حقيقة الغناء؛ رؤية إيمانية نفسية تربوية
أصلُ الموضوع هو في تعلُّق القلب وتوجُّهه، فالتوحيد هو صدق اللجوء إلى الله، وتعلُّق القلب به سبحانه دون سواه، والأُنس به، وإزالة كل العوالق والعوائق الأخرى التي تزاحمه، ويتبع ذلك أن بُغية القلب والروح هي في التعلق بالآخرة والرغبة فيها والاستعداد لها وتهيئة النفس للقدوم على ربِّ العالمين.
أصلُ الموضوع هو في تعلُّق القلب وتوجُّهه، فالتوحيد هو صدق اللجوء إلى الله، وتعلُّق القلب به سبحانه دون سواه، والأُنس به، وإزالة كل العوالق والعوائق الأخرى التي تزاحمه، ويتبع ذلك أن بُغية القلب والروح هي في التعلق بالآخرة والرغبة فيها والاستعداد لها وتهيئة النفس للقدوم على ربِّ العالمين.
وهذا يتطلب الجد والتشمير والسير الحثيث والاستعانة بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة وتجافي الجنوب في الأسحار للتغني بالقرآن، وتدبّر آياته ومعانيه، والانتقال مع تصويراته، والحياة مع تعليماته، وطلب هديه، والوقوف عند حدوده، وتعظيم شعائر منزله؛ لأن ذلك من تقوى القلوب.
بينما الغناء يُعلِّق القلب بالرنين والإيقاع، وجميل النغم، ويحرّض على حب الدنيا وزهرتها ومفاتنها ومباهجها، مع التركيز على التعلق بالشهوة الجسدية، والوقوع في أسر العواطف، وما ترسمه الكلمات من صور ذهنية للمحبوب، الذي عادة لا يكون محبوباً على الوجه الشرعي الجائز، بل إن المحبوب يتعدَّد بتعدُّد المغنين الذين أصبحت أعدادهم بالمئات، بل بالآلاف، ويختار كل متطرِّب ما يحلو ويروق له من هؤلاء المغنين ممن يكون غالباً همَّه الدنيا، وليس بقدوةٍ حسنة لا في أخلاقه ولا في أفكاره ولا في سلوكه ولا في مظهره وملبسه؛ فكل ذلك يُخالِف أمرالله تعالى.
كما أن الغناء يُربِّي على اللهو والهزل، وهو واضح في سلوكيات الذين يتأثرون به، وهو بخلاف التربية الإسلامية التي تعتمد على الجد والمثابرة، والكدح والتنافس في فعل الخيرات والمعروف، وإن كان في ديننا فسحة للمرح والانبساط والمزاح لكن بقدر ووفق ضوابط حتى لايطغى.
كما أن الغناء يُربِّي مستمتعه على الجرأة على انتهاك المحارِم واستسهالها والتهيئة للانهماك فيها؛ لأنه يأخذ روحه ويلف بها دون مقاومة منه حول الحِمى مراتٍ كل يوم فكيف لايرتع فيها؟
وقد قرَّر شيخ الإسلام في (الاقتضاء) بأن القلب لا يتسع لنقيضين: "فإمَّا القرآن وإمِّا مزامير الشيطان"، ووصْف سلفنا الغناء بـ "مزامير الشيطان"، لعله من باب وصف آلة من أهم وأخطر آلات عدونا إبليس التي يستعملها في حرب عباد الله واستمالة قلوبهم لصرفها عن الحق والتلذُّذ بغير كلام الرحمن الذي يقود حتماً إلى هجرانه والانصراف عن هديه وحكمه ومواعظه.
إنه "التغييرالسلبي باستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير"، فالذي يستمع إلى الغناء ويبالغ فيه ويتعلَّق به ويواصل التلذذ به؛ يتغيّر حاله، وقلبه، وفكره، وسلوكه، فمقل ومستكثر.
وهنا تأتي مسألة غيرة الله على قلب عبده، ومن مساوئ الغناء ومآلاته السلبية التعلُّق بالمغني إلى درجةِ العِشق والهيام، حتى وجدنا من ينتحر عند سماعه بموت مطربه؛ يضاف إلى ذلك التعلُّق الشهواني إن كان المطرب من غير جنس المستمع، وتزداد الفتنة بمظهره ومفاتنه وحركاته وآهاته ولباسه ورقصاته ونظراته وبسماته!
وللموسيقى تأثيرعظيم على القلب؛ فلها أثرٌ نفسي وشعوري يجعل القلب يميلُ ويطربُ ويتراقصُ مع نغماتها وإيقاعاتها وأوتارها، حتى قالوا في وصفها: "الموسيقى غذاء الروح"!
فماذا بقي للروح إذن؟ وأي غذاء هو؟ أم أنه السُّمُّ الزعاف؟
فما حال الروح التي تتغذى على كلام يُحرِّك هِمَّتها نحو الدنيء من الأقوال والتصورات، ويُضعِف شعلة الإيمان فيها، ويجرها نحو الفاني من الزخارف، ويُلهيها عما خُلِقت له من شرف العبودية لله تعالى؟
بناءً على ما تقرَّر آنفاً؛ فإن هذا يستلزم من المؤمنين والمؤمنات العناية بقلوبهم وأرواحهم وتعهّدها بالرعاية والعناية والتربية للسير بها نحو الطريق المستقيم الذي سلكه الأنبياء والصالحون.
فقلوبنا بحاجة إلى الغذاء الصحيح كل وقتٍ وحين؛ من الذكر والتذكُّر، والفكر والتفكُّر فيما يُقرِّبها إلى خالقها والدار الآخرة والتواصي بذلك وعدم التهاون فيه أو السهو عنه، فإن القلوب إذا خلَت من القرب من الله والأُنس به سبحانه شدتها الجواذب، واحتوشتها العلائق، وتهاوشها قطّاع الطريق، وحينئذ علاها الران وأوشكت على الضياع والهلاك، ولا عاصم إلا الله، ولا قوة إلا به.
جمال أحمد بادي
- التصنيف: