فريضة الحج (دراسة مقارنة)

منذ 2013-12-09

الحجّ Hajj في الإسلام هو النُّسُك الأعظم، والعبادة المشتركة، وهو فريضة شاملة للذكر (الصلاة)، والإنفـاق (الزكاة)، والإعراض عن الملذات (الصيام)، وجهاد النفس. إذن هو أجمع النُسُك لوجوه البِرّ، وتحصيل الأجر؛ لما يشتمل عليه من هَجْر الزينة، والتقشّف.


الحجّ Hajj في الإسلام هو النُّسُك الأعظم، والعبادة المشتركة، وهو فريضة شاملة للذكر (الصلاة)، والإنفـاق (الزكاة)، والإعراض عن الملذات (الصيام)، وجهاد النفس. إذن هو أجمع النُسُك لوجوه البِرّ، وتحصيل الأجر؛ لما يشتمل عليه من هَجْر الزينة، والتقشّف.

قَرَن الغزالي بين الحج والتقشف، فقال: "أنعم الله عزّ وجلّ على هذه الأمة بأن جعل الحج رهبانية لهم" (انظر: إحياء علوم الدين. جـ 3. ص 482)، ولزوم التعبُّد والخشوع، ومُلازمة السعي، واحتمال المشاقّ، والصموت للاستماع إلى واعظ الإيمان. ولا شكّ أنّ نُسُك الإسلام لا يُدَانِيهِ أي نُسُك فى الديانات الأخرى (العامري: الإعلام بمناقب الإسلام. ص 150. وقارن: الشهرستانى: الملل والنحل. جـ1. ص 281 – 289. وأيضًا: أرثر كريستنسن: إيران فى عهد الساسانيين. ص 134 – 136 ، 150 – 159). والحج من الشرائع القديمة؛ فقد ورد أن آدم عليه السلام حج وهنأته الملائكة بحجه (حسن أيوب: فقه الحج والعمرة. ص 7. ط 2. 1424هـ / 2004م. دار السلام – القاهرة).

وإذا تعرّضنا لمَفْهومُ الحجِّ في الديانةِ اليهوديةِ، فهو رحلةٌ يؤمها الحاجّ إلى مكانٍ مُقدَّسٍ وأهمُّ أماكنهم المقدّسة: القدس المحتلّة، ويحُجُّ اليهودُ إليها سنويًا في عيدِ الفصحِ، كما يَحُجُّون إلى المكانِ الذى أودعوا فيهِ تابوت العهد، وكذلك إلى قطعةٍ من السورِ القديمِ لهيكلِ سليمان عليه السلام فى الجِهَةِ الغربيّةِ من المَسجدِ الأقصى، ويُسمّونَهُ بالمبكى Wailing وهو محلّ البراق (د. إبراهيم درباس موسى: مفهومُ الحَجِّ في الدِّيانَةِ الهِنْدوسِيَّةِ. ص 316. د. ت. جامعة الأنبار للعلوم الإسلامية).

وقد ورد ذكر المزارات المقدسة لبني إسرائيل المرتبطة بتاريخهم المقدس في كتابهم: "ثم قال الله ليعقوب قم اصعد إلى بيت إيل، وأقم هناك واصنع هناك مذبحًا لله الذي ظهر لك حين هربت من وجه عيسو أخيك" (التكوين 1:35). كما فرضت التوراة على كل يهودى أن يحجّ إلى المعبد المقدّس ثلاث مرات في السنة "ثلاث مرات في السنة يظهر جميع ذكورك أمام السيد الربّ إله إسرائيل" (الخروج 23:34).

والحجّ عند اليهود فرض على الذكور فقط، دون الإناث والقاصرين والعميان والعرجان والمسنين، والمريض في العقل والجسم، وكل شخص عليـه أن يقدم صدقـة [أ. عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات فى الأديان السماويّة. ص 117]. ويستخدم اليهود الآلات الموسيقية المختلفة فيصعودهم إلى أورشليم؛ للتخفيف من متاعبهم بالترنم (المزمور 84: 1-13)، (المزمور 123: 1-4). وإلى جانب الموسيقى ينشد الحجاج اليهود بعض الأناشيد الدينية، كمظهر من مظاهر الحج والزيارة، مثل: نشيد المراقى، وهو عبارة عن عبارات رثائية متساوية السطور في الكلمات (المزامير 120-130).

ويكاد يتفق اليهود جميعًا على أداء فريضة الحجّ إلى بيت المقدس -والحج إلى بيت المقدس يسمى الزيارة- إلا فرقة السامريّين، فهم يتوجهون إلى جبل يُقَال له: غريزيم بين بيت المقدس ونابلس؛ إذ يعتقدون أن يهوه أمر داودَ عليه السلام أن يبني بيت المقدس بجبل نابلس، فتحوّل إلى بيت المقدس، وبنى البيت فيه مخالفًا أمر الرب (الملوك الثانى 23)، (أخبار الأيّام الثاني 35).

كما يحجُّ السامريُّون إلى الهيكل الذى بنوه في جرزيم الذى ظلّ مُنافسًا لهيكل القدس حَوَالَيْ مائتي عام من وقت بنائه إلى أن هدمه رئيس كهان بيت المقدس حنا هيركانوس قبل الميلاد بأكثر من مائة عام، ثم أعاد السامريُّون بناءه حتى هدمه الرومان بعد ثورة السامريين فى القرن الخامس للميلاد (عباس العقاد: موسوعته الإسلامية (توحيد وأنبياء). جـ 1. ص 581. ط1. 1970م. دار الكتاب العربى – بيروت). وقد أعطى اليهود بعض الجبال منزلة خاصة، وأحاطوها بهالة من القُدسيّة والاحترام، باعتبارها أماكن للعبادة، مثل:

- جبل حوريب في طور سيناء، وعليه كلّم الله تعالى موسى عليه السلام وأعطاه الشريعة، كما ورد فى (الخروج 3: 5): "فقال لا تقترب إلى ههنا، اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدّسة".

- جبل الكرمل الذي صعد عليه إيليا وإليشع (الملوك الأول 18: 42)، (الملوك الثانى 4: 25).

- جَبَلَيْ جرزيم وعيبال، ورد فى (التثنية 11: 29): "فاجعلِ البركةَ على جبل جرزيم، واللعنة على جبل عيبال". والمقصود تلاوة الأدعية واللعنات على جبلى جرزيم وعيبال.

وتُحَرِّم اليهودية في الطواف دخول النجس وأشعث الرأس ومُخَرّق الثياب إلى بيت المقدس؛ لذا جُعِل للكهان أجمل زيّ وأحسنه، كما اشترطوا لِمَنْ يؤدي نُسُكَ الحج السلامة من كل نقص أو عَيْب جسدي؛ لأن الفرد عندهم يَعْظمُ بكمال أعضائه، وحسن ثيابه (موسى بن ميمون: دلالة الحائرين. ص 665، 666).

ونَخْلُصُ مِمّا مضى أنّ اليهود قد أدوا فريضة الحجّ بمناهج متغايرة الإطار، وإن اتفقت من ناحية المضمون وهو التعظيم، فعمدوا إلى زيارة الأماكن المرتفعة، كتذكار لذبيحة الربّ، ثم انتقلوا إلى الاهتمام بقبور أوليائهم متأثرين في ذلك بالأقوام الوثنية التي عاصروها (The new encyclopedia Britannica. Vol.8.p.442).

ولم تتطرق الأناجيل لفريضة الحج إلى جهة مُحَدّدَة، كما أنّ عيسى عليه السلام لم يُنَوِّه إلى هذا الواجب الديني، لكنه عند بلوغه سن الاثني عشر يُقَال: إنه ذهب مع أمه إلى أورشليم؛ تنفيذًا لأمر الشريعة اليهودية. ويخبرنا الإنجيل أنّه بعد رفع المسيح عليه السلام إلى السماء بخمس وعشرين عامًا أدّى بولس حج العنصرة (أعمال الرسل 20: 6، 24: 11). وسِجِلّ التاريخ النصراني الأول لم يُشِر من قريب أو بعيد إلى ضرورة زيارة الأماكن التي ارتادها وعاش فيها المسيح عليه السلام (موسى بن ميمون: دلالة الحائرين. ص 122، 195).

والنّصارى ينظرون إلى جسد المسيح على أنه بديل عن هيكل اليهود؛ لذا اقتصروا فى البداية على زيارة ما يمثل رمزه، وهو المكان الذي يمثل مكان صلب المسيح بزعمهم الموجود في كل كنائسهم، فيعتبرون هذا المكان مكانًا مُقدّسًا، ويعتقدون أَنّ جسد المسيح المصلوب بزعمهم يُمَثّل الذبيحة الكاملة للرَّبِّ، والتي تقدّس ذاتها بذاتها (أ. عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات فى الأديان السماويّة. ص 196).

وقد اتّجه النصارى في رحلة الحج إلى قبورِ الصالحينَ، ثمَّ تحوّلوا إلى القدسِ فأخذوا يقصدونَها زَرَافَاتٍ ووُحْدَانًا، واتجهوا كذلك في رحلة الحجّ إلى بيتِ لحم الذى وُلِدَ فيهِ المسيح عليه السلام ويقصدونَ كنيسةَ القيامة، كما أنَّهم يَحُجُّونَ إلى كنيستَيْ بطرس، وبولس في روما، وكذلك كنيسة لورد في فرنسا، ومدينة فاطمة في البرتغال. وتتمّ ممارسة الحج عندهم لدوافع مختلفة، كالحصول على المساعدة الروحية، أو القيام بفعل تكفيريّ للذنوب (د. إبراهيم درباس موسى: مفهومُ الحَجِّ فى الدِّيانَةِ الهِنْدوسِيَّةِ. ص 316. وأيضًا: معجم اللاهوت الكتابى (مترجم عن كتاب بالفرنسية)، لفريق من الباحثين اللاهوتيين. ص 257. ط2. 1970م. بيروت).

وقد بدأ اهتمام النّصارى بالمَزَارَاتِ الدينية، خلال القرون الوسطى، وبالأخصّ منذ عهد قسطنطين سنة 306م؛ إذ شرع النصارى لها طقوسًا يتحتم على روادها القيام بها. كما تم إنشاء ما يساعد الحجاج على أداء هذه الشعيرة الدينية. وكان الحج يبدأ بالحصول على البركات من الكاهن الذي يرتدى ملابس خاصة مميزة لهذه الشعيرة (The new encyclopedia Britannica. Vol.8.p.442).

والحجّ في الإسلامِ يُعَدُّ الركن الخامس، وهو فَرْضٌ مرةً واحدةً في العُمرِ لمَنِ استطاعَ إليهِ سبيلًا، ويكونُ في زمنٍ معلومٍ وأمكنةٍ معلومةٍ؛ امتِثَالًا لأمرِ اللهِ تعالى: {وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]. وهذا يُفَسِّرُ لنا انجذاب الناس لأداءِ هذه الفريضةِ، وكأنَّ قوةً خارجةً عنهم تجذبهم. والمِحْوَرُ النَّمُوذَجِيُّ، والمَرْجِعُ الحقيقىُّ للحَجِّ في تاريخِ الإنسان، هو حَجُّ الأنبياءِ والرسلِ عليهم السلام إلى مكّةَ المكرمة، حيثُ بيت اللهِ الحرام، قالَ تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]. ومِمّا ينبغي التنبيه عليه أنّ الحج في الإسـلام بكل مناسكه مصدره الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون مأمورون أن يأخذوا مناسك الحج عنه، بخلاف الحج اليهودى القائم على الوثنية، وكذلك الحج في بقية الديانات هو اتباع للأهواء، إلى جانب خلو هذه الديانات من المعنى الذى يشتمل عليه الحج في الإسلام (أ. أحمد عبد الغفور عطار: حجة النبى صلى الله عليه السلام. ص 5، 400، 415. ط 1. 1396هـ / 1976م. مطبعة الإحسان – دمشق).

وإذا أخذنا عبادة الحج وحاولنا أن ندرس أبعادها التربويّة فإننا نجدها تستهدف الشخصية الإنسانية وتتعاهدها بالتربية، انطلاقًا من كَوْن الحجّ فرصة للرجوع إلى الله ومراجعة الذات. فالمناسك الواجبة في الحج -بدءًا بالإحرام، فالطواف، ثم السعى، والرجم، وغيرها- تخرج بالمسلم من كل ولاء، أو تَبَعيَّة لغير الله تعالى؛ فيطوف دَاعيًا مُلبِّيًا نداء الفطرة (نداء التوحيد) وهي تريد للإنسان أن يخرج من كبريائه وعلوه، وأن يتواضع لله، ثم للناس الذين تجمعه بهم وَحْدة الخلق ووَحْدة الدين. وتَحُثّه على رَجْم شيطان نفسه، والتبرؤ من كل الشياطين أينما وجدوا وحَلّوا، مِصْدَاقًا لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ} [البقرة:197].

وإذا تطرقنا للحج في الأديان الوضعية نجد أنّ البوذيين يتوجهون لأداءِ مناســكِ الحـجِّ إلى الهــندِ India، والنـيـبـال Nibal، وسـنّ بـوذا فـي كانـدى Candy، وتيان شان Tyan Shan، وفوجـي يامـا Foji Yama، وغيرها من الأماكن المقدّسة. والحج في البوذية يهدف إلى تهذيب النفس وطهارتها. ويدور مِحْورُ العبادات البوذية حول التأمل والتفكر الروحى في حقيقة الوجود (أ. عبد الرزاق محمد أسود: المدخل إلى دراسة المذاهب والأديـان. جـ1. ص 83. د. ت. الدار العربية للموسوعات – بيروت). والبوذيون يعترفون أنَّ طقوس العبادة فى الصلاة والصيام والحج لم يأت بها بوذا، وإنما هي من وضعهم بعد وفاته (أ. عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات فى الأديان السماويّة. ص 41).

أمّا مفهومُ الحجِّ -ويسمى ياترا، أى عبور النهر- فى الديانةِ الهندوسيّةِ فهو شدُّ الرحالِ إلى الهند، متمثِّلًا في أماكنها المقدّسة (دواركا، جكنات بورى، بادركا شرم، راميشور). كذلك يحج الهندوس إلى أحد الأنهار المطهرة، فيغتسلون فيه، مثل: نهرى كنكا، جامنا، وبالذات نهر الكنج Kange، وسرُّ تقديسِهم لنهرِ الكنج، يُعْزَى لكونِهم يعتقدونَ أنَّ أحد الآلهة قد استحمَّ فيها، إضافةً إلى أنَّ البددة (Al-badada اختلفت الآراءُ فى معنى (البد) عندهم؛ فهو شخص في العالم لا يأكل، لا يشرب، لا يولد، لا ينكح، لا يهرم، لا يموت. وأولُ (بد) ظهر فى العالم اسمــه (شــاكمين)، وتفسيرُه السيد الشـريف، ومن وقتِ ظهورِهِ إلى وقتِ الهجرةِ خمسة آلاف سنة. (انظر: الشهـرستــانى: الملل والنحـل. جـ 2. ص 603).


قد أتوهم عند نهر الكنج، وأعطوهم العلوم، وظهروا لهم في أجناسٍ وأشخاصٍ شتّى (د. إبراهيم درباس موسى: مفهومُ الحَجِّ فى الدِّيانَةِ الهِنْدوسِيَّةِ. ص 316. وأيضًا: د. محمد ضياء الرحمن الأعظمى: دراسات فى اليهودية والمسيحية وأديان الهند. ص 606، 607).

والحجُّ عندهم تطوع وفضيلة، وليس مفروضًا عليهم، وهو القصد إلى أحد البلاد المقدّسة لديهم أو أحد أصنامهم المعظمة، أو الأنهار المطهرة، فيغتسلون بها، ويؤدون فروض الطاعة لمعبودهم، ويسبحون له، ويدعون، ويحلقون رءوسهم ولحاهم (البيروني: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذولة. ص 461).

وعلى الهندوسيّ أنْ يتركِ الأهل والأقارب، ولا يتصل بهم مدة حجّهِ أبدًا ولا يفكر فيهم. أمّا ما يَخُصُّ الميقات وهو مسافة كيلومتر من بيته، فعليه أن يتخلّى عن لباسه، فيغتسل ويختار لباس الإحرام، وهو قميصٌ طويل وإزار بلون أصفر، ويأخذ عصا من القصب الهندى، ويعلق عليه نوعًا خاصًا من الآنية للماء، ويخرج مُرتلًا الوِرْد الخاص، وهو (هرى كرشن هرى رام)، ومن الأفضل أن يمشي على قدميه وهو واجبٌ على البرهمي، وتطوعٌ لغيرهِ (د. محمد ضياء الرحمن الأعظمى: دراسات فى اليهودية والمسيحية وأديان الهند. ص 607).

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

ياسر منير

( باحث بالدكتوراه )"مقارنة أديان " - جامعة القاهرة

  • 6
  • 0
  • 22,146

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً