قيمةُ العَالِمِ بِقَولةِ كلمة الحق

منذ 2013-11-29

أسهل شيء على الناس هو الكلام، تدخل على الإنترنت تجد الكلام في كل شيء، تفتح المذياع، أو تشاهد الرائي، تجد كلاماً كثيراً. فهل هذا هو الكلام الذي يجب أن نقوله؟ أو يجب أن نسمعه؟ هل نحن نقول كلام الحق؟ هل نحن فعلاً نستمع لكلام الحق؟ هل حقيقي أن كلمة الحق صعبة؟ هل كلمة الحق تخيف من يقولها، أو تخيف من يستمع إليها؟ إنَّ أعظم تغيير يكون بكلمة حق صادقة.


أسهل شيء على الناس هو الكلام، تدخل على الإنترنت تجد الكلام في كل شيء، تفتح المذياع، أو تشاهد الرائي، تجد كلاماً كثيراً. فهل هذا هو الكلام الذي يجب أن نقوله؟ أو يجب أن نسمعه؟ هل نحن نقول كلام الحق؟ هل نحن فعلاً نستمع لكلام الحق؟ هل حقيقي أن كلمة الحق صعبة؟ هل كلمة الحق تخيف من يقولها، أو تخيف من يستمع إليها؟ إنَّ أعظم تغيير يكون بكلمة حق صادقة.

تلك الكلمة التي افتقدناها كثيراً، قلّما نقولها، أو نكتبها تجاه من يستحقها. تلك التي غابت عن وسائل الإعلام في العالم قاطبة، وغاب معها الحق الذي هُضم أهله، بل وظُلموا وضاعت حقوقهم. كلمة الحق أصبحت خجلى من واقع الناس اليوم إلا ما رحم ربي، فالمجاملات طغت على التعاملات اليومية، والعلاقات والمصالح، فلم يعد لها مكان.

إنَّ أعظم من يُطالب بقول كلمة الحق، هم العلماء، لأنهم ورثة الأنبياء، ولأنهم صمام الأمان للأمة، قلوب الناس، وعواطفهم، وتصرفاتهم متوقفة على مواقف العلماء، وخاصة في المدلهمات والنوازل الكبرى، التي تنزل بأمة الإسلام..

وأحب أن أخاطب بمقالتي هذه العلماء، بشكل خاص، وجميع أفراد الأمة الإسلامية، بشكل عام، علَّها تجد أذناً سامعة، وقلباً واعياً. أريد أن أتحث في هذا الموضوع في ثلاثة محاور على النحو الآتي:

المحور الأول: كلمة الحق في القرآن الكريم:

وردت كلمة (الحق) في القرآن الكريم، في مواضع شتى، وبمعاني عدة، كما يأتي:

1- أتت كلمة (الحق) اسماً لله تعالى. قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج:6]، {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} [يونس:32].

2- وأتت كلمة )الحق( وصفاً للإسلام، بأنه الدين الحق، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:32].

3- وأتت كلمة (الحق) بمعنى القرآن، فالقرآن نزل بالحق قال الله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105]. والقرآن هو الحق، قال الله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام:66]، ومحتويات القرآن حق، قال الله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} [فاطر:31].

4- وأتت كلمة (الحق) بمعنى الصدق، وذلك في معرض المقابلة بالباطل، كقوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد:17]، وفي مواضع أخرى، كقول قوم موسى له في قصة البقرة: {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71]، وكقول امرأة العزيز في تبرئة يوسف: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51]، وفي قصة تبشير الملائكة لإبراهيم، بولادة إسحق: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر:55]، وفي جميعها يأتي الحق بمعني الصدق.

5- وأتت كلمة (الحق) بمعنى العدل، وذلك في موضوعات الأحكام والقضاء بين الناس، فالله تعالى يقول لداود عليه السلام: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26]، وقال الخصمان لداود عليه السلام: {فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [ص:22]، والله تعالى يقضي بين الناس بالحق يوم القيامة أي بالعدل: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69]، والمهتدون يحكمون بالحق أي بالعدل: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181]، أي يعدلون بالحق. وكلمة (غير الحق) تفيد الظلم، وانعدام العدالة، ومنها قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَق} [الحج:40]، وفي تشريعات الإسلام، يقول تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33].

6- وأتت كلمة (الحق) بمعنى الحقوق الواجبة للبشر، وذلك في التشريعات الاجتماعية والاقتصادية، ففي ديون الأفراد يقول تعالى: {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة:282]، وفي الصدقة والزكاة: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26].

شبه الله تعالى العلماء في القرآن الكريم بالجبال، في صلابتها وقوتها وثباتها، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41].

قال القرطبي رحمه الله في كتابه الجامع لأحكام القرآن عند هذه الآية: "قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} يعني: أهل مكة {أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ} أي نقصدها. {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال ابن عباس ومجاهد:"ننقصها من أطرافها" موت علمائها وصلحائها، قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف".


المحور الثاني: كلمة الحق في السنة النبوية الشريفة:

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، ومثالاً يحتذى في تمسكه بكلمة الحق، والثبات عليها مهما كلفته، من جهد وعرق ودماء وفداء، وإليكم يا معاشر علماء المسلمين!! قطفاً من أقواله ومواقفه:

1- أثقل المشركون على عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي طالب، وطلبوا منه أن يُكِفَّ النبي صلى الله عليه وسلم عن أمره، ويزجره ويمنعه من متابعة نشر دينه الجديد، وحضر سادات قريش في بيت عمه أبي طالب، فأحضر أبو طالب النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليسمعه بأذنه طلب قومه، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم، وقف وقال: «يا عماه: والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه»، وكلَّفه هذا الموقف الشجاع الشيء الكثير، عرقاً، وقهراً، وضيقاً، فقد أجمع أهل مكة على مقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم وقرابته، وترك مكة وجلس في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى أنهم أكلوا ورق الشجر، وجلود الميتة. ومع ذلك لم يتراجع حتى أظهر الله دينه الحق.

2- كان من دعائه صلى الله عليه وسلم قول كلمة الحق، في الرضا والغضب، فقد ثبت في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك "كلمة الحق" في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفذ، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين».

3- وثبت في الصحيح أيضاً أنَّ أبا هريرة قال: أتى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم تمرٌ من تمر الصدقة، فأخذ الحسن بن علي تمرة فلاكها، فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم أصبعيه في فيه فأخرجها؛ وقال: «كخ، أي بني: أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة».

الناظر للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يفتح فم الحسن رضي الله عنه بهذه القسوة والشدة، يراه موقفاً غير مناسب، ولكن الحق عنده صلى الله عليه وسلم لا مجاملة فيه.

4- وثبت في الصحيح أيضاً أنَّ أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم، حسبك من صفية (زوج النبي صلى الله عليه وسلم) كذا وكذا تعني: أنها قصيرة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، و قال: «يا عائشة: لقد قلت كلمة، لو مزجت بماء البحر لمزجته».

عائشة رضي الله عنها من أحب الناس إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أي الناس أحب إليك؟"، فقال: «عائشة»، قالوا له: "من الرجال"، قال: «أبوها»، ومع ذلك لم يثنه حبُّها عن قول كلمة الحق لها، لأن الحق عنده صلى الله عليه وسلم لا مجاملة فيه، ولا محاباة.

5- يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، يدخلها متواضعاً، يقول الرواة: حتى أنه طأطأ رأسه، ولصقت لحيته برقبة ناقته، تواضعاً لله ولبيته العتيق، ولكعبته المعظمة والمشرفة، وجلس أهل مكة أذلاء بين يديه، ودانت له مكة بأكملها، فطلب علي رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم، أن يجمع لهم الحجابة مع السقاية، ولكنه صلى الله عليه وسلم، لم تأخذه نشوة النصر، وسيطرته على الأمر، عن الوقوف مع الحق، انظر للرواية يرويها لنا العلامة أو الحسن الندوي، في كتابه (السيرة النبوية): "لمّا قضى النبي صلى الله عليه وسلم طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، ودخل، وكان قد طلب منه المفتاح يوماً قبل أن يهاجر إلى المدينة، فأغلظ له القول، ونال منه، فحلم عنه، وقال: «يا عثمان: لعلّك ترى هذا المفتاح يوماً بيدي، أضعه حيث شئت»، فقال: "لقد هلكت قريش يومئذ وذلّت". فقال: «بل عمرت وعزّت يومئذ».

ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعاً، وظنّ أنّ الأمر سيصير إلى ما قال، فلمّا خرج من الكعبة، قام إليه عليّ بن أبي طالب، ومفتاح الكعبة في يده صلى الله عليه وسلم، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة مع السّقاية، صلّى الله عليك وسلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين عثمان بن طلحة؟»، فدُعْيَ له، فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء، خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلّا ظالم».

المحور الثالث: كلمة الحق عند السلف الصالح:

1- مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قول كلمة الحق، والثبات على المبدأ، مهما كلفت الظروف، كثيرة جداً، من ذلك:

- موقفه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم تصديق الناس أنه قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وعلى رأس الناس عمر رضي الله عنه، الذي كان يقول: "لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم، بل ذهب إلى ربه ليكلمه مثل موسى عليه السلام ثم يعود"، ولكن انظر إلى موقف أبي بكر رضي الله عنه، في هذه النازلة العظيمة، التي هزت كيان مثل عمر رضي الله عنه، ثبت في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت:
"لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر عند امرأته ابنة خارجة بالعوالي، فجعلوا يقولون لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو بعض ما كان يأخذه عند الوحي، فجاء أبو بكر، فكشف عن وجهه، وقبَّله بين عينيه، وقال: "أنت أكرم على الله من أن يميتك مرتين، قد والله مات رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وعمر في ناحية المسجد يقول: "والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم"، فقام أبو بكر، فصعد المنبر، فقال: "من كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات"، ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]". قال عمر: "فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ".

- موقفه في إنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه، وله قولة مشهورة في هذا الموقف، عندما راجعه بعض الصحابة في العدول عن إنفاذه، فقال: "لا أحلُّ لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم".

- وعندما راجعه عمر رضي الله عنه، في شأن قتال المرتدين، وألحَّ عليه أن يترك قتالهم، لأنهم مسلمون، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا عمر: "أجبارٌ في الجاهلية، خوّار في الإسلام، والله لو منعوني عقالاً، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه".

- أخرج البزار عن علي رضي الله عنه أنه قال: "أيها الناس: أخبروني من أشجع الناس؟" قالوا: "أنت يا أمير المؤمنين" قال: "أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت (أخذت حقي منه)، ولكن أخبروني بأشجع الناس؟" قالوا: "لا نعلم، فمن؟" قال: "أبو بكر رضي الله عنه إنه لمَّا كان يوم بدر، جعلنا لرسول الله عريشاً. فقلنا: من يكون مع رسول الله صلي الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه أحد المشركين؟ فوالله، ما دنا إليه أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلي الله عليه وسلم، لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس".

- من أقواله رضي الله عنه المعروفة والمنتشرة: "اطلب الموت توهب لك الحياة".

أكتفي بذكر المواقف السابقة لأبي بكر رضي الله عنه، كمثال من المواقف الشجاعة في قول كلمة الحق من الصحابة الكرام، وكلهم شجعان، ولهم مواقف مشرفة..

2- من عهد التابعين، آخذ مثالاً للأئمة الثلاث: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل رحمهم الله.

- أبو حنيفة رحمه الله، يرى أن دولة العباسيين ليست شرعية، لأنهم نزعوها من بني أمية نزعاً بغير حق، وبغير شورى المسلمين، وعندما طلبوا منه تولي منصب القضاء، في دولتهم امتنع، فأكرهوه بكل أنوع الإكراه فامتنع، حتى لا يعطيهم شرعية بتوليه منصباً في دولتهم، وفي النهاية سجنوه، وعمره سبعون سنة، وسقوه في السجن شربة مسمومة، فمات في سجنه، ودفن في مقابر الخيزران في بغداد.
مات رحمه الله ثابتاً على رأيه وموقفه.

- الإمام مالك رحمه الله قال: "طلاق المكره لا يقع، وبيعة المكره لا تقع".

وهذا معناه أن من بايع من المسلمين دولة العباسيين مكرهاً، فبيعته لا تقع، وعليه يحق له الخروج عليهم، لأنهم نزعوا الحكم من الأمويين بغير حق، فأخذوه ونكلوا به، حتى أنهم رفعوه من يديه، حتى خلعت كتفه، فصار يسدل يديه أثناء الصلاة، ولذلك صار المالكية يسدلون أيديهم في الصلاة.
خلعت كتفه رحمه الله، وهو لم يتزلزل، ولم يغير موقفه.

- محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:

استطاع الإمام أحمد بن حنبل، بإيمانه الصادق وصلابته في لحق، أن يهزم المعتزلة الذين ادعوا فيما ادعوا خلق القرآن، واتخذوا الخليفة المأمون أبا جعفر عبد الله بن هارون الرشيد أداة لنشر بدعتهم وترويج ضلالهم؛ فقد زينوا له طريق الباطل، وحسنوا له قبيح القول بخلق القرآن، فصار إلى مقالتهم، وكانت ولاية المأمون في المحرم، وقيل في رجب سنة 198 للهجرة.

وقدر أنه في آخر عمره خرج من بغداد لغزو بلاد الروم، فعَنّ له أن يكتب إلى إسحاق بن مصعب صاحب الشرطة، أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، فاستدعى جماعة من العلماء والقضاة وأئمة الحديث، ودعاهم إلى ذلك، ولكنهم امتنعوا، فاشتد غضبه. لما استعصى على المأمون وأذنابه التأثير على الإمام أحمد بن حنبل في ميدان الحجة والإقناع، أمر بإشخاصه مكبلاً في الأغلال، هو ورفيقه في المحنة محمد بن نوح رضي الله عنهما وتوفي محمد بن نوح وهو في طريقه إلى المأمون، وصلى عليه الإمام أحمد بن حنبل الذي بقي وحده، والخليفة يتوعده بالتعذيب والقتل إن لم يجبه إلى القول بخلق القرآن، فتوجه الإمام أحمد بالدعاء إلى الله تعالى أن لا يجمع بينه وبينه، فبينما هو في الطريق قبل وصوله إليه إذ جاءهم الصريخ بموت المأمون، وكان موته في شهر رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، فرد الإمام أحمد إلى بغداد وحبس هناك.

ثم ولي الخلافة المعتصم، وهو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، الذي قدم من بلاد الروم، فدخل بغداد في مستهل شهر رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين، فامتحن الإمام أحمد وضرب بين يديه، ويقف الإمام أحمد بين يدي الخليفة المعتصم ثابت الجنان قوي الإيمان، وقد ازدحم الناس ليشاهدوا مشهداً رهيباً، فهذا الخليفة وحوله جنوده، وهذا أحمد في قيوده، الأول: سلاحه البطش والجبروت، والثاني: سلاحه القرآن والسنة، يستعذب العذاب في سبيل الله، ويسأله وحده العفو والمغفرة، ويرجوه رضاه ورضوانه، يجلس الخليفة على كرسيه، ويقف الإمام أحمد بين يديه والسيوف قد جردت، والرماح قد ركزت، والأتراس قد نصبت، والسياط قد طرحت، يريدون إرهابه وهو قد باع نفسه ربَّه، وبكل ما يصنعون وأكثر لا يأبه.

يرد على الخليفة بالبرهان الساطع والدليل القاطع، ويعجز الخليفة في ترغيبه أو ترهيبه ليقول بكلام المعتزلة (القرآن مخلوق)، ويحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فيناظرونه بحضرته ثلاثة أيام، وهو يناظرهم ويقهرهم، فيقول ابن أبي دؤاد، وبشر المريسي للخليفة: اقتله حتى نستريح منه. ولكن المعتصم يقيم مباراة بين الجلادين لقتله بالسياط الموجعة، ويحدثونه في الرجوع عن إصراره، ولكنه يقول لهم في صلابة: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله أقول به.

ويستمر الضرب وتزداد شدته، حتى يقع الإمام أحمد رحمه الله على الأرض في غيبوبة، لا يدري ما يفعلون به. وعندما عادت لأحمد ذاكرته، تقدم إليه ابن أبي دؤاد، وقال له: "يا أحمد قل في أذني القرآن مخلوق حتى أخلصك من يد الخليفة"، فقال له الإمام أحمد: "يا بن أبي دؤاد قل في أذني القرآن كلام الله وليس بمخلوق حتى أخلصك من عذاب الله عز وجل"، فقال المعتصم: "أدخلوه إلى الحبس"، فحمل إلى الحبس وانصرف الناس.

وهكذا واجه الإمام أحمد بن حنبل المحنة في صبر جميل وشجاعة نادرة، يقول أحد جلاديه: "ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطاً لو ضربته فيلاً لهدمته".

وهكذا ثبت الإمام أحمد رحمه الله، ولقب من بعد موقفه هذا بإمام أهل السنة والجماعة، يقول يحيى بن معين رحمه الله: "لقد رحم الله أمة الإسلام بأبي بكر رضي الله عنه يوم الردة، وبأحمد بن حنبل في مسألة خلق القرآن". ويقول المزني رحمه الله: "رحم الله الأمة بأحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبي بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار وعلي يوم الجمل وصفين".

3- من العصر الحديث، نأخذ على سبيل المثال موقفين، للأستاذ/ سيد قطب، والأخت الداعية/ زينب الغزالي.

- موقف الأستاذ/ سيد، عندما طلب منه المحقق، أن يكتب كلمة اعتذار، واستعطاف لرئيس الدولة، أجاب بقوة المؤمن الثابت على الحق والمبدأ: "إن السبابة التي ترتفع بشهادة التوحيد، في التشهد في الصلاة، لتأنف أن تكتب كلمة اعتذار لطاغية"، وواجه عقوبة الإعدام، بقلب ثابت وصدر منشرح.

- موقف الأخت الداعية/ زينب الغزالي، عندما هددوها بفصلها عن عملها، وسجنها، ومعاقبتها، ردت على المحقق بكلمة عالية داوية: "لو كان الأمر إليك لركعت بين يديك، ولكن الأمر مرده إلى الله وليس إليك".

معاشر العلماء الكرام: ما أحراكم أن تقتدوا بأسلافكم من علماء السلف الذين ثبتوا على الحق، وذبُّوا عن الشريعة، وذادوا عن الحياض، ولا تأخذكم بقول كلمة الحق لومة لائم، وحبذا إذا عجزتم عن قول الحق، فلا تقولوا الباطل.

إن كلمة الحق غالية، ولا يحافظ عليها إلا أصحاب المكانة العالية، عند ربهم، فالكلمة أمانة كما علمنا حبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيراً أو ليصمت».

اللهم أعنا على أن نقول كلمة الحق في وجه الأقوياء، وألا نقول الباطل لنكسب تصفيق الضعفاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


سعد العثمان
 

  • 1
  • 0
  • 5,830

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً