إنهم يتسكعون في منتصف الليل!

منذ 2013-12-06

ظاهرة تسكُّع بعض الشباب في الليل جديرةٌ بالاهتمام والدِّراسة، ولا سيَّما إذا كان هذا التسكُّع في ساعات متأخِّرة مِن الليل، فهذا أمرٌ جدُّ خطيرٍ، وهو مؤشِّر على عدم الانضباطية والتأقلُم مع الواقع الاجتماعي وقِيَمه الفاضلة، وإذا كان النهارُ هو ميدانَ العمل والمعاش، فإنَّ الليل لباس وسَكَن، وهذه سُنَّة إلهيَّة كونيَّة لا يمكن الخروجُ عنها؛ ولذلك يفترض أنَّ المجتمع بكلِّ أفراده يلتزم بمعطياتها ويخضَع لها، إلاَّ في الحالات الخاصَّة الضروريَّة.

 

الزمان: ابتداءً مِن الساعة الواحدة، وانتهاءً إلى الساعة الرابعة صباحًا، كان هذا الحوار مع الشباب!

المشهد: تَبْدو مواكبُ مِن السيَّارات من كل نوع وفصيلة تأخُذ مكانها من العرْض العشوائي، وأحيانًا الاستعراض المتهوّر، بعضهم كان آخر "شياكة"، والآخَر... آخر بهدلة.

المكان: أحد شوارع العاصِمة.

الهدَف: الدوران غير المتناهي إلاَّ مع نَسمات الفجْر، والتسكُّع الذي لا يتوقَّف إلا مع صدَى الأذان؛ حيث يتَّجه الأكثريَّة إخلادًا إلى النوم.

كانتْ جولتنا في هذا الأسبوع مع شبابٍ يعيشون معنا في البيوت، وكثير منهم -ولله الحمد- يُصلِّي معنا في المساجِد، وهم جزءٌ لا يتجزَّأ مِن تكوين المجتمع.

نعم؛ لم يأتوا إلينا مِن كوكب آخَرَ بغتةً، ولم يتسلّلوا إلينا خلسةً مِن أدغال إفريقيا!

ولهذا السبب أقلقتنا الظاهرةُ واتَّجهنا إلى أولئك الشباب؛ لنتلمَّس دوافعهم والمبرِّرات التي جعلتْهم يتَّجهون إلى هذا الأسلوب مِن إزجاء الوقت، وهل أثَّر على رِباط الأُسرة، أو تحصيلهم الدِّراسي، أو أعمالهم الوظيفيَّة، أو برامجهم اليوميَّة؟ وقبل ذلك كله هل سار السِّياق الموقوتُ إلى الصلاة حسبما كان يَنبغي أن يكونَ عليه؟

وعمَّا إذا كان لديهم اقتراحاتٌ جادَّة يضعونها كبديلٍ لتلك الظاهرة التي أخذتْ في الانتشار؟

ثم بعدَ ذلك كله عرضْنا هذه القضية على فضيلة الدكتور/ عبد الله بن إبراهيم الطريقي -رئيس قسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- فما هي محصلةُ ذلك كله؟ إنها هذا التحقيق.

لا يوجد برنامج:

أحدُ الشباب قال عن دوافعه إلى هذه الظاهِرة:
إنَّه يريد أن يشاهدَ أولئك الغادين والرائحين، أمَّا بالنِّسبة للدَّوام والاستيقاظ، فقدْ قال: إنَّه لا يدرس وليس موظفًا، ويقوم مِن النوم قبل أذان الظهر.

أما بندر. م. فيقول:
أنا أترُك الحدائق للعوائِل، وحتى لو وُجِدت حدائق للعزَّاب فلا أهتمُّ بها كثيرًا، أمَّا صلاة الفجْر فيومًا أقوم، ويومًا "أفوت".

أحمد. ش. يقول:
إنَّ ذلك لا يؤثِّر على دراسته، فهو يأتي "للتمشية"، وصلاة الفجر أُصلِّيها في الصباح إذا قمتُ مِن النوم!

أمَّا الشاب خالد. ر:
فقد ذكَر أنَّه جاء إلى هذا المكان "للفُرجة"، وأنَّه في حالة وجود شارع مخصَّص لمِثل ذلك الأمر فإنَّه لن يعدوَه إلى غيره، كطريق النهضة الذي يحلو لبعضِ الشباب تسميتُه طريق الموت.

وعندَ سؤال الشاب محمَّد الحربي عن مدَى تأثير السهر إلى مِثل هذا الوقت مِن برنامجه اليومي، ذكَر أنَّه أصلاً ليس عنده برنامج يومي غير الدِّراسة، أمَّا باقي الوقت فينقضي كيفما اتَّفق!

طريق الموت:

عبدالمحسن. هـ يقول:
إنَّه لا يوجد مكان غير "البر" يذهَب إليه، وهذا ممكن في الإجازات، أمَّا داخل الأسبوع، فعِندنا فراغ أربع أو خمس ساعات لا تَكْفي كفُرصة للخروج "للطعوس".

ويقول عن "طريق النهضة" الذي خُصِّص في منطقة منعزلة عنِ الأحياء نسبيًّا لمثل تلك الظاهِرة:
إنَّه ليس حلاًّ، ولا يُغني عن "شارعنا" هذا؛ لأنَّ الشباب الذين في سن المراهقة يحبُّون الاستعراضَ فيه والتهور بشكلٍ جنوني لا يترُك لنا المجال أن نأخذ راحتنَا؛ لذلك نسمِّيه الآن "طريق الموت".

وعن مدَى تأثير ذلك على علاقاته بالعمل أو الدِّراسة أو الأسرة، قال:
أنهيتُ الثانوية وأنا الآن بدون عمَل مؤقتًا، لكن في حالة وجودِ العمل أظنُّه بصراحة يؤثِّر عليَّ كثيرًا؛ لأنني أقطع حاليًّا النوم بيْن الصبح والظهر والعصر، وأحاول المحافظةَ على وقت الجُمُعة، أما لو كان المكان منظَّمًا فما أظنُّه يؤثِّر.

وعن الدوافع يقول:
الفراغُ يجعلنا فعلاً نتجوَّل قي الشوارع بحثًا عن أمثال لنا، فأجِد كثيرًا من زُملائي هناك.

أمَّا عن المكتبات والمراكز الإعلاميَّة كبديل، فأقول:
إنَّها غير معقولة؛ لأنَّه لا بدَّ مِن أن أعطي نفسي حمايتَها من الانبساط!

بالمرصاد!

شاب آخَر ذكر أنَّ والده له بالمرصاد بخصوصِ صلاة الجُمُعة! وعن حدائق العزَّاب قال:
إنَّها موجودةٌ، ولكن إذا رأيتُ الزملاء، قلت معهم! وعن تأثير التجوُّل والسَّهر على برنامجه ذكر أنَّ ذلك فعلاً يؤثِّر إذا كان يوميًّا بشكلٍ كبير وخطير، أما أسبوعيًّا فيؤثِّر إلى درجةٍ ما، ويقول: إنَّ صلاة الفجْر لا تفوته إذا تجوَّل إلى ساعة متأخِّرة مِن الليل، بينما تفوته أغلبُ أيَّام الأسبوع!

كما قال آخَر:
إنَّ وسائل الإعلام تتحامَل على الشباب، وبعض أفراد المجتمع يُكبِّرون الأمور العادية!

سنجار. س. ذكر أنَّه لا يوجد حدائقُ خاصَّة للعزَّاب إلا نادرًا.

أمَّا عن الدوام صباحًا وصلاة الفجْر، فذكر أنَّ "الشيبان" ما يقصِّرون معنا، وبخاصة إذا استعملوا "العقال".

عنِ البدائل والاقتراحات التي يُمكن أن يقدِّمها قال: ولِمَ ذلك؟

المراكز الصيفية والنوادي:

الأخ منصور ذكَر أنَّ المراكز الصيفيَّة فكرة رائدة، ولكنها وقتيَّة، فلماذا لا تُعمَّم على مدى أيَّام السَّنة وتشجّع بشكل أكبرَ، وتُعطي أولوية؟

وأمَّا النوادي الرياضية، فذكر أنَّها مقتصرة على أناس معدودين أولاً، وثانيًا: فيها أحيانًا شباب لا أرتاح إليهم! وثالثًا: أنَّه غالبًا النوادي الرياضية تركِّز فقط على النواحي الرياضية فحسبُ، فأين أصحاب المهارات الأخرى والهوايات المختلفة، أمَّا بيوت الشباب، فتركِّز أيضًا على الرياضة ومهاراتها، وأقترح بالإضافة إلى فِكرة المراكز الصيفيَّة أن تُسهِم جمعية الثقافة والفنون بشكلٍ فعَّال في إقامة المسابقات والأمسيات والمسرحيات الهادِفة ببرامج فصلية تمسُّ واقعَ المجتمع بشكلٍ مستمر، وعند سؤاله عن النوادي الأدبيَّة أكَّد أنَّه لا يعرف عنها وعن نشاطاتها ما يَكفي.

ويقول نزار:
المسألة دوافعها صراحةً تضييع الوقت، حتى يؤذن الفجْر، ثم نُصلِّي وبعدها ننام، ولا أرى أنَّ في ذلك مسألةً تحتاج إلى مناقشة، كلها "دوران كم ساعة"، يمكن أن يحدُث تجاوزات مِثل "التفحيط" نتفرَّج عليه ونضحَك على عقلِ صاحبه!

بسام الداود (15 سنة) ذكَر أنَّ الاستعراضات لا تقتصر على "التفحيط"، وعن مدَى الإزعاج الذي يُمكن أن يولده في الحيِّ مِثلُ تلك الظواهر، يقول: لا أدْري، ولكن لم نسمعْ أنَّ أحدًا يَشتكي! وبصراحةٍ أشعُر بحيرة في هذا الشارع، وعمَّا يمكن أن نحقِّقه مِن سعادة فيه!

الأخ مشرف العمري شابٌّ من نفس الحي، يقول:
لا يُمكن أن نتحرَّك بسياراتنا إذا جاءتْ مناسبة رياضيَّة، ويذكر مِن الحلول أن يهتمَّ تاجر القطاع الخاص بالاستثمار في مِثل ذلك المجال؛ للبُعد بالشباب عن مِثل تلك الميادين العامَّة، وعن بيوت الشباب كبديلٍ قال: ولكن مَن الذي يُريد بيوت الشباب، وما هي الأنشطة غير الرياضيَّة التي تُقدِّمها؟ أنا في الواقِع لستُ رياضيًّا، وفِكرة الجنادريَّة جيِّدة جدًّا، والدافِع كما يقول هو عدَم استثمار أوقات الفَراغ!

وليد (ع) أقول:
إنَّ شبابنا غالبًا ما زالتْ فيهم الكثيرُ مِن القِيم والشِّيم، وينبغي أن يعيَ الآباء دورَهم، ويتحسَّسوا مشاكلَ أبنائهم كالأصدقاء تمامًا، ليس مِن الضروري أنَّ الأب "يعمل كابتن"! وإذا كان هناك في البيت مِثل هذا الترابط، فالابن لا يخرج منه ضيق الصدر، كذلك لا بدَّ مِن تيسير عملية الزواج بكلِّ أعبائها وتبعاتها، فأغلب المتزوِّجين لا يُمكن أن يَسْهَروا إلى ما بعدَ الثانية عشرة، وستنضبط أوقاتُهم، ويشعرون بمسؤوليةِ البيت والأبناء.

الانضباطية:

وفي عرْضنا لهذه الظاهرة على د. عبد الله الطريقي -رئيس قسم الثقافة بكلية الشريعة- قال:

ظاهرة تسكُّع بعض الشباب في الليل جديرةٌ بالاهتمام والدِّراسة، ولا سيَّما إذا كان هذا التسكُّع في ساعات متأخِّرة مِن الليل، فهذا أمرٌ جدُّ خطيرٍ، وهو مؤشِّر على عدم الانضباطية والتأقلُم مع الواقع الاجتماعي وقِيَمه الفاضلة، وإذا كان النهارُ هو ميدانَ العمل والمعاش، فإنَّ الليل لباس وسَكَن، وهذه سُنَّة إلهيَّة كونيَّة لا يمكن الخروجُ عنها؛ ولذلك يفترض أنَّ المجتمع بكلِّ أفراده يلتزم بمعطياتها ويخضَع لها، إلاَّ في الحالات الخاصَّة الضروريَّة.

أمَّا عدم الالتزام بذلك، فهو شذوذٌ له نتائجُ عكسيَّة خطيرة.

التشخيص والأسباب:

وقد ذكر د. الطريقي أنَّ هناك أربعةَ محاور يجب أن تُعرَض عليها مِثل تلك الظاهرة:

الأوَّل: تشخيص الدَّاء:

فالسلوك المتمثِّل في عدمِ الراحة ليلاً وعدم النوم، ثم التجوال في الشوارع أو التجمُّع، هذا بحدِّ ذاته مرَض عُضال، ولا أعتقد أنَّ إنسانًا سوف يخرج إلى الطُّرُقات في الساعة الواحِدة ليلاً -مثلاً- ليجوبَها طولاً وعرضًا!

أو يَذهب إلى الأسواق، أو يمتطي سيارته؛ ليجوبَ الشوارع والحارات وبأصوات مزعِجة! وحتى لو قدَّر الله ووجَد له أمثاله وشارَكوه الهمَّ والسفر، فالكلُّ غير سويٍّ!

ثانيًا: الأسباب: وهي في تَقديري -والقول للدكتور الطريقي- متعدِّدة، منها: الأسباب الذاتية، ومنها الاجتماعيَّة، ومنها أسبابٌ أخرى كذلك.

أمَّا الذاتية، فقدْ يكون الشابُّ فيه نوع مِن التخلف العقلي، كما قد يكون مصابًا بمرَض نَفْسي، وقد تكون عندَه شهوةٌ جامحةٌ كما يُلاحَظُ عندَ بعض المراهقين.

أمَّا الاجتماعية، فتعود إلى المجتمع المحيط بالشاب، فقد لا يجِد راحةً ولا لذةً في البقاء في البيت، بل يراه سجنًا أو جحيمًا لا يُطاق؛ بسببِ سوء المعاملة مِن بعض أقاربه، أو لسوء التربية والتنشِئة.

ومِن الأسباب الأخرى في نظَر الطريقي: أنْ تكون هناك مغرياتٌ تحدوه إلى الخروج، أو وجود رفقةٍ مِن رُفقاء السُّوء، أو البَطالة التي قد تُشجِّع على مِثل هذا السلوك.

الآثار:

ومِن الآثار التي يراها د. عبدالله، والتي قدْ تنقسِم إلى ثلاثة أقسام:

أولها الآثار الدينيَّة:

ومنها السَّهَر إلى أواخِر الليل، ومِن ثَمَّ ما يعقبه من النوم العميق الذي يؤدِّي إلى تأخير صلاة الفجر عن وقتها، ومنها أنَّ ما يحصُل في هذا السوق، من التسكُّع مع رُفقاءِ السوء والبطالة لا يُمكن إلا أن يكون موافقًا لهوَى النفس وإملاء الشيطان مِن معاصٍ وغيرها، كما أنَّ النفس والشيطان يسوِّلان لهذا الإنسان أعمالاً شاذَّة تقوم على المغامَرة والمقامَرة والمخاطَرة.

أمَّا الآثار الاجتماعيَّة، فمنها ما يُسبِّبه هذا التصرُّف مِن إساءة وإحراجات ماديَّة أو أدبيَّة للأُسرة. ومنها:

أنَّ هذا التصرُّف يزعج الناسَ في بيوتهم، سواء كان هذا التصرُّف والسلوك قائمَين على التجمُّعات، أو على التسكُّع جيئةً وذَهابًا، ومنها: أنَّ هذه المظاهِر تعكس صورةً قاتمةً وانطباعات سيِّئة عن المجتمع، ومنها: أنَّ ذلك يُسهِم في وجود البطالة، فإنَّ مَن يسهَر طوال الليل لا بدَّ مِن أن ينام كلَّ نهاره أو أكثره، الأمْر الذي يعوقه عن العمَل وكسْب الرِّزق، أو الدراسة وطلب التحصيل، وغير ذلك من المصالح.

أمَّا الآثار الأمنيَّة، فهي واضحةٌ؛ إذ هي تشكِّل خطورةً على الأمن، ولا سيَّما إذا تكاثرتْ وأصبحتْ عادةً في بعض المدن والقُرى والأحياء والحارات، وربَّما بدأتْ بسيطة، ثم تطوَّرت حتى تُصبح معقدةً، وصارتْ نواةً للجنوح والأخطار.

العلاج مسؤولية من؟

وظاهِرةٌ مثل هذه يكون علاجُها إذا بُودِر إليه، أمَّا إذا تأخَّر فقد يصعب جدًّا، بل قد يتعذر أحيانًا.

والمعالج هنا كالطَّبيب، لا بدَّ أن يكون قلبُه رحيمًا وصلبًا في آنٍ واحد، فالرحمة تدْعو إلى العطف والنصح، والصَّلابة تدعو إلى الأخْذ والجِد، والمسؤول عن العلاج ليس جهةً واحدة، فالأُسرة مسؤولة، وعليها أن تَحرِص على تربية أبنائها تربيةً جيِّدة، ومِن ثم تحافِظ عليهم مِن الانحراف، ولا سيَّما في سنِّ الطفولة والمراهقة، والمدرسة مسؤولة كذلك عن هذا الشابِّ برعايته والعناية به وتوجيهِه وتقويمه.

والمسجد ممثلاً بإمامه عن التربيةِ الإيمانيَّة لشباب الحيِّ وطلائعه، وله دَورُه في الرِّعاية الاجتماعيَّة العامَّة، والتوجيه والنصح.

ورِجال الحِسبة يَنبغي أن يظهر دَورُهم في هذا المجال بالقيام بعمَلِهم ليلاً كما كان مطبقًا في القُرون المفضَّلة، وأخيرًا فرِجال الأمْن مجالهم فسيحٌ هنا، وعليهم أن يَقوموا بهذه الأمانة خيرَ قيام، فيَمنعوا مِن وجود هذه الظاهِرة مطلقًا، ويراقبوا التجمُّعات العادية؛ حتى لا ينحرفَ مسارُها فتتطوَّر إلى مشكلة.
 

 

عبد العزيز بن محمد الجبرين
 

  • 14
  • 0
  • 3,510

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً