم يَحِرْ أحدٌ منهم جوابًا، واتَّهم كلٌّ منهم الآخرَينِ بالذَّهابِ لسماع محمَّد، واعترفوا بأنهم في الذَّنب سواء، ولكنهم أضافوا إلى ذلك اعترافَهم بخطورةِ العمل الذي عمِلوه، فإقبالهم على سماعِ القرآن قد يَقودُهم لاتِّباع محمَّد، وهذا ما لا يُحبونه؛ ولذلك أقْسموا ألاَّ يعودوا إلى ذلك مرةً أخرى.
وفي الليلةِ التالية تحدَّث أحدُهم إلى نفْسه: أنَّ أحدًا مِن هذين الرفيقَينِ لن يذهبَ الليلةَ لسماع القرآن فما عليَّ إن حنثتُ في يميني وذهبتُ لأسمعَ هذا الكلام العذبَ، وذهَب ولكنَّ كلاًّ مِن الرفيقَينِ الآخَرينِ كان قد حدَّث نفْسه بمِثل ذلك، وانتهى إلى نفْس النتيجة، ولما فرَغ سيِّدُنا محمَّد صلى الله عليه وسلم مِن التلاوة أراد كلُّ واحد منهم أن يتأكَّد أنه وحْدَه الذي جاءَ، فأخذ يطوف حولَ دار الأرقمِ فتقابل الثلاثةُ، ودار عتابٌ وشجارٌ وأسَفٌ ممزوج بالغضَب، وأقسموا مرةً أخرى ولكنَّهم حنَثوا أيضًا مرةً ثالثة، ولم يَستطيعوا منْع أنفسهم مِن سماعِ القرآن إلاَّ بحيلةٍ هَزيلة، فاقترحوا أن يجتمعوا في المساءِ في بيتِ أحدِهم؛ ليرقبَ بعضُهم بعضًا، فالواحد منهم لا يَستطيع أن يتغلَّبَ على دوافعِ نفْسِه، وبذلك استطاعوا أن يتوقَّفوا عن ذَهابهم لسماع القرآن [2].
وإذا كان الفريقانِ السابقانِ قدْ فتحوا عقولَهم على القرآن فأدركوا بلاغتَه، وعرَفوا منزلتَه، وشهدوا بذلك كما قال أحدُهم: إنَّ له لحلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوةً، وإنَّ أعلاه لمُثمِرٌ، وإنَّ أسفله لمغدِقٌ، وإنَّه يعلو ولا يُعلَى عليه [3]. إذا كان هؤلاءِ قد فتَحوا عقولَهم، فهناك فريقٌ آخرُ لم يفتحْ عقله للقرآن؛ لقدْ منَحَهم الله العقل ولكنَّهم لم يستعملوه فيما خُلِق له، ولم يهيئوه للإدراك والوعي، شأنهم في ذلك شأن الدوابِّ، وقد قال الله فيهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]. أغْلقوا عقولَهم عنِ القرآن، وأطلقوا لألسنتهم العِنانَ في اللغو فيه، وقالوا ما حَكاه القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. تواصَوا فيما بينهم ألا يُطيعوا القرآن، وألا ينقادوا لأوامرِه، وإذا تُلي عليهم ألا يَستمعوا له، وألْغَوا فيه بالصفير والصياح والتخليط في المنطق، واعتقدوا أنَّهم بذلك سيَغلِبون ويَنتصِرون على القرآن، ولكن الله خيَّب ظنَّهم؛ فخسِروا الدنيا بكُفرهم، وفي الآخرة لهم العذابُ الذي ذكَره الله بقوله: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ . ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 27- 28].
وإذا كان هذا شأنَ الإنس مع القرآن، فشأنُ الجنِّ مع القرآن ما حَكاه اللهُ عن الجنِّ عندما استمعوا للقرآن مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1- 2]. وافتَخروا -ولهم الفخرُ، وهو فخرٌ لهم- فقالوا: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا . وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 13- 14].
وكما انقسم البشرُ في تدبُّرِهم للقرآن، انقسم الجنُّ؛ فمنهم المسلمون، ومنهم القاسِطون الذين عدَلوا عنِ الإسلام، واتبعوا طريقَ الضلالِ والغَواية، وهؤلاءِ كانوا لجهنَّمَ حطبًا. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تركتُ فيكم ما إنْ تمسكتُم به لن تَضلُّوا بعْدي أبدًا كتاب الله وسُنتي».
_________________________________________________
[1] مسند الإمام أحمد (5/59)
[2] ابن هشام (1/ 201) (التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية) (ج أ /365) أحمد شلبي.
[3] يُروَى عن الوليد (أبو خالد).
محمد محمود مصطفى