مصادر السياسة الشرعية
السياسة الشرعية عبارة مكونة من لفظ منعوت بصفة فهي سياسة مقيدة بكونها شرعية، وهذا يعني أن مصادرها هي المصادر التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية.
السياسة الشرعية عبارة مكونة من لفظ منعوت بصفة فهي سياسة مقيدة بكونها شرعية، وهذا يعني أن مصادرها هي المصادر التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية.
ومصادرها نوعان:
1- مصادر نصية: وهي الكتاب والسنة والإجماع، وقول الصحابي وشرع من قبلنا.
2- ومصادر اجتهادية وهي مصادر تعتمد على المصادر النصية يجمعها كلها لفظ الاجتهاد: كالقياس والمصلحة والاستحسان وسد الذرائع ومقاصد الشريعة على الاختلاف الوارد بين أهل العلم في المصادر الاجتهادية، والمصادر الاجتهادية ليست كلها على وزان واحد في إفادتها للأحكام المتعلقة بالسياسة الشرعية.
والمراد بالكتاب القرآن الكريم وهو أشهر وأعرف من أن يحد بتعريف، فالقرآن كلام الله تعالى الموحى به إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم نزل به الروح الأمين جبريل عليه السلام والمدون بين دفتي المصحف، وإفادته لأحكام السياسة الشرعية يأتي على وجهين:
- أحكام منطوقة مباشرة.
- أحكام تدرك بالاجتهاد.
والفرق بين الأمرين أن الأولى ينص عليها نصاً والثانية تُدرَك بالاجتهاد، ويترتب على ذلك أن الأولى لا اختلاف فيها بين أهل العلم بينما الثانية فتحتمل ما تحتمله الموضوعات الاجتهادية بين أهل العلم من الاتفاق أو الاختلاف.
مما ورد في القرآن من النوع الأول ما جاء من قصة الخضر مع موسى عليهما السلام حيث قام الخضر بخرق السفينة التي ركبها مع موسى عليهما السلام مما قد يعرض ركابها للخطر ولم يكن قد ظهر من مالكي السفينة شيئًا يستحقون به هذه المعاملة مما دفع موسى عليه السلام لإنكار ذلك الفعل، وقام الخضر بقتل الغلام من غير أن يظهر منه ما يستوجب قتله مما دعا موسى عليه السلام لإنكار ذلك، كما قام الخضر بإقامة الجدار الذي وهى وكان عرضة للسقوط في قرية رفض أهلها أن يضيفوهما، وقد كانت هذه التصرفات جميعها قبل معرفة أسبابها تصرفات غير مقبولة بل منكرة وهو ما دفع موسى عليه السلام للاعتراض على الخضر عليه السلام والإنكار عليه، رغم أنّ الله تعالى كان قد أخبره أن الخضر على علم لا يعلمه موسى عليه السلام لكن مخالفة ظاهر هذه التصرفات لما هو معلوم من الشريعة دفعت موسى عليه السلام إلى المبادرة بالإنكار، وقد بيّن القرآن بعد ذلك السبب في كل تلك التصرفات مما تبين منه حكمة هذه التصرفات وكيف أنها واجهت حالات بما هو أنسب لها وأصلح، وهذه التصرفات مما ينطبق عليها تعريف السياسة الشرعية وهي سياسة إلهية لأن الخضر لم يفعلها من تلقاء نفسه وإنما فعلها بأمر الله تعالى له فقد قال لموسى بعدما بين له حكمة تلك التصرفات: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف من الآية:82].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير ذلك: "وما فعلت يا موسى جميع الذي رأيتني فعلته عن رأيي، ومن تلقاء نفسي، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به" (تفسير الطبري [18/91]).
ومما يُعدّ من السياسة الشرعية الواردة في القرآن بالطريق المباشر ما فعله يوسف عليه السلام من التصرّف الذي تمكن به من أخذ أخيه من إخوته حيث لم يكن يمكنه أخذ أخيه في دين الملك في وقته، وقد بيّن الله تعالى أن تلك الطريقة التي اتبعها يوسف كانت مما أرشده الله إليها وذلك في قوله تعالى: {كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف من الآية:76]، فهي بذلك من السياسة الإلهية.
ومن أمثلة ما جاء من باب الاجتهاد في الكتاب مما يدل على أحكام السياسة الشرعية بيان شروط من يتولى أمر المسلمين فعلى سبيل المثال لا الحصر ما ورد مما يستدل به من اشتراط العلم وسلامة البدن والحواس لمتولي أمر الولاية مع عدم اشتراط امتلاكه لنصاب مالي معين قوله تعالى في قصة ولاية طالوت على بني إسرائيل فعندما: {وقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة من الآية:247]، تعجبوا من ذلك وأنكروه لأنه لم يؤت سعة من المال، وكانوا يظنون أن الملك يتطلب أن يكون الملك حائزاً لمقدرة مالية معينة، فقالوا: {أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة من الآية:247]، فبين الله لهم تعالى أن المقدرة المالية ليست شرطًا في استحقاق ولاية الأمر ودلّهم على الشروط الحقيقية التي ينبغي وجودها فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة من الآية:247]؛ أي أن المؤهلات الحقيقية للولاية لا تكمن في المقدرة المالية، وإنما تكمن في سعة العلم التي تمكنه من فهم الأمور على وجهها الصحيح، وسلامة البدن والحواس التي يتمكن بهما من تحقيق مقصود الولاية على وجه لا يشوبه خلل.
والمراد بالسنة ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير بشرط أن يصل إلينا من طريق تقوم به الحجة وهو أن يكون الحديث صحيحًا أو حسنًا حسبما بيَّن علماء الحديث ذلك.
ودلالتها إما دلالة مباشرة وإما دلالة بالاجتهاد، فمن الأحاديث التي تبين بعض أحكام السياسة الشرعية بالدلالة المباشرة وهو عدم تولية من يطلب الإمارة ما رواه أبو موسى الأشعري، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: "يا رسول الله، أمِّرنا على بعض ما ولّاك الله عز وجل"، وقال الآخر: "مثل ذلك"، فقال: « » (أخرجه مسلم في صحيحه برقم: [1456]، والبخاري في صحيحه برقم: [7149]).
وهذا من الأحكام السياسية المباشرة ومن ثم يحق لنا أن نقول عنه أنه سياسة نبوية، ومن ذلك الرحمة بالرعية وتأجيل ما يمكن تأجيله من الأمور المشروعة تجنبًا لنفرة قلوبهم يبين ذلك ما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: «البخاري، كتاب العلم، رقم: [1123]، ومسلم، كتاب الحج، رقم: [3371])؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم نظر في مآل هذا التصرف الصحيح المطلوب، فوجد أن العرب قد ينفرون من ذلك لحداثة عهدهم بالكفر، فكفه هذا المآل عن ذلك التصرف الذي لم يكن فعله واجباً على الفور، ولذلك ترجم عليه البخاري بقوله: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه" قال ابن حجر: "وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا" (فتح الباري، [3/448]). » (أخرجه
ومن الأحكام الاجتهادية في السياسة الشرعية التي دلّت عليها السنة النبوية مسألة استخلاف الإمام لشخص صالح للإمارة يكون بديلاً عنه متى ما شغر منصب الإمامة وذلك بيَّن واضح في تولية أبي بكر رضي الله تعالى عنه الولاية بعد وفاة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الروايات المروية في الصحاح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد همَّ بكتابة كتاب حمله كثير من أهل العلم على أنه لأبي بكر بالخلافة من بعده ثم تراجع عن ذلك وعلّل ذلك بقوله: « ».
قال البيهقي: "وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم، قيل: إن النبي عليه الصلاة والسلام، أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه، ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى"، فهَمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل ذلك دليل على صحته وجوازه لأنه لا يهم إلا بالحق، وتركه لكتابة ذلك لعلمه أن عدم الكتابة لا يترتب عليه شر دل على أن الكتابة والعهد لمن يأتي بعده تابع لمصلحة الأمة من وراء العهد أو تركه.
والمراد بالإجماع اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على نسبة أمر من الأمور للشريعة، ومن أمثلة ذلك اتفاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم -وهو أعلى أنواع الإجماع- على أن ولاية الأمر لا تكون بالغصب ولا بالقهر كما لا تكون بالنص الشرعي على اسم ولي الأمر، وإنما تكون عن طريق الشورى بين المسلمين، وهذا ما دعا عمر رضي الله تعالى عنه في آخر خطبة له عندما أحس بدنو أجله إلى أن يقول: من بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا، أي من بايع امرأ من غير مشورة من المسلمين، فإنه لا بيعة له، ولا للذي بايعه تغرة أن يقتلا أي محذِّراً لهما من القتل بتجاوزهما لحق جماعة المسلمين واعتدائهما على حقهم في الاختيار.
ومن أهم المصادر الاجتهادية في التوصل إلى أحكام السياسة الشرعية مراعاة المصلحة بحيث تُحصل المصلحة وتُدرأ المفسدة، وإذا تعارضت مصلحتان بحيث لم يمكن تحصيلهما معاً، قدم تحصيل أعلى المصلحتين ولو أدى ذلك إلى تفويت أدناهما، وإذا تعارضت مفسدتان بحيث لم يمكن درأهما معا، فإن المفسدة الكبرى تدرأ ولو أدى ذلك للوقوع في المفسدة الصغرى، ومن أمثلة ذلك: ما يفتي به علماء أهل السنة والجماعة من ترك الخروج على أئمة الجور، ففي هذه الحالة مفسدتان:
1- مفسدة الجور والظلم الذي يقع من الوالي الظالم.
2- مفسدة الخروج وما يترتب عليها من القتال وتهديد وحدة الجماعة.
ولا شك أن المفسدة الثانية أشد فاحتملت المفسدة الأولى الأقل ضرراً من أجل ألا تقع المفسدة الثانية الأشد، وبهذا المقياس أجمع أهل العلم على وجوب الخروج على الحاكم لو ارتدّ عن الإسلام لأن مفسدة ردة الحاكم أشد من أي مفسدة قال ابن حجر في حالة ردة الحاكم عن الإسلام: "ينعزل بالكفر إجماعاً فيجب على كل مسلم القيام في ذلك فمن قوي على ذلك فله الثواب ومن داهن فعليه الإثم ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض".
ولهذا المصدر أمثلة كثيرة في تقرير أحكام السياسة الشرعية ولعل فيما تقدم ما يكفي لبيان هذا الأمر.
- التصنيف: